}
عروض

"الطريقة الشاذلية الغظفية".. تأصيل فقهي لقضايا حول التصوف


صدر حديثًا كتاب جديد بعنوان: "الطريقة الشاذلية الغظفية.. الإرشاد والإمداد والجهاد"، وهو من تأليف مجموعة من الأساتذة الجامعيين المختصين في التاريخ والدراسات الاجتماعية والتراث الشنقيطي الموريتاني الوسيط والحديث.
يقع الكتاب في ستمائة صفحة، وهو من إصدار دارة نجيبويه المعرفية، وتصدرته مقدمة ضافية في تأصيل التصوف بقلم العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، أبرز فيها مكانة التزكية الروحية في الرسالة الإسلامية، مستعرضًا العديد من الإشكالات التي شغلت حيزًا كبيرًا من اهتمام المحققين من علماء الإسلام عبر عصور مختلفة.
كما احتوى الكتاب على مقدمة هامة أخرى بقلم محمد أحمد ولد محمد الأمين، وهو مدير سابق لديوان رئيس الجمهورية في موريتانيا، ووزير الداخلية في موريتانيا، وقد تحدث في مقدمته عن بواعث الاهتمام بكتابة تاريخ الطريقة الغظفية التي شكلت نموذجًا متفردًا في التربية الروحية، والإنتاج والاعتماد على الذات كدحًا وزهدًا.. فكانت صاحبة أدوار متنوعة ليس في موريتانيا وحسب وإنما في المنطقة والعالم.


أولًا: الغظفية ومسارها التاريخي
يرسم الباحثون المؤلفون للكتاب مسارًا تاريخيًا لنشأة الطريقة الغظفية وتطورها التاريخي ومراكزها القيادية في موريتانيا، فقد مرت هذه الطريقة بخمس مراحل على امتداد قرنين، واختار المؤلفون التحقيب التالي لمراحل نشأة وتطور الطريقة الغظفية:
1 ـ الحقبة الأولى: الطريقة.. نشأتها وحاضنتها من خلال سيرة الشيخ المؤسس وأبرز تلامذته.. والشيخ المؤسس هو محمد الأغظف الداودي المتوفى سنة 1218هـ/1803م، ومقر مركزها القيادي في طور النشأة هو الحوض الشرقي. وتميزت هذه البداية بالفتح على الشيخ المؤسس الذي تميز بالعبادة والنسك والتوكل على الله والتحقق بمقامات القوم، وركزت الطريقة في هذه الحقبة على تهذيب الأخلاق، وتزكية الشمائل، وبذل بيان طرق الهداية للسالكين.




