}
عروض

"زوجة تنين أخضر" لروعة سنبل.. متاهات اللعنة والجمال

ضاهر عيطة

4 فبراير 2020

تنمو أحداث وشخصيات المجموعة القصصية "زوجة تنين أخضر"، لروعة سنبل، الصادرة عن دار "الآن ناشرون وموزعون"، في عوالم تنهشها الحروب والمجاعة والاختناق، ولمعظم شخصياتها ملامح بريئة، حتى نخال كأننا أمام لعبة من ألعاب الطفولة، لكن سرعان ما تباغتنا الأحداث، لنجد أنفسنا أمام مأساة إنسانية.
ففي مطلع المجموعة يحيلنا عنوان قصة "بهدوء يتبع قطته" إلى حدث نعتقد أنه عادي ومألوف، وغالباً ما يتكرر في قصص الأطفال، فثمة طفل رقيق المشاعر، تربطه علاقة مميزة مع قطته. هو يعتمد عليها لئلا يتوه عن بيته إذا ما ابتعد عنه، متبعاً نصيحة والده: القطط لا تتوه عن مكان سكنها، فاتبع طريقها لو تهت عنه. لكن الصدمة تكون على أشدها حينما يلتهم هذا الطفل لحم قطته، حيث تضطر الأم، ونتيجة لحصار الجوع المفروض عليهم، أن تعد لأسرتها وجبة يكون لحمها طعامهم. وطالما أن الطفل يتبع آثار قطته أينما ذهبت، حسب نصيحة الأب، لا يبقى أمامه، بعد اكتشافه أنه أكل من لحم قطته، إلا أن يمضي خلفها إلى الموت.
على هذا النحو، تباغتنا روعة سنبل في معظم قصصها، فعبر لغة شاعرية، وشخصيات تتحرك وسط متاهات شفافة، تسوقنا إلى الاسترخاء والاطمئنان، ثم بغتة تكيل لنا صفعات مدوية، نكتشف معها كم أن التفاصيل الصغيرة التي اعتدناها ما هي إلا أحداث مريبة تنخر عظام حياتنا، وربما لهذا توظف روعة سنبل عدة رواة، حتى وهي ترصد حدثاً صغيراً، لوضعه في بؤرة الضوء، والنظر إليه من عدة زوايا، فكثيراً ما راح أبطال قصصها يروون حكايتهم الشخصية. وفي لحظة ما، يحل راو ثان، ليروي ما فات صاحب الحكاية، أو الحدث، أن

يرويه.
في قصة "مطر في طقس لاهب"، يتم تشريح الأثار النفسية والجسدية التي يتركها القمع الفكري في أعماق الإنسان، وقد تحول إلى مرض خطير يسوق ضحاياه إلى الموت، أو الانتحار، كحال ما يجري الآن في المدن والشوارع السورية. فالرجل المصاب بداء "القمع، أو كبت الأفكار"، يراجع طبيبه ليخلصه من آلامه، سيما أن تناوله للأدوية لم يعد يجدي نفعاً. وكتعبير عن يأس الطبيب من شفاء مريضه، يقدم له فنجاناً من القهوة، على الرغم من أن شرب القهوة يعد من أكثر المحظورات لمريض مثله، لكن الطبيب، وتعاطفاً مع مريضه، يمنحه فرصة التمتع بالحياة، ولو للحظة، قبل أن يهلكه المرض، وحينما يشير المريض إلى طبيبه عن رغبته بتقيؤ ما في أعماقه داخل المجاري الصحية، عساه يستريح من معاناته، يرتعد الطبيب، ويحذره من فعل ذلك، خشية العثور على ما سوف يتقيؤه، فيكتشفون مكانه وينالون منه. وهكذا يستفحل المرض، إلى أن نلمح الرجل المريض في إحدى الصباحات وهو يحلق عالياً في سماء المدينة، باصقاً كل ما في أعماقه، كحمم تخرج عن بركان يتصدع، فتتساقط أفكاره وأحلامه على شكل حروف وصور وكلمات، لتنتشي بها الساحات والأبنية والحقول، كما لو أنها أمطار، بينما غدا صاحبها خفيفاً رشيقاً، وهو يحلق نحو الأعلى، حيث خلاصه الأبدي، ولتكتمل دائرة هلاك وانسحاق الإنسان، تأتي قصة "حكاية رجل سعيد" لترصد حياة رجل مرمي وسط عالم يعج بالدمار والفساد، وما من نجاة منه إلا بالجنون، أو بتعاطي المخدرات. البطل يعمل بصفة آذن في مدرسة، وقبل أن يفجع بهلاك أفراد أسرته، يخط رسالة إلى الجهات المعنية، يناشدهم فيها منحه جرعة من الحشيش لتستقيم أحواله، ويظل لأيام عديدة في حالة ترقب للرد على رسالته، وبينما كان عائداً من الفرن، حاملاً الخبز إلى أطفاله، تسقط قذيفة، أو صاروخ، على بيته، فتحيل زوجته وأطفاله الثلاث إلى أشلاء. في هذا التوقيت، يتم تزويده بالحشيش، فيعير ظهره لأشلاء أفراد أسرته، ليستغرق في ملكوت "التحشيش".
وفي قصة "الجدائل"، تسمع أصوات القذائف والصواريخ من بعيد، والمسافة الفاصلة بينها وبين فسحة الأمان، تحددها أفعال مازوشية تؤديها امرأة مصابة بـ"متلازمة الجديلة"، وهي توغل في تعذيب ذاتها، كمحاولة منها لأبعاد شبح الحرب عنها، وكلما اقتربت تلك الأصوات

