}
قراءات

"إنسية متعدّدة".. كيف نخرج من منطقة الثقب الأسود؟

محمود عبد الغني

31 يناير 2020
الإنسانية على الدروب الطارئة
ميراي ديلماس - مارتي (1941) أستاذة فخرية في الكوليج دي فرانس، وعضو في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية. وهي أيضاً رئيسة "مرصد فاروس" حول تعدّد الثقافات والأديان، منذ عام 2012. من بين أعمالها "الحريات والأمان في عالم خطر" (لوسوي، 2010). وأصدرت عام 2019 كتاباً عن دار "ليبيلّا" تحت العنوان "الخروج من الثقب الأسود، الإنسية القانونية كبوصلة" “Sortir du pot au noir, l’humanisme juridique comme boussole ، واختار عزالدين الخطابي أن يترجمه تحت عنوان "إنسية متعدّدة"، وصدر عن دار توبقال، 2019.
الثقب الأسود منطقة وسط المحيطات تعصف فيها الرياح. والإنسيون يرون أن عالم اليوم يقع في قلب هذا المنطقة السوداء التي تحكمها الرياح والأعاصير، ويتساءلون: أين نعثر على بوصلة تساعد على الخروج من هذا الثقب الأسود السحيق؟ عن هذا السؤال تجيب ميراي ديلماس - مارتي في كتابها قيد العرض، دون أن تدّعي أنها تملك الأجوبة النهائية، لأن المراحل تتوالى، ومعها تتوالى المشاكل والعقبات التي تتوالد بشكل مخيف. لا يكفي فقط، للخروج من الثقب الأسود، من الفوضى إلى النظام، والتفكير في غير المتوقّع، وتثبيت المارق، أن نضع الإنسانية وقيمها في مركز العالم، كما حاول القيام بذلك "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" عام 1948. بل يجب ضبط الرياح حول المبادئ المشتركة وخلق بوصلة إنسيّة موسّعة على امتداد ملكوت الأرض، من شأنها أن تقود الإنسان على الطرقات الطارئة في العالم.

 

ألا يمكن استئصال الشّر؟
يمكن اعتبار كتاب "إنسية متعدّدة" امتداداً لكتاب م. ديلماس - مارتي الذي صدر عام 2011 "الحريات والأمان في عالم خطر". فسيدة القوانين الإنسية لم تتوقّف عن تنبيه الدول

والحكومات إلى أن العالم أصبح خطراً اليوم، فالإرهاب، والمشاكل المترتّبة على الفقر، والأمراض والحروب الأهلية، كل ذلك يفرض عليها خلق وسائل وأفكار جديدة لمواجهة هذه التحدّيات المستفحلة. إن العالم عرف دوماً مثل هذه المخاطر، في كل الأزمنة والأمكنة، لكن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول غيّرت الرؤية، وكذا منهجية استقبال الأحداث تماماً. لقد أصبحنا على وعي تامّ بأن وضع الإنسية في المركز لا يكفي، ولا بدّ من وعي حاد بالعوالم المحيطة بنا، والعوالم المعلنة عن نفسها. كما أن الانشغال بالتنظير لإنسية "قانونية" غير مُجدٍ أيضاً. فأي نظام حقوقي لن يتمكّن من استئصال الشّر. لماذا لا يمكن ذلك؟ ترجع م. د. مارتي هذه الاستحالة إلى قيام مبحث في القانون الدولي، في فترة غير بعيدة (1883 - 1884)، بتقسيم الإنسانية إلى ثلاث فئات: الإنسانية "المتحضرة" (أوروبا، أميركا الشمالية والجنوبية)، والإنسانية "الهمجية" (تركيا، بلاد فارس، اليابان، بلاد سيام، والصين)، ثم الإنسانية "المتوحشة (باقي البلدان)، والتي ينبغي جعلها "متحضرة" بالقوة. وجعلها "متحضّرة بالقوّة" عبارة لم تعد تحتمل تأويلاً آخر غير "إخضاعها للاستعمار"، و"الاعتراف السياسي الكامل" بـ"الدول المتحضّرة" بصفتها الموضوع الوحيد للقانون الدولي. وهكذا أصبح السلوك الاستعماري مبرَّراً، في حين ظلّ الإعلان "العالمي" لحقوق الإنسان، الذي تمّت المصادقة عليه عام 1948، مجرّد موضوع شكليّ. فالأمر شبيه بردّ الضربة لهذا الإعلان الذي صيغ وصدر بعد الأفعال الهمجية التي اقترفتها الدول "المتحضرة" في الحرب العالمية الثانية، وأثارت سخط الضمير الإنساني. وبعدها سيعارض الإعلان المذكور الممارسات الاستعمارية الصادرة عن هذه الأمم. إذاً، من الطبيعي أن يتمّ العمل على جعله موضوعاً شكلياً ما دام يعارض في جوهره المركزية الغربية. لكن يبقى هذا الإعلان سارياً، وأساسياً لكل الأمم، خصوصاً مع التفاقم الكوني للغليان الديموغرافي والبيئي. وقد أجمل الأُمميّ الياباني العظيم، يازواكي أونوما، هذه الحاجة العظمى في قوله: "إن السبب الذي يتعيّن بمقتضاه تبنّي حقوق الإنسان كونيّاً - رغم أنها نتاج خاص بأوروبا الحديثة - بسيط للغاية: فنحن لم نجد إلى حدّ اليوم بديلاً أفضل منها".

