}
قراءات

النكبة والشتات الفلسطيني في الكويت.. دور العائلة ودينامياتها الوظيفية

حسام أبو حامد

15 فبراير 2020
لا تزال تجربتي اللجوء والشتات الفلسطينيين بحاجة إلى مزيد من الأبحاث، تتناول عوامل نشوئهما وتماسكهما واستمرارهما، وأيضا عوامل تفككهما، والتي برزت في العقدين الأخيرين ما بين القرنين العشرين والحادي والعشرين، وركّزت دراسات عديدة بدأت في سبعينيات القرن العشرين في نزعتها الإجمالية على الفلسطينيين تحت الاحتلال، وعلى منظمة التحرير الفلسطينية.

في هذا السياق، يأتي الجهد البحثي لشفيق الغبرا، في كتابه "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت" (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2018) متناولا الشتات الفلسطيني الذي ظل بعيدا عن مناطق الصراع المباشر للاجئين الفلسطينيين، وكان الإطار الأهم للتفاعل والبناء الاقتصادي والوعي. وتحوّل في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وفي ظل نشوء طبقة وسطى فلسطينية منتجة في الخليج عموما والكويت خصوصا، إلى حاضنة رئيسية للملمة جراح النكبة وبناء الهوية الوطنية الفلسطينية، مستمرا في تقديم العمق والمكانة الاقتصادية والثقافية الإنسانية للحركة الفلسطينية حتى عام 1990.
هذه التجربة، في نظره، لا تزال تجربة حديثة، ومستمرة وجوديا بحكم استمرار السعي الإسرائيلي الصهيوني لتقليص رقعة الأرض الفلسطينية.
الكتاب في الأصل هو أطروحة دكتوراه تقدم بها الباحث لجامعة تكساس في أوستن، وصدرت في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان:

 Palestinians in Kuwait: The Family and the Politics of Survival, (Westview Press: 1987)

وفي عام 1988 صنفت «تشويس» في الولايات المتحدة الأميركية الكتاب بوصفه «الكتاب الأكاديمي المتميز».

 كتاب "النكبة والشتات الفلسطيني في الكويت" ليس مجرد دراسة حالة للشتات الفلسطيني في الكويت بل يحوز قيمة سياسية


















إشكالية البحث ومنهجيته
لسد ثغرة في الكتابات عن الموضوع، وعبر دراسة حالة الفلسطينيين في الكويت، يتقصى الكتاب الآليات والوسائل التي مكّنت الفلسطينيين، على الرغم من تشتتهم، من إعادة التنظيم والبروز من جديد.
استند الباحث إلى عمل ميداني بدأ في العام 1984، وتعمق خلال العام 1985، تم خلاله إجراء 110 مقابلات مفتوحة ومتكررة لأشخاص متنوعين، بما في ذلك عينة تمثيلية من الرواد الأوائل والمؤسسين والمثقفين المتعلمين الذين كانوا من أوائل الوافدين إلى الكويت. هدفت هذه المقابلات إلى توثيق الأنماط الأولية لاستراتيجيات البقاء التي انتهجتها هذه الشريحة من الفلسطينيين. ويؤكد الغبرا على فائدة الأسلوب التراكمي في جمع البيانات، إلى جانب التأكيد الجماعي لها، في فهم حوادث غير موثقة، وتوثيقها، وتاريخ غير مكتوب ذي طابع شفهي، والذي يمكّن من فهم جانب مهم وغير موثق من جوانب الشتات الفلسطيني وممراته المعقدة، ومن تقصّ معمق لاستراتيجيات البقاء والتكيف التي يستخدمها شعب هجّر عن طنه.
وعبر إلقاء نظرة عن كثب على الفلسطينيين الذين هجروا في حربي 1948 و1967 تتكشف للباحث مجموعة كاملة من تكتيكات واستراتيجيات التأقلم، أتاحت للفلسطينيين الحفاظ على الروابط الصغرى في مجتمعهم. تمحورت هذه المنهجية الاجتماعية والسياسية، للبقاء والتأقلم، حول دور الروابط على مستوى العائلة بالتحديد، وعلى مستوى علاقات القرية والبلدة في الحفاظ على النسيج الاجتماعي الفلسطيني وإعادة بنائه وصوغه في بلدان جديدة، والتي لولاها لبقي المجتمع الفلسطيني مفككا بالكامل، وربما غرق في البيئة العربية المحيطة. ففي مواجهة الأزمة كانت العائلة متغيرة ومستقلة وتابعة في الوقت نفسه؛ فاستوعبت التغيير، وتأقلمت معه، وأنشأت استراتيجيات خاصة بها للصمود والبقاء، فكانت هيئة ناشطة، وعاملا مستقلا يستوعب التغييرات الناتجة من الأحوال الاقتصادية الاجتماعية، فيما يؤثر في تلك التغييرات، وتحلت بالدينامية المناسبة في تعاملها مع الأزمات.
والكتاب ليس مجرد دراسة حالة للشتات الفلسطيني في الكويت، بل يحوز قيمة سياسية، ويرتبط بعلم أوسع عن الشعوب المهجرة والمقتلعة، وبطبيعة الحال بالمسألة الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي بأبعاده الوجودية والإنسانية كلها، ليكون إضافة مفيدة إلى الكتابات عن استراتيجيات التأقلم، والمجموعات النازحة، وقضايا اللاجئين وشعوب الشتات. فمن خلال تجربة الشتات الفلسطينية، خصوصا الذين وفدوا إلى الكويت في الأعوام الأولى التي تلت النكبة، نستطيع فهم التعرجات المعقدة التي أدت إلى إعادة بناء اللحمة الاجتماعية والإنسانية للفلسطينيين، فالتجربة واحدة، وإن تنوعت معالمها وتفصيلاتها.


