}
قراءات

"حيونة الإنسان".. الجانب المُظلم للجَسد وجُذور "التَّوحُش"

تيسير النجار

16 مايو 2020
تدخُل الكُتب التي تصدُر في عالمِنا العَربي بطبعتِها التَّاسعة برحابة في حيِّز النّدرة، وهذا الكِتاب، "حَيْونة الإنسان" لمُؤلِّفه الكاتِب الشُّمولي مَمْدُوح عدوان الصادر هذا العام عن دار دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، له أهميّة قُصوى واستثنائِية في المَضامِين التّي يطرحُها وتُشكِّل بمُجملها دَلِيلا وخَرِيطة طريق لمعرِفة الجَانِب المُظلم لهَوِية الجَسد!

يُحاوِل هذا الكِتاب الإجَابة على الأسئِلة التالية: كيفَ تَرى الإنسان في داخِلك لا الوَحْش؟ وماذا نقُول حين يكُون العَبث والتَشْويه بالجَسد الإنسانِي الحيّ؟ وحين يكُون الجَسد لإنسان ضَعيف أو أعزَل ومُسالم؟ وماذا نُسَّمي من يضَع إنسانا مُقيدا أو عَاجِزا أمامه ثمَ ينْهَال عليه ضرْبا وتجْرِيحا وتقطيعًا، ليسَ في مُبارزة للفوز، بل في زِنْزانة، حينَ يكُون مُعتقلا وبينَ يدَي مَن نُسَّميه الجلَّاد أو خَبِير التَّعذيب؟
بطبيعَة الحَال مُنفِّذ التَّعذيب، يشعُر بأنَّه يُؤدي خِدمة خاصَّة للسُّلطة التّي يحترمُها أو يخافُها أو يهابُها أو للأيديولوجيا التي يُؤمن بها، بعدَ شحنِه بِفكر مُعين وعواطِف وأحقاد خاصّة. وهذِه السُّلطة، هنا، هي الحُكُومة، أو الحِزب، أو الطَّائفة، أو الجماعة الإثنية.
ما الذِّي يعرفُه الإنسان عن تَعذِيب الجَسد؟.. وما الذّي يُريد أن يَعرفه؟ ومَا فائِدة هذه المَعرفة؟ المسألة باختِصَار تتمثَّلُ بالبُعد الاجتماعِي للتَّعذيب والتِّي يُمكن اختصَارها بكلِمة واحدة "العِبْرة"؛ إذْ يتوجَّب أنْ يكُون المُعذَّب "عِبْرة لِمن يَعتبِر". أيْ أنَّ المطلُوب هُو إرْهاب النَّاس كلَّهم وإجبَارِهِم على أن يقُوموا بأنفسِهم باختِزَال حياتِهم ونوَايَاهم وتطلعَاتِهم غير المرغُوب فيها، لكَي لا يُواجِهٌوا المصِير ذَاته.


وفقَ دِراسة الكاتِب يهدفُ التَّعذيب دَوما، سَيَّان أكَان يُرِيد الانتِقام أمْ انتِزَاع الاعتِرَاف والمعلُومات أَم العقُوبة، إلى تَغيير فِي هَوية المُعذَّب مِن مُتمرِّد إلى خَاضِع على الأقل.
والنَّموذج الأوضَح في هذَا السِّياق هُو جِلد "كوُنتَا كونتِي" لقبُول اسمه الجَديد في "الجُذور" ثمَّ بتْرِ قَدمِه لِكي لا يُفكر فِي الهُرب مِن حَالةِ العُبُودِية والاسْتِرقَاق التِّي يَحيَاهَا.
اشتباكَات مُتعدِّدة يُقدمُها الكاتِب للتَّعذيب مِن مَنظُور السُّلطة، والدِّين، والأدَب عَبر فُصوله العِشرِين وينقُل عَن المُفكر مُحمد عابِد الجَابري قوله: "فكِلا الخِطابين، الدِيني والسِّياسي، يمِيل إلى خلْق هذه الصّيغة اللّغوية ذات العلاَقة الأمْرِية، فالخِطاب الدِّيني، كما يقُول أحدهم، لا يهدِفُ إلى إقناعِنا بَل إلى إخضَاعِنا، وإذَا لَم نَخضع فنحنُ عُصاة، كذلِك وَريثه السِّياسي، إنَّه يمتح من بئر السّلطة المؤسسة على السُّكوت، لا على الحِوار. فكلّ نِظام سُلطوي مؤسِس على بُنيات اجتماعِية وسِياسية ذات معنى واحِد، أيّ أنّها تتحدثُ مِن الأعلَى إلى الأسْفل، ولا تسمحُ بأيِّ حَركة في الاتِّجاه المُعاكِس".




