}
قراءات

أورهان باموق.. يتذكّر لكنه غير واثق (1)

محمود عبد الغني

6 فبراير 2020
"في الحقيقة كنت أودّ أن أكون كاتباً، ولكنني بعد هذه القصة التي سأخبركم بها أصبحت مهندساً جيولوجيّاً ومقاولاً"- هكذا بدأ الروائي التركي أورهان باموق روايته الجديدة "ذات الشعر الأحمر" (ترجمة: جلال فتاح رفعت). إنها بداية جيّدة لروائي ينوي صناعة شيء جميل. فمنذ البداية يُظهر ذكاءه المدهش أمام قرّائه. لماذا هو ذكي إلى هذه الدرجة؟ ربّما لأنه وضع كلمة "حقيقة" في صدارة سرده. وربّما لأنه قابل بين ما يريده الإنسان لنفسه وما يريده القدَر له. أنا أريد أن أذهب في هذا الاتجاه، لكن الريح دفعتني بقوة نحو الاتجاه المقابل. لكن رغم ذهابي في اتجاه مغاير أنظر إليّ وراقبني كأنني ذهبت في الاتجاه الذي تمنيت الذهاب فيه. إن الروائي حين ينسج قصة كهذه فلهدف بعينه، ليحصل من قارئه على شيء يستحقّه. لكن على القارئ، كي يمنح شيئاً، أن يدرك أن مثل هذه الجمل ليست لبنة مؤقّتة، بل ربّما يُشيَّد عليها كل شيء في مثل رواية أ. باموق المتشعّبة.

يوجد أيضاً، ومنذ الصفحات الأولى، ما يمكن تسميته "التذّكر الواثق". فالسارد يلجأ إلى هذا النوع من التذكّر ليطمئنّ القارئ إلى ذكرياته. ولهذا النوع من التذكّر مزايا كثيرة، في مقدّمتها استعمال جمل قصيرة، عكس الجمل التوضيحية التي نلجأ إليها حين نحكي شيئاً لم يقع ونتوهّم أنه وقع. وهذه من الأمور التي تكون من السمات العامة للنثر على الخصوص، وهي أحد عيوبه، عكس الشعر، الذي يجب أن يكون بناءً طليقاً من الناحية الجُمَلية والإيقاعية والصوتية. ولفهم هذه القضية بشكل أكثر عمقاً وتوسّعاً، كان من الأجدر مقارنة نثر باموق بالنثر التركي عموماً، ثم الانتقال للنظر إلى الأسلوب الخاص بالكاتب، وبالمتطلّبات التي يرومها من أجل خلق نثر خاص ومتفرّد. بل وقد يذهب الطموح أبعد، إلى حدّ الرغبة في الاطلاع على مسودّات رواياته. لقد كانت نتيجة الاطلاع على مسودّات الكُتّاب الوقوف على العجز الرهيب وهم يحاولون تركيب جمل روائية قوية وأساليب فنية جميلة.
يُضاف إلى ذلك مسألة البناء. فبالإضافة إلى أن باموق يحاول بناء جوّ أسلوبي منذ الصفحات الأولى، فإنه أيضاً يقدّ بناء هارمونياً. إنه وهو يحاول تذكّر مهنة والده وأصدقائه الذين يفدون كل يوم إلى صيدليته، ويحلّل العاطفة المتحوّلة التي تربط والده بوالدته، يقرّر الابتعاد عن هذه الأمور "الكبيرة". وهنا ينتقل إلى سردٍ آخر يبيّن فيه كيف أصبح ينوب عن والده في بيع الأدوية للزبائن. ثم ينتقل إلى مسألة اعتقال والده من طرف رجال أمن تابعين للشعبة السياسية. مباشرة بعد التعرّض لهذه الأجواء لا يبدأ القارئ يقرأ سوى من معجم: التعذيب، الاعتقال، التحقيق، العساكر، الشرطة، الاختطاف، الانقلاب العسكري... هلمّ جرّا (بدأ يستعملها باموق منذ الصفحة الثامنة، وهي حاملة لدلالة نفاد صبر الروائي ورغبته في الانتقال بسرعة إلى الأفكار الجوهرية التي يريد بناء روايته على أساسها).

نعثر على الشيء الكثير في روايات باموق. نعثر على الأفكار العميقة في فسحة ثانية واحدة، وخصوصاً تلك الأفكار الموجودة في أركان النفس 

