 

تموت الأساطير كي تولد اليوتوبيات
كان من المتوقّع أن تعيش الإنسية ابتذالاً قاتلاً، وذلك رغم شرعيتها التاريخية التي تكرّست وترسّخت منذ اليونان القديمة. لقد سعت ما أمكنها كي تصبح عقلانية وكونية. إنها فعلاً

أسطورة نموذجية. ورغم محدوديتها مكانياً وزمانياً، إلا أنها طبعت الفكر القانوني الغربي على الدوام. لكن ما سيقع للأسطورة لاحقاً يمكن أن يلخّصه ما جاء بخطاب للإنسي الإيطالي، بيترارك، عام 1341: "الاندحار بالفكر من الاهتمامات السماوية إلى صَخَب المحاكم". لكن رغم سقوط الأسطورة، فهي ما زالت مدخلاً للمستقبل. كيف؟
تطرح ميراي ديلماس - مارتي سؤالاً مزدوجاً أحالها مباشرة على كلود ليفي – ستروس، وبول ريكور: كيف تموت الأساطير، ولماذا تموت اليوتوبيات؟ تجيب عن السؤال من خلال نص لستروس عنوانه "كيف تموت الأساطير؟" (1973): "الأسطورة تنهار في آخر المطاف بعد فقدانها التدريجي لمصداقيتها. ويبدو أن ليفي ستروس لم يعالج المسألة العكسية، التي تشغلنا، وهي مسألة الأسطورة التي تموت عندما تشرع في التحوّل إلى واقع، حيث تُظهر في نفس الآن ضعفها وقوّة الأشياء التي تكشف عن عدم اكتمال الأفكار" (ص.33). ما القصد من ذلك؟ التخلي عن الإنسية والاحتماء باليوتوبيا؟ نعم، إنه ذلك وأكثر. ما يهم في الإنسية، رغم سقوطها كأسطورة، هو ما تحتويه من مداخل إلى المستقبل. لقد أثبت الواقع أنها فقدت سلطتها، وتدرجها داخل التاريخ الواقعي (اتفاقيات، أحكام قضائية دولية في مجال حقوق الإنسان والعدالة الجنائية الدولية) جعلها متفرّقة وغير فعلية، وأحياناً متناقضة. إن قوّتها الأكيدة كامنة في كونها تنافس الأنظمة القائمة على السيادة التي قد تمتدّ إلى الدفاع عن المصالح الوطنية. وخارج أوروبا، أصبحت مسألة كونيتها موضوع نزاع، حيث تمّ استحضار القيم الإسلامية والآسيوية.
طيلة صفحات الكتاب وفصوله، ظلت ميراي ديلماي - مارتي تعبّر عن إيمانها بكون الإنسية القانونية هي بوصلة الكون في هذه الأوضاع الهشّة، التي وصفتها في عنوان كتابها (باللغة الفرنسية) بـ"الثقب الأسود"، حيث تسود العواصف وتضيع الاتجاهات. ومن بين هذه العواصف العولمة التي تشوّش على الدول، من دون أن تتمكّن من الحلول مكانها، لأنها ظلت فقط في حيز القيام بمجموعة من العمليات، داخل الأمكنة المفتوحة مثل فضاء الإنترنت المنفلت من الأوطان. فهذه الرياح، حسب تعبيرها، حوّلت الدول إلى "مروحيات تدور مع أيّ ريح".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.