هل يُمكنُ أن يكُون الإنسانُ حَيوانًا؟

ليسَ مِن معنى أَّدَّل لـ"حيْونَة الإنسان" مِمَّا أورَدَه ممدُوح عدوَان في رِوَايتِه الأخيرة " أعدائي" فهُو يقُول:

نتَعوَّد؟..

 تعرف ماذَا تعلّمْنا يا أبِي؟

ذاتَ يومٍ شرحُوا لَنَا في المدْرسة شيئًا عنِ التَّعوُد.

حينَ نشُمُّ رائِحة تضايقِنا فإنَّ جُملتِنا العَصبِية كُلّها تنْتبِه وتُعبِّر عنِ ضيقِها، بعدَ حِين مِن البَقاءِ معَ الرَائحة يَخِّفُ الضَيْق.

 أتعرفُ معْنَى ذَلك؟

مَعنَاه أنَّ هُناك شُعَيْراتٍ حسَّاسَة فِي مجْرَى الشَّم قَد مَاتَت فلَم تَعُدْ تَتحسَّسُ ومِن ثُم لَم تَعُد تَنبِه الجُملة العَصبية.

والأمرُ ذَاته فِي السَّمع، حِينَ تمُّر فِي سُوقِ النَّحاسِين فإنَّ الضَّجة تُثِيرُ أعصَابَكَ.

لوْ أقَمْتَ هُناك لتَعودتَ مثلما يتعود المقيمُون والنَّحاسون أنفسَهم السَّبب نفْسُه: الشُّعيرات الحسَّاسة والأعصَاب الحسَّاسة في الأذْنِ قد ماتَت نحنُ لا نتعوَّد يا أبِي إلّا إذا ماتَ فينَا شَيء.


كيفَ يُمكنُ التّخلُّص من التوَحْش؟
التَّحليل الشُّمولي لمُفرَدة "الحَاكِم" وآلياتِ عبَادته للسُّلطة عبرَ حِقَب الزَّمن المُختلفة تحْضر عبرَ الكِتاب بقُوة كدلاَلة لقُوة "الوَحْش" في دَاخِل الإنسان، وما تَنصِيب الدَّولة نَفسها للدِّفاع عَن الدِّين والشَّريعة والآداب العَامَّة سِوَى وسِيلة للضَّبط الاجتِماعي والسَّيطرة على المُعارضَة السِّياسِية، ووِفق مَا رأي المُفكر د. حسن حنَفِي المُتمثل بأنَّ الدِّين مِثل الشُّرطة والجَيش وأجهِزة الأَمن والمُخابَرات العامَّة أداة يَهدِف استعمَالَهَا إلى تَحقِيق الأمن في رُبُوع البِلاد العَربية.
إنَّ الذي يحدُثُ حِين يفْرِضُ الحَاكِم وأجْهَزَته الأمْنِية حَياة أقْرَب إلى حَياة الحَيوَان علَى بَشرٍ آخرِين، وبمُعامَلَتِهم مُعامَلة الحَيوان فإنَّه يَعملُ علَى الإبْقاء علَى الحَيوان في أعمَاقِهم وحِين تبدرُ مِنْهم بوَادِر احتِجَاج "حَيوانية" لا بُدّ من استنفَار حيوَانِه هو لقَمْع الحَيوان الآخر.. وبالتَّالي مِن المَنْطقي أن تتوالدُ لَدى المَقمُوع حَسبَ رَأْي الكاتِب قنَاعة مفادُها أنَّ هذه الوحْشِية التّي يُعامَل بِها لا يُمكن الرَّد عليها إلا بِوحْشِية مُشابِهة أو أشَّد ضَراوة .
ومن ثمّ تَخسِر البَشرية دَوْما مُحاولتَها للتَّطور.
يَخلُص ممْدُوح عَدوان إلى نَتيجة مَفادُها: "إنّ كلّ سُلوك عُدوانِي وِفق عَالم النَّفس الشَّهير إريك فُورم هو "وحْشية"، لذلِك يسعَى الإنسان جَاهدا مِن خِلال القَوانين والأخلَاق والفلْسفَات والأدْيان والفُنون إلى أن يَخلق بيئات طبيعية واجتماعِية وسِياسية وأخلاَقية لا تُلائم هذا الوَحْش ولَا تُساعُده على البقاء بأملِ الوُصول به إلى الانقراض".
ويشرحُ: "أيّ أن الإنسان يهربُ من الوَحْش الذِي اختبأَ في داخِله. وإنَّ جانِبا مُهمّا من تطوِير الأدوَات هُو سَعي نحوَ تقليل اعتمادِ الإنسان على قِواه العَضلية، في المُواصلات والتخاطُب والعَمل والنظر وجَنيّ المَحاصِيل.. إلخ... وذلِك من أجْل إبعادِه عن جَسده بحيث لا تظَل قيمتَه مُرتبطة بجسَده وعضَلاتِه كالحيَوان (بينَما هُناك إصرار "تاريخي" على تكريس قيمة المَرأة في جسَدِها)، ومِن أجْل توفِير رقيه بصَرف اهتمَامِه إلى موضُوعات أخرى".



