}
عروض

"زهر القطن": الإنسان المختلف وشهوة الوجود

فيصل درّاج

16 يناير 2023


يؤكد العاملون في النقد الروائي أمورًا لا تحتاج إلى تأكيد. يقولون، على سبيل المثال، إن في كل كتابة روائية أبعادًا من سيرة ذاتية، وإن في السيرة الذاتية سردًا روائيًا لا ترضى بالتخفّف منه. وقد يمتد قولهم ويضيفون: كل عمل روائي جدير بالقراءة استتباع لعمل سبق، يوسّعه ويسدّ ثغراته ويزوّده بوضوح جديد، ويتحدّثون عن السلسة الروائية التي تعامل بفلسفة روائية محددة. لا ينسون، إن كانوا حريصين على الموضوعية، المتخيّل الروائي واللغة اللذيْن يصوغان معًا البنية الروائية.
ينتبه قارئ رواية خليل النعيمي الجديدة "زهر القطن" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2022) إلى عملين، على الأقل، من رواياته السابقة: "مديح الهرب"، سردت اغتراب جندي أضجره معيشه، فهرب إلى فضاء أكثر اتساعًا، و"قصّاص الأثر"، المغترب الآخر الذي حاورت خطاه الطريق السائر فوقه ووصلت إلى موت لم يشأه، أو سعت إليه من دون أن تدري.
تسرد "زهر القطن" مسار إنسان فقير نبيه أرهقه المحدود، وتطلّع إلى فضاء بلا حدود. لم يقصد الموت، هذه المرة، بل مضى إلى "أرض السعادة"، إنْ صح القول. الجدير بالذكر، في هذا المقام، أنّ الجرّاح السوري المقيم في باريس رحّالة من نوع فريد، جاب العالم، وأفرغ تجاربه "في أدب الرحلة"، وأنشأ خمسة كتب، إلى الآن، احتفت بـ"مخيلة الأمكنة". لكأنه عاش المحدود في "بادية الشام"، وتمرّد عليه، واختار "قراءة العالم". ولكأنه زهد بمعيش صحراوي لا يعرف المنتمون إليه القراءة، كما جاء في "زهر القطن"، فسار إلى جامعة دمشق، ودرس الطب والفلسفة، وعاين أكثر من مكان، وتابع السير إلى جامعة باريس، فأكمل ما درسه، واختص فيه. لا وئام بين هذا الطبيب الرحّالة ومفرْدة الاختصاص، ففي الأخير عمق وقيد لا يتفقان مع طموح "بدوي قديم"، رغب عن المحدود، ورغب في التعرّف على ما لا حدود له.
قامت الرواية على التذكّر، فلا سيرة إلا بزمن صاغ حكايتها، بذاكرة ترتّب الحكايات وتسبغ عليها معنى، بخبرة أنتجت السارد وعلّمته الكلام. انطوى القول الروائي على سير ثلاثة، مسحت الذاكرة عنها الغبار وتركتها طليقة محمولة على لغة مشتقة من الذاكرة ـ الخبرة. أولها سيرة ثنائية الوجه جمعت بين صبي مفتون بوالده، ووالد وعد ابنه النجيب بتعليمه القراءة والكتابة. سيرة مزجت بينهما، لكأن أحدهما مرآة للآخر، وسارت معهما شوطًا من الزمن حتى انفصلا، ولم ينفصلا، اكتسب الصبي كيانًا، ومايز بين طموحه الواعي وبراءة أبيه، العاقلة المدهشة.



