}
عروض

"سمكري الهواء.. العليم بكل شيء".. الشعر ومغامرة إصلاح العالم

ليندا نصار

4 سبتمبر 2022


لا يمكن للمتأمّل في تجربة الشاعر سرجون كرم إلا أن يجد نفسه في مواجهة قصيدة تمتاز بدهشة السؤال، حيث يبني الشاعر فيها عالمًا رؤيويًّا ليشعر القارئ وكأنّه أمام نبوءة ولّدت شعرية مفتوحة على إمكانات التأويل. إنّه سمكريّ الهواء الذي يريد إصلاح العالم وإعادته إلى المسار السليم، فيستبدل القسوة بالرحمة، والشر بالخير. وهو الرائي، كما أنّه العليم بكلّ شيء، وهذا العنوان الثاني لديوانه "سمكريّ الهواء، العليم بكلّ شيء" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022) الذي يعدّ في حدّ ذاته صورة الذات الشاعرة الحاضرة في هذا العالم بكلّ ما فيها من ذكاء وحكمة وفلسفة ومعرفة. فهذا الشاعر الذي يتخذ وضعيّات عدّة يقرأ ويراقب، ثمّ يتنبّأ منتقدًا هذا العالم الذي ملأته الشوائب. بعد ذلك، تجده ثائرًا بكل ما عنده من وعي شعري تجلّى في نصوصه، تاركًا لقارئه حريّة التأويل، فاتحًا باب القصيدة على مصراعيه.
في قصيدته "سمكريّ الهواء" يكتب كرم:
"هذه السّاحات الفارغة/ تخطو خطوتين إلى الوراء/ كي أمرّ بعدّة السّمكريّ/ أصلّح الهواء/ أشدّ براغي الحجاب/ وأبدّل السّماء بجرس كنيسة. هذه السّاحات الفارغة تفسح الطّريق/ حين أمرّ إلا من ياقة/ ينمو حولها شجرٌ أبيضُ... كاهنًا عاريًا/ يتربّص بمن غادر/ كي يملأ الفراغ خلفه حكايات".
تحمل الرمزيات التي كتبها الشاعر في قصائده أبعادًا ورؤى لا يمكن أن يؤسّسها إلا من كانت نصوصه نابعة من تعمّق ودراية بالأديان والأساطير، فيتفرّد الشاعر في الكشف عن علاقته بالله، بحيث يعدّه الوحي الذي يمدّه بمفردات عارمة، ويأتمنه على معجم موصد، كما يمنحه الحقّ في تحريرها وإعادة تشكيلها وسط الخيال وشعريّة الأحلام. من هنا تجلّت جماليّات الكتابة، التي أتت على شكل مجازات واستعارات حملت في طيّاتها صور الحياة البشرية والسلوك الإنسانيّ.



في قصائده، أيضًا، قلق ونقمة وثورة تشكّل خيوطًا ناظمة، تربط القصائد ببعضها بعضًا، وتسير على إيقاعات شعرية من بداية الديوان وحتى نهايته، إذ يحاول سرجون كرم تصوير العالم بكل ما فيه من تفاصيل وحقائق، من ثمّ الولوج إلى ممكنات القصيدة ليجعلها في حالة التعبير عن الأسلاف والجيل الصاعد عبر رابط زماني يسير من الماضي إلى الحاضر، فتتّخذ أبعادًا تنحو في اتّجاه استنباط الغيب واستساغة النبوءات، وهو الذي تأثّر بقراءته وفهمه أسفار الأنبياء، فحلّت الرموز التي باتت تطبع الشعر الحديث، وتشكّل وتدًا قويًّا فيه، وسمة من سماته.
يتأمّل الشاعر تفاصيل الوجود وقيمته ليصنع جماليّته من خلال الشعر، كما يرسم سرجون كرم عالمًا شعريًّا مليئًا بالبلاغات التي تؤجّج الطاقة الشعرية، وتدفع بها نحو الخارج، فتأتي على شكل نصوص تمتاز بقوّة المعنى.
تعيش اللغة عنده صراعًا وحروبَ كلمات يختارها الشاعر لتفرض نفسها في نهاية الأمر بحسب ما يحتاجه المعجم النصّيّ، فيكتب على إيقاعات التخييل مضمّنًا خبرته في الاشتغال على اللغة، وجماليّة القصيدة، بعد كتابة تمرّس فيها لسنوات. فاللغة عنده مستوحاة من ملابسات الحياة اليومية، حتى كأنّها تتصل اتّصالًا مباشرًا بالعالم، وتتضمّن التاريخ برموزه وصوره، والأمثلة كثيرة على ذلك. وهنا تبرز براعة الشاعر في الاشتغال على هذه الناحية، حيث الانفتاح على الموروث الكتابي وتخييله في عالم شعريّ خاصّ يحمل الدعوة إلى التجديد.
"ونحن صاعدون برجَ بابل/ يتهامس الناس في ما بينهم:/ سئمنا من نجمة تضيء على الطّريق خلفنا/ فأطفأناها/ وأشعلنا قناديل الزّيت".