نتجولُ عبرَ فصُول الكِتاب ونتعرفُ على المتعلَّقات التِي أنتجت "التَّعذيب والتَّقتيل" في الفصْل الأول "التَّوصيف"، فيمَا نَقرأ في الفَصل الثَّاني عن "وَرْطة الإنسان الأعَزَل"، وعن الدَّوافع التي تدفعُ الإنسان الأوَّل لإيقَاع الأذَى أو التَّشويه في الإنسان الثَّاني بعد تَّحقيق النَّصر وإيقّاع الهَزيمة؟، ويربطُ الفصْل الثّالث ما بينَ الجَلَّاد والحيَوان من صِفات ويوَّضِح ذلك بالتَّوصيف.. ولا بُدَّ من استنفار الوَحْش القَابِع في الأعْمَاق، ويدرسُ في ذَات الفصل ما أطلقَ عليه "فرطُ الغرائِز الحَيوانِية"، ويُعالج الفصْل الخامِس "صِناعة الوَحْش.. صِناعة الإنسان"، ونقرأ مُصطَلح "درامَا التَدْمير" الذّي يبتكرُه ممدُوح عدوان واصِفًا بحث الإنسان عن الإثارَة في الحياة.
فيما يرصدُ عبر الفصْل السَّادس تجارب سجلَّها أُدباء ومُفكَّرُون عن تجَاربهم الشَّخصية والمَعرفِي في السُّجون ويُقدِّمها عدوان تحتَ عُنوان الفَصل: "وِلادَة الوَحْش.. بينَ الجلاَّد والضَّحية" ويُسلِّط الضَّوء على تجَربتي الشَّاعر المغْربِي عبد اللَّطيف اللعبي، والقَاص يُوسف إدريس، وغيرِهما من التَّجارِب المَروية في البُحوث والروايات ليشْرَحَ بذلِك القَمْع المُؤَدِي لتَشوِيه بُنيان المجتمع.
وفي "القَامِع والمَقْمُوع"، الفَصل السَّابِع من الكِتَاب، يَتجِّه عدوان لاستعرَاض نَماذِج عَديدة من الأدبيَات التِّي عَالجت موضُوعة التَّشوه الذِي يُصيب الإنسان بفعل القَمع والتَّعذيب.
يتجِّه الفصل الثَّامن، "مسؤُولية الضَّحايا"، ليُدين الجَلاَّد والضَّحية معًا، فيما تتَّجِه باقِي فصُول الكِتَاب "الجَلَّاد الذّي يَنتقِم من مَاضِيه" و"السَّلبطة"، و"السَّلبطة السُّلطويَة"، و"الأخلاق المقْمُوعَة" و"مُجتَمع المقمُوعِين"، و"أصلُ العُنْف"، و"الدَّولة القَمعية"، و"الدِّين والحكم"، و"الأنثى ـ يوتوبيا"، و"الحَاشِية"، و"قُلتُ للطَّاغية"، و"الديكتَاتُور" لتؤكِّد أن ظَاهرة "الحَيْونة" بُنية موجُودة داخل الثَّقافة العَربية الإسلاَمية والعَالمية ومن خِلالَها يبحثُ عدوان في حضُور السُّؤال الوجُودي "من أنَا" المُتراكم عبر العصُور.

