}
عروض

"منديل الماركسي".. تجربة في الخيال الشعبي

وارد بدر السالم

18 فبراير 2022






"منديل الماركسي" آخر إصدارات الروائي العراقي خضير فليح الزيدي (قصص قصيرة، تأويل للنشر والترجمة – بغداد، 2022) وقد لا تكون العنونة جزءًا من نسقية 11 نصًا لم تحفل بالسياسة ومشتقاتها، سوى من عنوانها الجانبي الذي أخذ من حياة أحد الروائيين العراقيين الراحلين مفارقة واقعية أدّت إلى أن تكون نصًا بمواصفات شخصية. لكنها شخصية عامة على أي حال. ومع أن الشخصنة ليست بالضرورة أن تنسجم مع نسقية الكتاب، وبنيته المتراوحة بين التهكم والتظريف والجدية، لكنها تحاول أن تكون في مواجهة الواقع بشكل مباشر وأن لا تكون في منطقة الخيال السردي، كونها تتحرى دفع الواقع إلى الأمام للمزيد من إسقاط الضوء عليه.

سفر الماركسي/ الروائي/ الوجود الحقيقي الشخصي في رحلة ليس فيها من الخيال شيء، سوى أنها رحلة سفر بحثًا عن مدينة وبيت وغرفة نوم وذكريات صغيرة متروكة. وهذا الترحال السردي- الشخصي في ظروف ملتبسة، حاول أن يتسقط مكامن الخيال في الواقع، أو مزاوجته تحت ظروف اجتماعية، فيها من الغرابة والتغريب الشيء الكثير. وبالتالي فإن السياسي- الاسمي في هذه المجموعة، سيبدو بعيدًا عن تشظيات السياسة بشكلها الواضح، سوى أنها تلبّست به، واحتكمت إلى معطياته؛ وهي سلبية بالتأكيد؛ لذا فإن محاورة النصوص عبر هذا المسلك، ستكون مفرغة من المحتوى الآخر، وهو اجتماعي صرف. لكن النصوص بمجملها رصدت حركية السياسة عبر الحرب ونتائجها وكوارثها المنظورة منها وغير المنظورة.

كما كنت لاعبًا لكرة القدم

في مجمل القصص التي حاكت واقع البلاد ما بعد ظروف الحرب، ومسخ الاجتماعي والإنساني منه، أراد الزيدي أن يكون أسلوبه متقاربًا، ونصوصه متجاورة في الهدف، تحت شعار كتبه إدواردو غاليانو (أكتبُ كما كنت لاعبًا لكرة القدم، يمرر الكلمات من فوق شِباك أرضية القصة، لينهي مشوار الشوط بفوز جميل)، وهذا ما تبناه الكاتب على مدار كتابه بنصوصه المتشكلة من واقع مُشخّص وخيال سردي، تحوّل فيه الإنسان إلى قرد وشمبانزي، بطموح أن يكون موازيًا للواقع الفضفاض، من دون أن يخل بشرطه الاجتماعي والنفسي. وهذا يلزمنا قبل كل شيء أن نضع تساؤلًا نقديًا منطقيًا هو: أين يقع الخيال وأين يقع الواقع؟ على اعتبار أنه سؤال إجرائي، أكثر من كونه سؤالًا يبحث عن إجابة، فمنطقتا الخيال والواقع هما الدافعان المباشران للكتابة في الأحيان كلها. لكنهما لا يقعان في خط الشروع الواحد باعتقادنا. فكل خط يتوجه إلى فاصلة متروكة في القراءة، أو مغيّبة. وحتى إن كانت غير هذا وذاك، فإنها تقع في اللامنظور السردي، مما يتيح لنا أن نكون قريبين من تلك الأصداء الشخصية في سرديات الواقع الذي تقع عليه منطقة الخيال.

وبطبيعة الحال فإن مثل تلك المنطقة الحيّة، قابلة لأن تتشكل سرديًا، ليس كما هي، بل مما يريد السرد أن يشكله، ليرتقي بها من الواقع الحي إلى الخيال المجرد. ولما كانت القصة القصيرة ذات محدودية؛ شكلية في الأقل؛ فإن شكلها من الداخل سيكون أوسع من الشكل الخارجي المضغوط، حسب مقتضيات جنسها، لذلك فإن تكثيف الواقع هو إعطاء فرصة للخيال أن يتمدد أكثر من الواقع، مع الاحتفاظ بعناصر الواقع كما هي، من مكان وزمن وأرضية وحدث.