من اللجوء الى الشتات
يذهب الباحث إلى أن الكويت شكلت ساحة لتحويل اللجوء والمنفى من حالة موقتة إلى شتات طويل الأمد. ويبيّن أن المنفى واللجوء هما انتقال قسري له صفة الموقت، في حين أن الشتات تأقلم طويل مع بيئة جديدة، من دون فصم عرى الحنين بأشكال مختلفة مع البيئة القديمة التي دمّرتها حالة استثنائية قسرية. وعكس الشتات طول أمد حالة اللجوء والسعي للتأقلم الطويل مع النكبة في مناطق بعيدة عن بلدان اللجوء الأوّل. لقد نشأ الشتات الفلسطيني الأول فيّ الكويت بسبب توافر التربة التي أمنت الأساس الاقتصادي والاجتماعي لنشوء شتات يمثل فئات الشعب الفلسطيني كلها.
ويمكن لي أن استخلص مع الباحث بعض الملاحظات حول الشتات الفلسطيني في الكويت تكتسب أهمية على صعيدي اختيار الحالة، ومنهجية البحث:
أولا: مثلت الجالية الفلسطينية في الكويت المجتمع الفلسطيني الأصلي بكامله؛ فقد انحدر هؤلاء من أنحاء فلسطين المختلفة، وطبقاتها الاجتماعية وخلفياتها الدينية المتنوعة، ومن العائلات في الأرياف والمدن. فما حدث لم يكن نزوحا فلسطينيا من الأرياف إلى المدن، بل هو نزوح جماعي أدى إلى اقتلاع أبناء المدن والأرياف على حد سواء من جذورهم.
ثانيا: وصل عدد الفلسطينيين في الكويت العام 1987 إلى حوالي 380.000 نسمة وكانوا حتى العام 1990 ثالث أكبر جالية فلسطينية في بلدان الشتات من أصل إجمالي عدد السكان الكويتيين، وغير الكويتيين، البالغ حينها 1.7 مليون نسمة.
ثالثا: وبينما تكون أنماط الهجرة التقليدية عادة من المناطق الأقل تقدما إلى المناطق الأكثر تقدما، فإن فلسطينيي الكويت تركوا هيكلية اقتصادية واجتماعية أكثر تطورا، واتجهوا نحو أخرى أقل تطورا، ما طبع منذ البداية دورهم في الاقتصاد والعملية الإنمائية.
رابعا: لم يأت الفلسطينيون إلى الكويت على الفور كلاجئين بعد النكبة، كما حصل في دول الطوق، بل قصدوا الكويت والخليج خلال الخمسينيات والستينيات، فشكلوا مصدرا مهما للعمالة الأجنبية.
خامسا: مثلت الهجرة إلى الكويت قرارا اتخذه الفلسطينيون الأفراد، لتكون الكويت في الإطار التاريخي، المكان الأول للشتات الفلسطيني، وإعادة لمّ شمل الطبقة الوسطى ونشوئها ما بعد النكبة، وموقع ارتكاز لتطور هذا الشتات في أجواء من الحرية والدفء الوطني القومي، مما سيقدم للفلسطينيين كشعب ما لا تستطيع أن تقدمه أي دولة ومجتمع آخر في تلك الحقبة الحساسة والصعبة من خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
طال انتظار العودة، وكبر الشتات الفلسطيني. وفي سبيل البقاء، كان الفلسطينيون بحاجة لإيجاد وظائف. ولما شحت فرص العمل في بلدان اللجوء الأولى، بحث اللاجئون عن عمل في منطقة الخليج؛ في بعض الحالات في العراق، وفي الكويت بصورة خاصة، التي كانت تشهد نموا وتطورا هو الأول من نوعه، بعد اكتشاف النفط وسياسات التنمية الأولى. وهناك، طورت النخبة المثقّفة التي وصلت إليها من الفلسطينيين استجابات مكّنتهم من التكيف مع البيئة الجديدة، وأرست أسس مجتمع الصمود الفلسطيني الجديد.
بعد حصولهم على وظائف، وفرت لهم دخولا ثابتة، وأمّنت الدعم الاقتصادي لعائلاتهم وإخوتهم اللاجئين، تمكّن الفلسطينيون من فرض أنفسهم في سوق العمل، وبرز التعليم عاملا مرتبطا بمتطلبات البقاء الأساسية. أما الاستجابة المحورية، برأي الغبرا، فكانت لمّ شمل العائلة والأقرباء لمعالجة الانفصال الجغرافي لأفراد العائلة، إذ كانت المسؤوليات العائلية هي الدافع إلى قرار التوجه إلى الكويت.