عبرَ الكِتاب نَجِد حَصِيلة مَعرِفية ضَخْمة حولَ الألم، حَصيلة تبدأ بجَلْجَامِشْ مُرورًا بارِيك فُورم وفْرويد والدُّوق دُوريشلُو وكَازَانوفَا والمَركِيز دِي سَاد وإيفُو أدريتشْ والكَواكِبي وغيرِهم، وتنتهي بفقَراتٍ من خطبِ الدِّيكتاتُور الموزُونة لمحمُود دَّروِيش.
"حيْونَة الإنسان" جاءَ في 224 صَفحة من القِطع المُتوسِّط مُحمَّلا بأسئِلة متجِّهَة نَحوَ ما فقَدْنَا من الكَرامَة ومن الإحسَاس بإنسَانِيتِنَا عَربِيا حتى صِرْنا نتَعوَّدُ الإذْلاَل المُحيط بِنا، لَنا، ولِغَيرِنا، من قِبل الأنظمَة المُستبِّدة وحتى صِرْنا نَقبل هَذا العُنف والتَّعامل غير الإنسَاني الذّي نتعامَل نحنُ به أو يُعامل به غَيرنا على مرأى مِنَّا في الحياة.
يحملُ الكِتاب ثَراءً مَعرفيا جمًّا فيما يتصِلُ بعَوالم العُنف والسُّلطة والقَمْع وأصُولِها بطَريقة تمزُجُ ما بين الجَانب الأَدبي والمِيثُولُوجي والنَّفسي والدّيني والسّوسيولُوجي وبعُمق، وإن كان مَمدُوح عدوان معرُوف كشاعر ومُتَرجِم ورِوائي ومَسْرحي وكَاتِب سِينَاريُو فإنَّه في كِتَاب "حَيْونَة الإنسان" يكشفُ عن الجَانب الفلْسَفي والمَوسُوعي، وذلِك من خِلال رَصْدٍ دَقيق ومُفصل لِعَوالم القَمع ولصنَاعة الوَحْشِية في الإنسان، وبالكَشفِ عن إرثِ الحُرية التي تَجعلُنا نَرى الإنسَان في داخِلنَا لا الوَحْش.
خِتَاما: الكِتَاب يقُول لنَا أنَّه متَى تم مُعاملة النَّاس ُمعَاملة الحَيوَان فإنَّه يعملُ على الإبقَاء على الحيَوان في أعمَاقِهم، بَل وتُغذِّيته وتُنَّميته وخَلق الشُّروط الملائِمة له. ويُركِّز الكِتاب في هذَا السِّياق على شَخصيتي كالِيغُولا ونَيْرُون كنَمُوذَجين للحُكم المُطلَق، وليسَ من استدْلَال على ذلك الحُكم المُطلق أبلَغ من القصَّة التَّالية: رَوى الطَّبري عن أبِي بَكر الهذلي أنَّه قال: إنّي لوَاقَف بباب المنصُور إذ خرجَ، فقال رجُل إلى جانبِي: هذا ربّ العِزة، هذا الذّي يُطعِمُنا ويَسقِينا... فلما رجَع الخليفة دَخلتُ عليه فقلتُ له: سمعتُ اليوم عجبًا، وحدثتهُ بحديث الرَّجل، فنكثَ الأرض وقال: يا هذلي، أن يدخِلهم الله النّار في طَاعتِنا أحبُّ إليّ من أن يُدخلَهم الجنَّة بمُعصيتِنا.
يتوجَّبُ علينا بعد الانتِهاء من قراءَة الكِتَاب أن نسأل مع المُؤلّف هل الحَاكم للجَميع أم لنفسه؟! وعلى الأخَصّ أنَّه غير مُختلف عنِ البَشر، وليس فَوقَهم أو من طِينَة غير طينتِهم، بالرغم من أن الإعلام يتجنَّب في العادة ذِكر أيّ شيء يمتُّ بصِلة إلى حياتِه الشَّخصية، فهو بنظر هذا الإعلام لا يجُوع ولا يأكُل، ولا يذهَب إلى المِرحَاض، ولا يحبّ ولا يتَزوج ولا يطلِّق، ولا يمرَض ولا يضْحَك ولا يَبكِي ولا يَرقُص، إنَّه ليس كل هؤلاء، وهو شيء آخر ومِن طِينة أخرى.

  لوحة السجناء لـ«فان غوخ» 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.