2 ـ الحقبة الثانية: حقبة تكانت، الطريقة مشرب نخبوي مضنون به على غير أهله.. وتصدر قيادة الطريقة في هذه الحقبة الشيخ المختار بن الطالب أعمر بن نوح البُصادي. وتميزت الطريقة في هذه الحقبة بالانتشار في أماكن جديدة، غير أن شيخَها واجه إنكارًا من بعض المعترضين، خصوصًا مع ظهور الجذب في أتباعه، غير أن العلماء سلموا له وزكوه حسب ما تشير إليه الروايات التاريخية.
كان الشيخ المختار بن الطالب أعمر بن نوح رحمه الله حيًا سنة 1240هـ/ 1825م، وتوفي في طريقه للحج، ودفن في فزان في الجنوب الليبي، وذلك في حدود سنة 1250هـ/ 1835م.
3 ـ الحقبة الثالثة: استقرار تعاليم الطريقة واتساع دائرة المنتسبين لها.. وقد نقل الشيخ سيد أحمد الكبير بن الناه "بوغفارة" مركز الطريقة من تكانت إلى آدرار، وأسس وجودها في مدينة أوجفت؛ منجزًا انتشارًا في ساحة جديدة.
4 ـ الحقبة الرابعة: عودة الطريقة الغظفية إلى الحوض.. شهدت منطقة الحوض بعد الشيخ محمد الأغظف ـ وكبار مريديه ـ خلوًا شبه مطلق من تعاليم هذه الطريقة وأورادها، فأولاد الشيخ المباشرون لم يدعوا خلافته في هذه الطريقة، أو لم يشتهر عنهم التسليك بها بين الناس، وكذلك شأن الأسر التي كان آباؤها من أكابر مريدي الشيخ محمد الأغظف الآخذين عنه وأصبح الخلف منهم ينتسبون لطرق أخرى كالقادرية، بفرعيها: المختاري، والفاضلي.
وهكذا غابت الطريقة من موطنها الأصلي عقودًا عدة، حتى قيض الله لها الشيخ عالي بن آفة الدليمي، مريد الشيخ محمد محمود الخلف، فساقته العناية الربانية من موطنه في الحوض إلى آدرار؛ حيث تربى على يد شيخه، فقدمه ليكون هو قطب الطريقة في الحوض، الذي مد أيامها ونشر أعلامها بعد أن طواها الزمان، فهو لسانها الناطق بمآثرها وحسانها المنافح عن مفاخرها.
ولد الشيخ عالي حوالي سنة 1281هـ/ 1864م، وتوفي 1324هـ/ 1906م، وأخذ العلم عن جلة من العلماء من أبرزهم الشيخ الشريف مولاي جعفر بن مولاي المهدي النعماوي؛ حيث قرأ عليه الفقه واللغة، كما أخذ عن الشيخ بن حامني الغلاوي ـ في شنقيط ـ فلزمه حتى أجازه بالسبع، ثم زار تشيت وأخذ عن بعض علمائها، كما مارس فيها التدريس مدة. (ص:286).
5 ـ الحقبة الخامسة: الطريقة الغظفية خارج موريتانيا.. أصداء وآثار.. يرتبط أول ذكر للطريقة الغظفية خارج المجال الشنقيطي، ببعض سكان مالي والسنغال في عهد الشيخ الخلف، وذلك نتيجة الاحتكاك بهم عن طريق القوافل التي كان يسيرها الغظفيون بكثرة في إطار أنشطتهم الاقتصادية التي اشتهروا بها من بين الطرق الصوفية الأخرى، كما انتسبت إليها قرى عديدة في منطقة باغنه بمالي في عهد الشيخ عالي بن آفة، وكذلك في بعض مناطق مالي الأخرى، ومنها قرية "طوبه" قرب باماكو.. وهكذا كانت الطريقة الغظفية تنتشر بواسطة مختلف شيوخها ومريديهم.
أما ما ذكر لها في البلدان العربية والأوروبية، فإنه يتصل بهجرة الشيخ محمد الأمين بن زيني القلقمي إلى المشرق سنة 1328هـ/1910م، مرورًا بمالي والنيجر وليبيا، وقد ترك الشيخ في كل من هذه الأقطار مريدين حملوا مشعل الطريقة.. وأشارت المصادر الليبية إلى أن بعض الليبيين أخذوا عنه.. ثم إنه انتقل إلى الأردن سنة 1331هـ/1913م، وهناك دخلت قبائل أردنية عديدة في طريقته، كما كان له مريدون في سورية وفلسطين والحجاز، ثم في معظم مدن تركيا التي انتقل إليها حواليسنة  1338هـ/1920م، ومن بينهم علماء أجلاء، كالشيخ الداعية عبد الحليم الكيلاني (ت: 1388هـ/ 1969م) أحد كبار علماء الأردن في العصر الحديث، والشيخ فلاح الحنيطي شيخ الطريقة الغظفية في الأردن، وغيرهما.


ثانيًا: دور الطريقة في مواجهة الاستعمار
إذا لم يكن للغظفية من دور غير تصفية قائد ومنظر الحملة الاستعمارية في موريتانيا اكزافي كبولاني (12 أيار/ مايو 1905) فذلك يكفيها!.. وتشير روايات تاريخية إلى أن شيخ الطريقة محمد محمود الخلف حث الشريف سيدي ولد مولاي الزين على قتل قائد الحملة الفرنسية؛ نظرًا لما قام به الأخير من قتل وتشريد ونشر للذعر في القرى والبوادي في المناطق التي سيطر عليها منذ توغله في البلاد قادمًا من سينلوي سنة 1903م، غير أن الكتاب الذي بين أيدينا يقدمها طريقة رائدة للفعل المقاوم في العالم الإسلامي، وخصوصًا في ليبيا ومصر والأردن.


ثالثًا: أسس الطريقة الغظفية
تقوم الطريقة على مجموعة من الأسس والمنطلقات لا تختلف كثيرًا عن أسس الطريقة الشاذلية المعروفة، غير أنها تميزت عن كثير من الطرق في موريتانيا بخصائص هامة من أبرزها:
1 ـ الغُظْفُ قادةُ الزاهين: إن مما اختص الله به هذه الطريقة من الخلال والخصال الجميلة خاصية الزهد في الدنيا، والزهد عندهم مقام قلبي لا تكدره الأحوال الظاهرة.