منها أكثر، تمزقت واغتربت عن ذاتها، إلى أن تنشطر إلى امرأتين، فتقص إحداهما جدائل شعر الأخرى لتطوق بها عنقها، ثم تعينها على صعود الكرسي لتدفع به بعيداً، وتتركها معلقة في الفراغ.
هكذا ترسم روعة سنبل شخصيات مجموعتها القصصية، بمخيلة مغرقة بالشاعرية والمأساوية، بطلاتها نساء عاديات يسكن في بيوت نألفها، ولديهن أطفال وأزواج كمعظم النساء، لكنهن هنا، يغتربن عن العالم الواقعي، ويعشن في عالم مواز محاك من خيوط الخيال، وإن عشن في عالم الواقع، فإنهن يرين فيه ما لم نعتد على رؤيته من قبل.
في قصة "طمث أخضر" تتماهى الأنثى مع الطبيعة، وتنشأ بينهما علاقة حميمية، لا يدرك كنهها سوى العصافير، حيث تروي العصفورة الرمادية حكاية امرأة تحولت إلى شجرة كرز توقاً منها إلى الشمس والحرية، وقد غدا طمثها الشهري حبات كرز. وها هي بطلة قصة "زوجة تنين أخضر" تغرم بمخلوق أسطوري، حين تكتشف فيه عاشقاً مميزاً تبعث أنفاسه في روحها وهج الشمس، وقطع الغيم، حتى أن هذا التنين يبدو مثل أي كائن بشرية، وهو يأكل طبق "الملوخية"، ويشارك حبيبته شرب القهوة. وإن كان لديه ثلاثة أنوف وأفواه، وست عيون، ويترك خلفه خيط دبق كلما سار في أرجاء البيت، يبقى بالنسبة لها مخلوقاً أنسب للعشق، من رجل يمسح الدماء عن نصل سيفه كل مساء.
وفي قصة "بعيداً عن هذا البلد"، ترسم روعة صورة طفل رضيع محاط بأجواء الحرب والدمار، وقد كبلت حركته بالقماط، والنساء يتلهين به ليطردن أصوات الحرب عن أسماعهن،  فتطبق مداعباتهن على أنفاسه، وكلما همّ بالتعبير لهن عن أوجاعه ومعاناته، لا يفلح، فلا يجيد إلا البكاء، والنساء لا يفقهن آلامه، وهن المكتويات بلعنة هذا البلد الذي لا تنقطع فيه أصوات

القذائف والصواريخ، التي تخطف الطفل الرضيع من نومه كلما غفا، فلا يجد أخيراً إلا أن يرحل رويداً رويداً عن هذا العالم، ومثله، وإن بأسلوب مغاير.
تغترب المرأة عن العالم في قصة "دلو في رأسي" حين تحجب وجودها عنه، واضعة رأسها داخل دلاء، عساه تريح عقلها من منغصات العيش، فتتحول المشهدية إلى ملهاة مأساوية نستغرق معها ضحكاً إلى حد البكاء، فهي تختار الوهم، كبديل عن الواقع، لتتحسس وجودها.
ويتضاعف هول المخيلة المأساوية والسحرية في "قصة ملح وماء"، حين تهجر الأم سطح الأرض، لتعمل في أعماق البحر، فيصير لها ذيل سمكة، وما كان اختيارها العمل هناك إلا بقصد الحصول على مرتب شهري يؤمن لها ولطفلتها تكاليف السفر، بعد أن فشلت محاولتهم الأولى عقب غرق الأب. وفي أعماق البحر، تشاهد الأم الكثير من الغرقى، فتحاول إنقاذهم، ومن لم تستطع إنقاذه، تحفر له قبراً هناك، وتضع عليه شاهدة. وبعد مضي عام على عملها في أعماق البحر، تكون الحرب قد خطفت طفلتها، فيتلاشى أمل رجوعها إلى حياة الأرض، لتمضي بقية عمرها وسط المياه، بعد أن يكون قد صار لها أصدقاء ومعارف في هذا الوطن الجديد، وكأن حال الغرقى في البحر لا يختلف عن حال الغرقى وسط طاعون الموت الذي يتفشى على الأراضي السورية.
وتأتي قصة "ترحلين عنكِ" لتكشف النقاب عن فداحة المعاناة التي تكابدها المرأة في ظل أجواء الحرب، فثمة عين تراقب عن كثب، كيف يتهاوى جسد البطلة قطعة بعد قطعة في عالم يسكنه اللامنطق واللامعقول، ومع اقتحام الجنود للحياة الأليفة، وتشويههم لكل ما هو جميل، كما في قصة "يا جدي"، التي تفرد فيها روعة سنبل مساحة تأملية لخارطة دمشق، يوم كانت تنعم بالحسن والجمال والأمان، وتفوح من جدران بيوتها وعتباتها رائحة الجد والجدة. وما إن يتسلل إليها الجنود، ببنادقهم وصليل رصاصهم، حتى تتبخر تلك الذكريات، وتتلاشى معها قيم الحب والجمال.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.