اقتنع الفلسطينيون في الكويت أنهم إذا لم ينخرطوا بفاعلية في رسم مستقبلهم السياسي، فسيبقون بلا حقوق وخارج دائرة الإنسانية مطولا 


















تقاليد العائلة الفلسطينية
توقعت أبحاث سقوط العائلة في العالم الثالث، إلى جانب الروابط الدينية والأولية. لكن، وكما يذهب الغبرا، فقد بيّنت الأدلة أن العائلة تكيّفت وتغيّرت وتماسكت لحماية نفسها من التغييرات التي أحدثتها الثورة الصناعية. ويمضي، فيرسم أبرز خطوط التقاليد العائلية الفلسطينية، في مجتمع فلسطيني يمنح الأولوية للروابط الشخصية وغير الرسمية، مقدما إياها على الروابط الرسمية.
كانت الوحدة العائلية الأكثر وظيفية قبل عام 1948 هي العائلةّ الأبوية الموسّعة، تأتي بعدها في الأهمية الوحدة العائلية الأكبر التي كانت تتألف من العديد من الأسر الموسعة التي تجمعها قرابة لجهة الأب، وتحمل الشهرة نفسها. وفي حالات كثيرة، كانت الوحدة العائلية بكاملها، والتي قد تتراوح بين عشرات الأشخاص ومئات عدة، ترتبط بوحدة أكبر وأكثر تمايزا عرفت بـ«الحمولة» الممتدة عبر مجموعة من القرى والبلدات، ويعتقد أعضاؤها أن لديهم سلفا بيولوجيا مشتركا.
أدّت كل دائرة من الدوائر العائلية وظائفها مداورة، وشملت التعليم (ذاع مثلا صيت منازل عائلية كثيرة في الخليل وطولكرم والقدس بعدما أصبحت مراكز للتعلم، خرّجت هذه المنازل، في جيل واحد، العديد من الأشخاص المتنورين)، والتعليم المهني والحرفي (اشتهرت عائلات أخرى بمهاراتها التجارية أو الحرفية)، كما لعبت العائلة دورا اقتصاديا مهما (احتكرت عائلات قطاعات اقتصادية قام عليها اقتصاد القرية، وكانت المحاصصة العائلية في العمل واضحة في الوظائف التابعة لحكومة الانتداب في فلسطين).
ورغم تحضّر سريع للمدن الفلسطينية، عقب الحرب العالمية الأولى، ظلّت الروابط العائلية سمة طاغية في الحياة المدينية والقروية الفلسطينية حتى عام 1948، واستمرت رغم وتيرة التحولات في خمسينيات القرن التاسع عشر، مع بروز أوّل منظومة اعتماد متبادل بين القرية والمدينة لمصلحة الأخيرة، ولم يكن ممكنا فصل عملية التنمية الاقتصادية والمأسسة والقيادة وبناء الأحزاب السياسية عن العائلة، والتحالفات العائلية، فكانت قيادة الحركة الوطنية، قبل العام 1948، تعود تقليديا لعائلات بعينها (آل الحسيني وآل النشاشيبي)، كما تدل القيادة العائلية لمعظم أحزاب الحركة الوطنية على دور العائلة المركزي. بحث الفلسطينيون في القرية والمدينة، لمواجهة الانتداب البريطاني، عن الحماية في العائلة كوحدة سياسية واقتصادية اجتماعية، التي وجدوها جاهزة لتأدية هذا الدور.