تتلو سيرة الأب الذي سيرى في الابن أبًا له، سيرة المكان: الصحراء في صمتها، الفاتن المشبع بالجوع والحرمان، لكأنها مفارقة، ترضي الروح المأخوذة بهيبة الوجود، وترهق الجسد الذي يقتات بما تجود به الأرض، ملأى بالنور والغبار وبهدوء الأشياء وهمس الحياة في متاهة الرمال المحتشدة بالحياة، ويعقب الصحراء الريف المتبدّي في قراه التي نسيت الزمن ونسيها الزمن، فبادية الشام المتناثرة، ومواقع متتالية تمليها مدارس الابن المتصاعدة، فالمرور في حلب وصولًا إلى دمشق الستينيات التي تكشف خضرتها اليانعة عن صفرة الصحراء، وغوطتها الكريمة عن شظف الريف، وغياب العدل عن الطبيعة. تذكّر السارد قرى مغلقة تشتهي أن تكون مدنًا، ومدارس فقيرة محرومة من المعلمين ومقاعد الجلوس والسقوف المنيعة، وحفظت ذاكرته قفصًا للدجاج افترش فيه "التلميذ المغتبط" أشبارًا من الأرض ونام.
إنْ كان للمكان ذاكرة مستعارة من الفصول الأربعة، فإن للزمن الذي يحايثه سيرة مجزأة فصولها "فتيات يَقْطُفْنَ القطن"، لعيونهن بريق أليف، ولأجسادهن ملمس "زهر القطن"، ولمعان سيارات إقطاعيين يغتصبون خيرات الأرض، ويساوون بين العاملين في الأرض وما تحتها. مرّ السارد على هتافات طلبة متفائلين، وحفظ من الهتاف شعارات وطنية وأسماء أحزاب سياسية تشرق في الصباح، ويعالجها الذبول في الظهيرة. كان ذلك في خمسينيات سورية منقضية.
أخذت الصحراء، قبل غيرها من الأمكنة، ملامح شخصية مكتفية بذاتها، يضيئها القمر في الليالي الباردة، وتضحك ساعات الصباح وترمي بضحكها، ظهرًا، إلى الذئاب والأفاعي والخيام الرثة والخبز الهارب وشظايا الرغبات المستحيلة. اشتق السارد من الفضاء الصحراوي إنسانًا يصارعه وينتزع منه وجودًا صابرًا ومقاتلًا. لا يهلكه الجوع، ولا العطش، ولا الرياح التي تقتلع خيمته المقطّعة.
أشرق خليل النعيمي، فكرًا وأسلوبًا، وهو يصف شخصية "الإنسان الطبيعي" الذي يمتد في الصحراء وتمتد فيه، فهو "ابن الطبيعية"، الذي تصفعه "أمه" وتحنو عليه، وتعلّمه التآلف مع الشوك ومصاولة الشقاء والخروج سالمًا. الطبيعة أصل "الإنسان الصحراوي"، أمّه وحاضنته، وهي أصل أنثاه المرغوبة المكحولة العينين تمشي حافية القدمين ولا تشكو.
نقرأ في الفصل الثاني والستين: "سنوات وهو يمشي وحيدًا تحت أشجار الحور العالية ـ في دمشق ـ ويتكلّم مع نفسه، كما كان يفعل في البادية التي صارت، الآن، بعيدة". تكاد الجملة القصيرة أن تكثّف مقولات الرواية الأساسية: التذكّر والانتقال والبدايات المتجددة، ففي الأول ما يحفظ للإنسان خبرته الشائكة، وفي الثاني ما ينقض الركود الذي تعافه نفسه، وفي الثالثة ما يجسّر العلاقة بين ما كان وما سيكون. فبعد "ابن الطبيعة"، الذي قال مرة "أريد تعلّم القراءة والكتابة في مدرسة"، يأتي "الإنسان المديني"، السائر من البادية إلى دمشق فبيروت وما يتلوها، وبعد خبرة الأمكنة يجيء "الإنسان النوعي" المقدود من تجربة قاسية وإرادة من حديد. انتقل السارد من جمالية الطبيعة المصاحبة بالركود إلى جمالية الإنسان الفاعل المحتفي ببدايات متجددة. لكأنه مزيج من التذكّر والنسيان، ومن التمرّد وحوار الأمكنة المتباينة. مزج الروائي بين طموح المتمرّد والإنسان كما يجب أن يكون، ينسى ما كان ليستذكر "ما سيكون"، ويواجه نهايات الانتقال ببدايات مسير طليق.
نسج خليل النعيمي نصه من صراع المتقابلات المتضادة: الأميّة والقراءة، الجهل والمعرفة، الوالد الذي لا يقرأ والابن الذي يقرأ، "الأخوة كرامازوف" والطبيعي الثقافي، أحادية المكان الصحراوي وتعددية الأماكن المغايرة، الريف والمدينة، الصحراء والبحر، المحدود واللامحدود، الإنسان الذي ربّته الطبيعة والآخر الذي ربّاه نزوعه من المعلوم إلى المجهول... تندرج العلاقات جميعًا في الفرق بين الآسن الراكد، الذي يمحو الفرق بين الآباء والأبناء، والمتحرّك الجديد الذي يدع "الأب" مع زمن أعطي مرة واحدة والابن مع أزمنة لا تكف عن التجدّد.
تُقرأ رواية "زهر القطن" بالفرق بين مأساة الراكد الذي يولد في الرمل ويُدفن فيه، وبطولة الحركة المتجدّدة، تذكر الماضي وتنساه، وتلغي التذكّر والنسيان وتُقيم في زمن حي متواتر لاهث يلغي الحاضر والماضي، ويحتفي ببدايات زمن ثالث، يجدّد ما يتلوه. يعيد هذا الفرق تقويم جماليات الحياة، تبدو جماليات الصحراء "الماضية" ساذجة عمرها نهار ونهارها فقير ومنقوص. ويستقدم جماليات الغامض واللّامعروف واللامتوقّع، التي تنتقل من البصر المقيّد إلى جمال لا محدود، لا يُرى ولا يمكن تعريفه.
أقام النعيمي نصه على جماليات اللغة المتسائلة، تصف وتمتع وتدهش، متكئة على قاموس لغوي باذخ، وتعود لتصادر الدهشة وتؤرّق العقل والروح وبداهات النهار. خالطت النص نبرة فلسفية ساءلت، بإيقاع متوالد، دلالات الحياة والموات والحب والجسد والنسيان والبدايات المقاتلة وما ينتهي ولا ينتهي، على اعتبار أن الإنسان المفرد متعدد، فيه أكثر من إنسان، وأن في عقل الفرد الذي يتحرّك جملة من العقول.