إن أورهان باموق، بعد هذه التجربة الروائية الطويلة وبعد جائزة نوبل، يكون قد امتلك إحساساً دقيقاً باللغة وبفن الرواية على العموم. إن الذاكرة، من خلال شخصيات "ذات الشعر الأحمر"، بل إن كل ذاكرة كذلك، مليئة بالأوهام والأحلام والتيارات الداخلية التي تثيرها باستمرار، لكن الكلمة في السرد، في المذكرات، في اليوميات، في مجمل الأدب الذاتي، شبيهة بضربات المطرقة التي توقظ كل شيء بضربة واحدة.
إن باموق فعلاً بارع في اختيار تراكيبه التي توقظ كل شيء فينا. لنقرأ: "بعد اختفاء أبي توطّدت أواصر العلاقة بيني وبين أمي". إن الكُتّاب السابقين لهم تأثير كبير عليه، خصوصاً الأوديبيين. إننا نعثر على الشيء الكثير في روايات باموق. نعثر على الأفكار العميقة في فسحة ثانية واحدة، وخصوصاً تلك الأفكار الموجودة في أركان النفس، والتي يتهاوى معها الإنسان أو ينهض. إن الأم والابن يشكّلان فكرة شاملة ملموسة ومجازية في نفس الآن. لنقرأ أيضاً، هذا شيء باموقي خالص: "ذات يوم بعد عودتي من المدرسة قادني شعور داخلي لألقي نظرة على خزانة الملابس في غرفة والديّ، فلاحظت اختفاء ملابس أبي من الدرج، إلا أن زجاجة "عطر التبغ" والكولونيا الخاصة به ما زالتا في محلّهما. لم نكن أنا وأمي نتحدّث عنه قطّ، حتى إن صورته المضبّبة كانت ماضية في طريقها إلى الزوال من مخيّلتي". لنتصور ماذا سيحدث حين يمتزج الـ"شيء الفرويدي" بـ"الشيء الباموقي". إن بناء هذه الفقرة الصغيرة يجعل أشياء كثيرة تتدافع في الذهن. تتدفّق هذه الجمل بقوّة وتدفع الحكاية نحو الاحتدام. ينتقل السارد رفقة والدته إلى بيت آخر يمتلكه زوج خالته. يبدأ في العمل وكسب المال.

ثم يعمل في إحدى المكتبات، ويبدأ في الاستعداد للدخول إلى الجامعة. بعد ذلك يعمل حارساً في بساتين الكرز والخوخ. إن هذه مقدمات لبناء خطاب حول العالم. ومباشرة تبدأ الجمل الدقيقة في الظهور. يشاهد السارد عملية حفر بئر، والأشغال المرافقة له من إخراج التراب من جوف البئر، وإطلاق أعيرة نارية حين يصل عُمّال الحفر إلى الماء. ينطوي هذا السرد على تعامل فريد مع الفضاء، الذي انتقل من مظهر الأفقي إلى العمودي، من الحقل الشاسع إلى البئر السحيقة. لذلك لم يسعَ باموق إلى بناء خطوط عامّة للفكرة فقط، بل أيضاً سعى إلى ربطها بالمفاهيم الأكثر ارتباطاً بها. ربّما تكون هذه التقنية فاتحة لبناء نص متعدّد الأصوات. هكذا يبدأ البوليفونيون في توسيع الفضاء، الزمن، الشخصيات والكلام. وحين تنجح الرواية في المقابلة بينها نستطيع أن نقول إنها ستخطو نحو الأمام، تغادر النطاق الضيّق فنجني نحن شيئاً مفيداً تنتجه لنا المناقشات الخفية والظاهرة. ينضج جهاز تكوين الأفكار وتُطرح أمامنا قاعدة متينة من الحقائق المجهولة. ثم فجأة تظهر إسطنبول. الصبي ذاهب إلى العمل رفقة حفار آبار "الأسطى محمود". إسطنبول حين لم يبلغ عدد نسمتها بعد خمسة عشر مليون مثلما هي حالها الآن، زمن قصّ الحكاية.

إن أورهان باموق، بعد هذه التجربة الروائية الطويلة وبعد جائزة نوبل، يكون قد امتلك إحساساً دقيقاً باللغة وبفن الرواية على العموم


















يتّخذ الكُتّاب البوليفونيون مظاهر كثيرة. ويبدو أنهم أنصتوا جيّداً لنصيحة أسداها لهم ميخائيل باختين منذ قرن تقريباً: اجتنبوا إقحام صوت الذات في جوقة الأصوات الروائية. لأن صوت الذات له نبرة خاصّة، وضمير "أنا" ينبغي استعماله بحذر، لأن "أنا" يقترب من أن يصبح جنساً أدبياً قائم الذات، ولم يعد مجرّد ضمير نحوي.

إن فهم هذا القانون الأدبي من شأنه أن يؤدّي مباشرة إلى فهم نشاط اللغة والأفكار داخل الرواية. إن هذا الارتباط لمدهشٌ بين اللغة والذاكرة، بعد أن اغتنت نظرية الأدب بأحكام الماركسيين حول العلاقة الكبيرة بين اللغة والفكر. وكم نحن اليوم معجبون بتعقيدات الذاكرة. إننا نشهد على أشياء غير مؤكّدة. إن الشيء الذي لم يقع يهدر في دواخلنا. هذا ما تسميه الروائية الإيرلندية آن إنرايت في روايتها "التجمّع" بـ"جريمة الجسد". هذه هي الألفاظ التي لا نريد إلصاقها بأجسادنا. لكننا في غمرة تأمّلاتنا نطلقها ونعتبرها مناسبة لمجرّد أنها أصبحت شيئاً ملموساً. ولا شكّ أننا أحببنا ذلك. وليس باستطاعة النّدم أن يصنع شيئاً له تأثير علينا. فنحن كائنات تتذكّر فتبدأ في نسج القصص، وتصفيف الجمل اللطيفة حول أمور لم تحدث.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.