سياسة التماسك العائلي
 عشية النكبة، كانت للفلسطينيين مجموعة متنوعة من المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي كانت تتطور بوتيرة سريعةً جدا، لكن تلك المؤسسات أبيدت عن بكرة أبيها، باستثناءات قليلة، مع نكبة 1948. فكان على من لا دولة لهم، وعبر العائلة، إعادة بناء روابط التضامن الاجتماعية، ليستمروا كمجموعة، في مواجهة التشتت والتجزئة والاستيعاب، وهكذا حددت طبيعة المجتمع والعائلة الفلسطينية، منذ البداية، الشكل الذي سيتخذه البقاء الفلسطيني، بعد دمار مؤسساته الرسمية، واستمرت العائلة في حماية الفلسطينيين كمجموعة اقتلعت من أرضها حتى يومنا هذا.
عدم الشعور بالأمان كان بحد ذاته دافعا للإنجاز، الذي بدت كل خطوة نحوه إرساء للبنة جديدة في معركة استقلال العرب، وتحقيق العودة إلى فلسطين، ووجد الفلسطينيون في الكويت الناهضة فرصة لاستدراك الخسارة التي كانت أيضا نتاج ضعف العرب التعليمي والنهضوي. هؤلاء المتعلمون؛ خريجو النظام التعليمي التنافسي وعالي الجودة في ظل الانتداب البريطاني، من الوافدين الأوائل، سعوا لإنقاذ عائلاتهم من ظلام النكبة، وكانوا النماذج الأولى في سياسة التماسك العائلي. وعلاوة على دعمهم للعائلة ماديا، حاولوا أن يوفروا للأفراد في شبكاتهم الشخصية وظائف وفرصا، فكان يكفي أن يسمع صديق أو قريب مهجّر أن نسيبا له موجود في الكويت ليطلب منه تأمين وظيفة له، وتزكيته لدى المراجع المعنية. وهكذا جاء آلاف الفلسطينيين إلى الكويت بفضل الجهد الذي بذله من وصل أولا. وبعد عقد أو اثنين، ونتيجة «الهجرة المتسلسلة» أصبح لكل عائلة فلسطينية 100 أو 200 من أفرادها في الكويت، وأصبحت العائلة الأوسع ممثلة وراسخة في أوساط الجالية الفلسطينية في الكويت.
في فلسطين، كانت الأنثى تعتبر عبئا، وجزءا من المنزل الوالدي لفترة موقتة فحسب، أي حتى زواجها. كان الزواج في سن مبكرة يعتبر نقلا للولاء والالتزام والإنتاجية إلى عائلة أخرى؛ عائلة الزوج. بعد عام 1948 تغيرت هذه النظرةٍ التقليدية للمرأة إلى حد كبير، فالحاجة إلى مواجهة الأزمة سمحت بتجاوز العديد من القيم التي كانت سائدة قبل عام 1948، والتي كانت ترفض ربما من الأساس أن تصبح المرأة مركز الشبكة العائلية الفعلية والموسعة. الوجود المادي للعائلة كان على المحك، مما شجّع عددا كبيرا من العائلات الفلسطينية المحافظة على السماح بمشاركة المرأة الناشطة في القوة العاملة. الشابات اللاتي كان معظمهن من خريجات كليات التربية، وتوجهن إلى الكويت، لعبن دورا أساسيا في تحسين تعليم الإناث في مدارسها الرسمية والخاصة على حد سواء، وأرسلن الجزء الأكبر من رواتبهن إلى أهلهن المتقدمين في السن، الذين ما عاد لديهم أي وسيلة لكسب معيشتهم بعد الهجرة، وتولين إعالة إخوتهن وأخواتهن الأصغر، وساعدنهم في متابعة تحصيلهم الجامعي، وأسهمن عبر استقلالهن في تكوين نظرة جديدة إلى المرأة في المجتمع الفلسطيني.