لجأ السارد وهو يصف الصحراء، إلى "كلمات مهجورة"، مشتقة من حياة "الإنسان الصحراوي"، تقوم بتبييئ الحكايات المتعاقبة، إذ عقل الإنسان "البدوي" من لغته، ولغته محصلة للمعيش والمتوارث معًا، ما جعل من "الكلمات المهجورة"، وهي كثيرة، جزءًا داخليًا من جماليات النص المكتوب. اقترحت هذه الجماليات أن تكون "لغة الوصف" قصيرة لجمل متناظرة الإيقاع. يكتفي الوصف البصري بلغة متقشفة محدودة الكلفة، ويتطلب التساؤل العقلاني القريب من المفاهيم، لغة متجددة، متحرّرة من قواعد النحو والصرف، تبرهن أن للفكر المتعدد لغات متعددة، أخذ النعيمي بأسلوب أقرب إلى النشيد في "الفصل التاسع والعشرين" من روايته محاولًا، بكفاءة عالية، لغة "التداعي الحر"، أو "الأسلوب الأتوماتيكي"، ربما، حيث اللغة تبتعد عن السطوح الظاهرية، وتنفذ إلى عوالم الروح القلقة، المرتجفة، التي تنتظر ما لا يمكنها انتظاره. اجتهد بوعي في توليد جماليات اللغة، وهي مميزات كتابته في رواياته جميعًا. أكّد بوضوح أن الأدب عمل "قلق" في اللغة، وأن أفكار الرواية من لغة، لا يسيطر عليها صاحبها تمامًا، بعيدًا عن إنشاء مدرسي تسقط فيه "حكايات" تشبه الرواية.
دَاخَلَ رواية "زهر القطن" تصوّر للبطولة واسع، له موقعه في معيش صحراوي قاس، وفي تحوّلات "صبي بدوي فطين" آمن أن للإنسان أكثر من مولد وموت، وأن الرواية كتابة متناتجة تعتنق مبدأ: التجاوز.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.