هذه الممارسات الإبداعيّة تجعل من الشاعر ثائرًا على عالم مقنّع زائف أدّى إلى خراب الحضارة، وإنسانيّة الإنسان. ومن هنا جاءت رؤيته في نوع من التبصّر بالأمور أوّلًا، ومن ثمّ محاولته التنبيه، وبثّ الحذر في العالم وسط قالب شعريّ متين. وهو على الرغم من هذه الثورة، وقوّة الحروف، ترى حكمته وقناعته في تعريف الحبّ الذي يتّخذ معنى السعادة والحريّة.




"الحبّ يا ماروشكا/ هو أن أحيا سعيدًا.../ أن أتركَ هذا النّهر يجري بمائه وفقَ هواه".
تشكّل قصائد سرجون كرم مرآة تعكس صورة الوطن بمفهومه في القصيدة الحديثة، ويتساءل حول ماهيّته ليتّخذ أبعادًا خارج الحدود الماديّة، إنه الوطن حيث حنين الإنسان إلى بداياته، ولعلّ العودة إليه حتميّة، ولو بعد غربة طويلة. كذلك يصوّر الشاعر في نصوصه صورة المواطن، وحالته الاجتماعيّة، بما فيها من فقر ومعاناة وظلم وتهميش، وفي ذلك دليل على متابعته مجريات الأحداث، لأنه الحاضر روحًا وفكرًا في وطنه، ولو عن بعد، وهذا ما يبدو من خلال قوّة الكلمات وتعبيرها عن الواقع، وتمثّلاتها الواعية واللاواعية في بعض الأحايين.
يكتب الشاعر في قصيدته المعنونة "ثلاثة أناشيد تحت نافذة ماروشكا": "ما هو الوطن يا ماروشكا../ غير حدود الجدران والغرف/ التي تطوّقني: غرفة للحنين/ وغرفة للّعناتِ المكتومةِ في جوارير الذّاكرة/ غرفة للأمان/ وغرفة للأسيد؟".
وفي مكان آخر يكتب: "اللّيلة/ يلفّ الجوعُ حزامَ الأملِ على بطنه في بلادي/ من يتركُ بلادَه يا ماروشكا تتصحّر قدماه/ غير أنّ عينيه تستحيلان بحرًا".
في كتاباته، نرصد وعيًا ومعرفة بالتراث والميثولوجيا، فتتشكّل القصائد بها على شكل بانوراما تنسجها مخيلة الشاعر، بما فيها من طاقة تعبّر عن مساحات تحتوي على مشاهد الذات الإنسانيّة بمواقفها الحياتية وتحرّكاتها ومشاعرها التي تعيشها بما فيها من ألم وقسوة ومعاناة، وبالمقابل نجد الحب والفرح، ولو بعضًا منه، فتتنوّع الصور عنده.
تشغل طفولة الشاعر مساحة مهمة من ديوانه، حيث تمتزج في ذاكرته الحياة اليوميّة مع العادات، خصوصًا تلك التي يقوم بها اللبنانيون في الضيعة، خصوصًا في فترة الأعياد، ومن الأمثلة قصيدة "الدايم"، التي تصوّر "عيد الغطاس" عندما يمرّ السيد المسيح ليلًا ليبارك البيوت في القرى والمدن، بحيث يغتنم الفرصة ليكتب عن رمزية هذه المناسبة، فيدمجها بمشاهد وأمثلة من الكتاب المقدس عند المسيحيين كشجرة التين الملعونة، وغيرها...
"اللّيلة ينهض "الدّايم" من حضن أمّه/ ويمرّ أمام أبواب أهلي/ يطلّ بعينين مغمضتين/ مبتسمًا لخمسة أطفال/ يتقاسمون فراشًا واحدًا/ في الذّاكرة/ يرتدي أسلافي والقدماء في قريتي أبهى ترابِهم/ ويخرجون بعجينهم من قبورهم/ موكبًا إلى شجرة التّين/ ـ تلك الملعونة التي لا تنحني ـ /غير أنّها تحفظ البَرَكَةَ لنا/ طالما تحكّ الأرض ظهرَها بشمسِها".
كذلك تكثر الانزياحات والرموز والدلالات والمعاني التضمينية لتصوير الواقع الإنساني وحركة الإنسان في فضاء يجمعه بالأشياء من حوله، إنّه التعبير عن الإنسان الذي فقد أدنى مستويات الرحمة أحيانًا، هنا نجده يحنّ إلى الطفولة والطبيعة التي شكّلت في ذاته ثورة على الظلم ورحمة للإنسان.




"في هذه السّاحات الفارغة/ بمقدح النّعمة/ أقدحُ جبال الخيبة،/ بمطرقة الرّحمة/ أطرق نحاس الخطيئة،/ بمنشار الموتِ/ أنشر شجر الخوف.../ وطفولتي على حبال الغسيل".
يبقى من الحق أن نقول إن سرجون كرم هو الشاعر الذي صنع نصًّا حديثًا امتاز بخصوصيّة التجربة والكتابة، تمكّن من اجتراح اللحظة الشعرية المغايرة ليبني عالمًا شعريًّا يعبّر فيه عن جرأة في تصوير الإنسان، الزمان والمكان/ الوطن، الحبّ، والشعراء...
"أعود من غابة الشعراء كما دخلتُ/ ذئبًا منفردًا لا يخافُ من شيء يخاف الموتَ/ ألقى نظرة من بعيد وقال: سلامًا".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.