معاودة النهوض السياسي
قبل النكبة، تمتع الفلسطينيون بحياة سياسية؛ أحزاب ومؤسسات اجتماعية وثقافية ومهنية مختلفة، لم تكن موجودة آنذاك في العديد من أقطار العالم العربي، وفقدت النخبة التقليدية من العائلات القوية المتنفذة في المدن الفلسطينية بعد النكبة مصادر نفوذها التقليدية، ولم تعد تسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية، وانتقل موقعهم القيادي إلى قوة اجتماعية جديدة من المتعلمين وحملة الشهادات من المعدمين العصاميين الذين سعوا لبناء حياة كريمة في أماكن بعيدة كالكويت ومنطقة الخليج.
التهميش السياسي الذي لم يعرفه الفلسطينيون قبل عام 1948 كان سببا في إحباط شديد. وفي مطلع الستينيات، بعدما انتظر الفلسطينيون السياسة العربية أكثر من عقد لإيجاد حل لمشكلتهم، اقتنع الفلسطينيون في الكويت وبلدان انتشارهم الأخرى، بحلول عام 1964، أنهم إذا لم ينخرطوا بفاعلية في رسم مستقبلهم السياسي، فسيبقون بلا حقوق وخارج دائرة الإنسانية مطولا، فعملوا على إعادة بناء حياة سياسية مستقلة. تمثّل ذلك في دعم إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، أملا منهم في استعادة حقهم بوطنهم الأم. هذا التطور عنى عمليا أن روح الانتظار التي سادت في الخمسينيات بدأت تتحول إلىّ روح التمرد والثورة، وقد توّج ذلك بانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة مطلع 1965.  

إلى الكويت: طريق أخرى
يبين الغبرا كيف شارك الرواد الأوائل من أبناء الطبقتين الوسطى والدنيا الذين أتوا إلى الكويت، من دون علم منهم، في تحول اجتماعي واسع شمل طبقات المجتمع الفلسطينيّ التقليدي وتشكيلاته، رغم أنهم لم يملكوا شيئا عندما انتهت حرب 1948، وكانوا بحاجة إلى البدء من جديد لتحمل مسـؤوليات عائلاتهم الكبيرة، ومنحتهم خبرتهم في العمل وتحصيلهم العلمي وكونهم من فئة الشباب، الموقع الأول في العثور على وظائف وبناء هيكلية الشتات. ينطبق الأمر ذاته، بنسب متفاوتة، على أبناء الطبقة المتنفذة، خاصة حملة الشهادات العليا في الطب والسياسة والاقتصاد، الذين وجدوا في المؤهل العلمي ما يساعدهم في حياة جديدة بعد أن فقدوا المال والأرض والنفوذ. لكن الفلاحين والريفيين الفلسطينيين دفعوا الثمن الأغلى جراء النكبة، إذ كانت خياراتهم محدودة مقارنة بتلك المتوافرة لمجموعات اللاجئين الفلسطينيين ذات التحصيل العلمي الأعلى من سكان المدن، فلم يجيدوا إلا العمل في الزراعة، فتحول هؤلاء، لا سيما الشبان منهم، إلى طبقة دنيا تنشد عملها وقوتها اليومي كعمال وبنائين.
في البداية، لم تكن للفلاحين الكفاءات اللازمة، ولم تكن لمعظمهم معارف لمساعدتهم؛ كان أقرباؤهم بشكل عام مغلوبين على أمرهم، مثلهم تماما. ولم يمتلكوا وسيلة لبلوغ الكويت إلا الطريق السرية الخاصة بالتهريب. فلم تكن أغلبية الفلسطينيين تملك أوراقا ثبوتية كي تقدمها للقنصلية البريطانية في القدس أو بغداد التي كانت مسؤولة عن إصدار تأشيرات السفر بموجب إجراءات صارمة في الفترة التي كانت فيها الكويت محمية بريطانية.
مجددا تظهر بوضوح قوة العائلة ودورها في ضبط السلوك الفردي، فبالنسبة إلى أغلبية الآتين عبر طريق التهريب الخطرة، كان الدافع وراء انتقالهم هو مسؤوليات عائلية، والحاجة إلى تحسين حظوظهم الاقتصادية، فكان الانضواء تحت حملة تهريب مسألة مهمة جدا للعائلة الفلسطينية. ولدى وصولهم، يكوّن بعض أفراد العائلة ممن سبقوهم إلى الكويت جسر ا بين الطرف المرسل والطرف المتلقي.
كان أعضاء العائلات الذين رحّلوا إلى الكويت يرسلون معلومات عن الرحلة لأنسبائهم في القرية، وكانوا يصفون الرحلة وتكاليفها، ويذكرون حتى أسماء من ساعدهم في الطريق لتفادي الأجهزة الأمنية السورية ثم العراقية للوصول إلى صحراء الكويت، كما يصفون لهم الكثير من المواقع والقرى البدوية والريفية في سورية والعراق لطلب المساعدة منها في حال وجود مشكلات. وفي معظم الوجهات التي كان الفلسطينيون يقصدونها، كان هناك من ينتظرهم، وكان أوائل المغادرين هم الأكثر مغامرة على الإطلاق، وكان لكل قرية روادها الذين غادروا الوطن من دون أن يكون هناك من يساعدهم في وجهتهم.
استمرت طريق التهريب حتى أواخر الخمسينيات، وسيلة لآلاف الفلسطينيين، وبعد ذلك ما عادت هناك حاجة إلى تأشيرات سفر، أو أذون دخول للسفر بين الكويت والأردن. حتى عند إعادة العمل بتأشيرات السفر، لم تستعمل طرق التهريب من جديد نظرا لتحسن أوضاع الشعب الفلسطيني.