وعلى هذا الأساس ليست بنا حاجة إلى تعريف مفهوم القصة القصيرة. فالتعريف المدرسي، قد يُفقد معنى أن تكون هناك قصة أو رواية أو مسرحية؛ إذ لم تعد التعريفات الكلاسيكية مجدية في اقتفاء الأثر الأدبي، الذي ينص على أن هذه قصة قصيرة أو طويلة أو هي "نص" امتلك شعريته في المرور بين الأجناس الأدبية. وبالتالي سيعود بنا مثل هذا الاستفهام لأن نقول من أنه لم يعد "ميزان الذهب" كافيًا لتعلم الوزن الشعري، ما لم يتم امتصاص ماهية الشعر ولازمنيته، في إرسالياته وشيفراته السرية الناعمة، التي تسندها لغة وصورة ذات دلالات وإشارات معنية، بأن تكون القصيدة واقعة في صورتها ولغتها. ومثلها القصة القصيرة، بإيحاءاتها المكثفة، وطريقتها بأن تقدّم الفني قبل غيره: أن تكون قصيدة مشفّرة باللغة والصورة الوصفية ومزاياها الجمالية الأخرى.

وهذا ليس (وصفة) تندرج في قائمة (ميزان الذهب) العتيق، بل محاولة لتخليص هذا الجنس الأدبي من قيود كثيرة، في الوزن والميزان التعليمي الجاهز، وصولًا لأن تكون الأجناس الأدبية مرتبطة ببعضها في وهج الكتابة الحرة، التي تخرج عن سلسلة جاهزة من التعليمات التي أوحينا بها.


تفعيل الخيال

هذه الإشارات الأولية ليست شارحة، أو معترضة، لكنها تقع في مساحة القراءة الممكنة التي تتوخى معاينة الواقع والخيال في تلاقيهما السردي، مثلما هي استدراجات موضعية لقصص (منديل الماركسي) في محاولتها أن تحتفظ بنكهة شعبية وبيئية في قص الحكاية واختيارها، عبر شخصياتها الشعبية التي واجهت الحرب بضعف واستسلام، لتخرج عن إطار التوصيف السابق، وتلتقي بالمدينة كوحدة سردية كبرى، تتفرع إلى وحدات متوسطة، كالقرية، وصغرى، كالمحلّة. لتصل إلى الزقاق كأصغر الوحدات، في ومضة خاطفة قد لا تكون مهمة أو ربما هي هامشية على الأرجح، لكنها معبّأة بتفصيلات قد لا تكون ظاهرة كليًا إلى المتلقي، لكنها بالتأكيد تفعّل الجانب الخيالي لديه، وتُشركه في إحياء الهامش، وهذه مهمة غير سهلة في قياسات تقديم الشخصيات على هواها، من دون تضخيم الحياة فيها، إلا بقدر الحاجة إلى أن تكون مفعّلة، ولها دور ما في أن تقفز من الهامش إلى المتن.

من الفرافير إلى الماركسية

من قرية الفرافير إلى منديل الماركسي (وهو الروائي الراحل حميد الربيعي) تنسجم وتفترق هذه المجموعة في صياغاتها الأدبية والأسلوبية والحكائية؛ بين السهولة المطلقة أحيانًا، وبين السلاسة المطلوبة في توطين الشخصيات وإيصالها إلى خيال القارئ. وإذا ما كانت الفرافير تنطوي على رمزية، في حياة بسطاء قرية متشاطئة مع دجلة، وما فيها من تظريفات سردية (.. تسارعوا على جمع حشرات الخنافس السود الطائرة في شهر تشرين.. فكانوا يعتقدون أنه "الزبيب"..) و(..كانوا يلتهمون صابون الرقي ..) و(لا يحبون الإصغاء لأحد.. فتعطلت على ألسنتهم اللغة المتداولة..) وهذه التوصيفات التي لا تخلو من ظرافة وواقع حال شعبي قديم، أرادها الكاتب أن تحيط بمجموع النصوص التالية، معنى ضمنيًا، ليس بالضرورة أن يكون موازيًا لتلك القرية المتخيلة، التي تقضي الحرب عليها، إنما لاستمرار الحال، وتوطيد صلة القديم فيه، بما يتشكل من حديث على أنقاض قرية الفرافير، وما آلت اليه، لتكون قصص الكتاب، كما آلت اليه تلك القرية، كما يلمّح الزيدي في قريته الفرافيرية، التي نسجت أسطورة الحياة بأكثر من طريقة، بالرغم من أن الحرب اكتسحتها مع أجيالها.