2 ـ الخمول نعمة لدى القوم: تميز الغُظفُ إلى جانب زهدهم الشديد، بالخمول والتواضع، والابتعاد عن الأضواء، والتهرب من الشهرة والظهور، وإخفاء ما اختصوا به بين الخلق من المزية؛ بحثًا عن الصدق والإخلاص لله على حد قول شيخهم ابن عطاء الله السكندري: "ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه"، وقد اتخذوا شعارهم ما نقله المناوي رحمه الله، حيث قال: "والتستر محمود عند معظم ذوي الحقيقة بين أهل الطريقة حتى قالوا الخمول نعمة، وكل تباه والظهور نقمة، وكل الناس تتمناه".
وفي تصوف القوم يقول الشيخ بونا عالي بن مين أٌمٌّ: "والغظف زيهم الصادق عليهم حب الخفاء والخمول وفناء النفس، والبعد عن وساوسها، وعدم شمهم رياح الهوى، وغسل الأرواح بماء الصبر، والمشي في مسلاخ الزهد والقناعة، عملا بالحكمة النبوية: ’ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس تحبك الناس وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل’".
3 ـ الشبهة عندهم كالحرام: من أصولهم الورع بترك الشبهات، وهي الأمور التي لم يظهر كونها حلالًا، أو حرامًا.. قال ميارة: "والمُشْتَبِهُ هو كل ما ليس بواضح الحِلِّيةِ، ولا التحريم؛ مما تنازعته الأدلة، وتجاذبته المعاني والأسباب وفسره بعضهم بما اختُلف فيه".. والأصل فيه حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي (ص):( إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ وبينهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه، ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى الله محارمُه، ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلُحتْ صلُح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدتْ فسد الجسدُ كلُّه ألا وهي القلبُ) (أخرجه البخاري).
4 ـ المحبة روح الطريق: يركز الغظف في منهجهم، على قيمة الحب، كما يقول الغزالي: "هو الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابِعٌ مِن توابعِها؛ كالشوق والأنس والرضا وأخواتها، ولا قَبْل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها".. يقول أحد مريدي الشيخ محمد الأمين بن زين القلقمي، وهو الشيخ محمد تاج الدين الخضيري:
تجردت من أهلي ونفسي وجيرتي/ لأنظر محبوبي بعين البصيرة
فـزادي عـون الله جل ولطفه/ إلى حضرة فيها صفاء السريرة
شربت بكأس الحـب شربا مخمـرًا/ فنلت بذاك الشرب قصدي وغايتي
وغـيبني ربي عـن الخلق كلهــم/ وقــربـني منه وعـظم حــرمـتي
وهذا بفـضـل الله ثم بمــــنـه/ فلــيس بجهــدي وليس بحيـلــتي.

5 ـ تعظيم المسلمين ومسالمتهم: ومن أسس منهج الغظفية تعظيم جميع المسلمين ومسالمتهم، وحسن الظن بهم، والتسامح معهم بالصفح عن زلاتهم والعفو عمن أذاهم؛ بضرب أو أخذ مال أو وقوع في عِرض ونحوِ ذلك.
6 ـ الجد والعمل: من قيمهم التربوية الأساسية، قيمة العمل والإنتاج، وعمران الأرض بالزراعة، والضرب في الأرض للتجارة يبتغون من فضل الله؛ فشيدوا السدود، وعمروا القفار، وحفروا الآبار، وسافروا بين القرى والمدن في الكسب الحلال، فليس منهم ـ ولا معهم ـ المبطلون الذين لا شغل لهم.
7 ـ الاستقامة لا طلب الكرامة: "يقول الشيخ محمد بن عبد القادر في كتابه الزاد المبلغ: "والكرامة المحمودة إنما هي حصول الاستقامة، وكمالها، ومرجعها إلى أمرين: صحة الإيمان، بالله عز وجل، واتباع ما جاء به رسول الله (ص).




8 ـ أصول المعاملة لدى الغظف: لخصها الشيخ محمد الأمين بن زيني في نصيحته: "أركان المعاملة التي إذا اختل منها شيء كان المريد كالجسم الناقص منه عضو، هي: الزهد، والحب في الله، والتعظيم للأخوة الروحية في الطريقة، والتزاور، واجتناب أهل الكبائر.. والمقصود بالأركان هنا أصول المعاملة، التي ينبغي أن يلتزمها المريد في حياته داخل المجموعة المسلمة التي ينتمي إليها".
9 ـ ترك الجدل منهجهم: منهجُ الغظْفِ في التعامل مع الإنكار الإعراضُ عن المنكِر، والصبرُ على أذاه، وعدمُ الاكتراث لدعواه، فلم يكن منهجهم الجدل ولا الانتصار للنفس، مع وفرة العلماء منهم القادرين على النهوض لذلك ـ لَو أرادوا.

خلاصة: يعد كتاب "الطريقة الشاذلية الغظفية" موسوعةً فائقةَ الأهمية؛ لما حواه من معلومات غزيرة موثقة عن المراحل التاريخية لهذه الطريقة.. فضلًا عن تعمقه في كثير من الأحيان في التأصيل الفقهي والشرعي لكثير من القضايا المثارة حول التصوف.... وبذلك يسد الكتاب ثغراتٍ متعددةً في الجوانب التاريخية والفقهية والتأصيلية.


ملتقى في ولاية الحوض الشرقي في موريتانيا يبحث في شؤون الطريقة الشاذلية الغظفية (22/ 6/ 2022)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.