الضربة القاضية التي وُجّهت إلى الشتات الفلسطيني في الكويت ستأتي مع غزو النظام العراقي للكويت في العام 1990 

















العلاقات الفلسطينية- الكويتية
ينسب الغبرا لأنماط السلوك الكويتية دورا هاما في قدرة الفلسطينيين على تشكيل مجتمعهم الجديد في الشتات. ففي مرحلة تميّزت كويتيا بإرساء أسس البنى التحتية الاقتصادية الحديثة، لعب الفلسطينيون دورا أساسيا، في ظل تأثر المجتمع الكويتي بالقضايا القومية العروبية، ورغبته في الاستقلال عن بريطانيا ورفض سياساتها في العالم العربي. ورأى الكويتيون في الهجرات الفلسطينية الأولى، عنصر قوة لا عنصر إضعاف، وإضافة نوعية لمشروعهم الوطني والعربي وانتشرت فرضية بين النخب الكويتية مفادها؛ الاستفادة من الخبرات الفلسطينية لمدة موقتة إلى حين تأمين عودة الفلسطينيين إلى وطنهم خلال بضعة أعوام.
لكن حرب العام 1973 غير الحاسمة جلبت إلى الكويت مخاوف احتمالات التوصل إلى تسوية للصراع العربي - الإسرائيلي تؤدي إلى بقاء جالية فلسطينية كبيرة في الكويت تساوي أكثر من نصف المواطنين، وتزايد الشعور بوجود همّ فلسطيني بعد التورط الفلسطيني في الحرب الأهلية في لبنان في عام 1975، وقبلها حوادث أيلول/سبتمبر 1970 في الأردن، وبدأ يتكون حاجز مبهم بين الفلسطينيين من جهة، والنظام السياسي في الكويت وبعض قطاعات المجتمع الكويتي من جهة أخرى، عززه نسج منظمة التحرير، والعديد من فصائلها المسلحة، علاقات خاصة مع المعارضة اليسارية اللبنانية، وصلات وثيقة مع المعارضة الكويتية، الأمر الذي فاقم الشعور بالقلق فيما يتعلق بالناحية الأمنية في الكويت. لكن الضربة القاضية التي وُجّهت إلى الشتات الفلسطيني في الكويت ستأتي مع غزو النظام العراقي للكويت في العام 1990.

[للبحث صلة]

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.