المسوخ الاجتماعية

أول ما يطالعنا بعد قرية الفرافير (القرد الذي صار موظفًا مثاليًا) كسخرية من الأقدار التي لحقت بالعاصمة بغداد عام 2007 وهو عام شهد فوضى اجتماعية ووظيفية وسياسية واجتماعية وطائفية أيضًا. والرجل الذي تشابَه مع قرد في وظيفته اليومية، هو استجلاء محزن لتحول الفرد، من كينونته الإنسانية، إلى غيرها بفعل الحرب وتشوهات السلطة السياسية؛ ويتماثل هذا النص بشكل أو بآخر بـ "حادث عرضي- قصة مصورة" في واقعية حدثه، وتشخيص شخصيته "حسن بلبل" بالصور الفوتوغرافية المأخوذة من وسائل التواصل الاجتماعي، فإن كانت (القرد) قد مسخت الإنسان العراقي، فإن البلبل حسن قد مسخته الحرب أيضًا، عندما استقر صاروخ إيراني في صدره، وبقي بين الحياة والموت، بعيدًا عن مهنته في تربية البلابل وبيعها. ولتسريع الخيال الاجتماعي في (السيدة طوكيو البغدادية) يتغرب النص إلى امرأة اختلطت جيناتها البيولوجية، فصارت أنثى مشتركة بعراقيتها اليابانية، أو يابانيتها العراقية، لكنها بقيت على سلوكيتها الأدبية في أجواء، هي ليست أجواءها في المحصلة الأخيرة؛ وحتى (الأب الشمبانزي) يعيد لنا صورة المسخ المروّعة بين ابن وأبيه، عندما يتبادلان الحالة الناشزة في الخلق، وما استتبعها من متغيرات نفسية، وقد تكون الظرافة هاجسًا اعتاده الزيدي، لتمرير بعض الأفكار الناقدة التي استولدتها الحرب ومعطياتها السلبية.

بالرغم من عدم واقعية الحدث، إلا أن الخيال الشعبي الذي يستطيع توليد النشازات الاجتماعية بطريقته، يتمكن من تشويه المجتمع ومسخه إلى النهاية. لا من أجل قلْب أنسنته إلى حيونة سلوكية نهائية، بل لمزيد من فتح الذاكرة بما أنتجته الحرب من مسوخ اجتماعية؛ وهذا ما نجده في (الحافية) عندما يخرج الزيدي عن إطاره الفني، ويذهب إلى الغيبي على حساب العلمي، لكن بالمتداول الشعبي، الذي يتقاطع مع منظومة العلم وجمالياته. ومع أننا يمكن أن نستسيغ الشعبي بوصفه الواقعي، لكن من غير الممكن استساغة الغيبي في منظوره المباشر- الخرافي. غير أن التبرر الجاهز في مثل هذا المحاولات التي تؤجّل الجمالي ومعاييره المُلزمة، هو شعبية القص واستسهال الحكي في مأثرة المجتمع الطقسية التي لا يريد مغادرتها، بالرغم ما مر به من مسوخ اجتماعية ونفسية. لتكون مثل هذه القصص الشبحية والدعابات النصيّة في أسطرتها للواقع، وإعلاء مكانة الخيال فيها، حاضرة في اليومي الاجتماعي. لا تغادره كثيرًا. ونستطيع القول ببساطة إن مثل هذه التكوينات القصصية، هي ما سادت في بدايات نشأة القصة القصيرة وحكاياتها الظاهرة والباطنة، كجزء من مشروع الحداثة القصصية التي وصلت إلى اليوم، لكن بطريقة مغايرة، لا تلتفت إلى الشعبي، إلا بمقدار إدهاشه الواقعي مضرّبًا بأسطرته الخيالية التي تساهم في إعادة تركيب الواقعي وخياله الاجتماعي.

بقي أن نشير إلى أن الزيدي نال عددًا من الجوائز الأدبية، وأبرزها جائزة الإبداع لثلاث مرات في الأعوام 2010 2017-- 2021، فيما أصدر عددًا من الروايات والقصص والكتب الأخرى منها: (فاليوم عشرة) و(الملك في بيجامته) و(المدعو صدام حسين فرحان) و(عمتي زهاوي) و(دع القنفذ ينقلب على ظهره) و(خريطة كاسترو) و(فندق كويستيان) و(أطلس عزران البغدادي) و(يوتيوب) و(مملكة الضحك) و(الباب الشرقي).


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.