}
عروض

في رواية "الأعراف".. غزل بين الديني والسياسي

ضاهر عيطة

14 يناير 2020

في رواية "الأعراف"، يستدعي "الشيخ البلقاني" الشاب "غياث" إلى زنزانته الفاخرة، بعد أن يكون الأخير قد أوشك على الهلاك من فرط التعذيب، الذي مورس عليه في معتقلات النظام الأسدي، بوصفه من أول المتظاهرين في درعا. ويعود سبب هذا الاتستدعاء لكون "البلقاني" كان قد تبرع بقلب ابنته "فاطمة"، بعد موتها، إلى "هاجر" ابنة "غياث". حدث ذلك قبل أن يدخل "البلقاني" إلى المعتقل بأشهر قليلة، في حين كان "غياث" رهن الاعتقال، وذلك كمحاولة منه للتكفير عن الذنوب التي ارتكبها بحق أناس كثيرين، وخصوصاً خلال الثورة السورية، باسم الدين الإسلامي، سيما أن "البلقاني" في حقيقته أمره ليس إلا "إسحاق"، ذلك الرجل الذي كان يعمل في تجارة المخدرات، غير أن الصدف والأحداث تسوقه إلى أن يغدو إماماً لأحد المساجد، إلى أن يتم توظيفه من قبل أجهزة الأمن السوري للنيل من المتظاهرين.
ومن خلال جمع هاتين الشخصيتين الوحيدتين في الرواية، في زنزانة واحدة، يسعى المؤلف "أنور السباعي" إلى تفكيك العلاقة الوظيفية بين النظام الأسدي ورجال الدين، مشرحاً الحملة المسعورة التي شنها كلا الطرفين على الثورة السورية، ويتضح ذلك حينما يطلب أحد رؤساء الأفرع الأمنية من "الشيخ البلقاني"، مع انطلاق الثورة، أن يرشح أسماء من ضمن الإسلاميين المتواجدين في المعتقلات السورية، تكون لديهم مواهب قيادة، ليصار إلى إطلاق سراحهم، كي يحرضوا الناس على حمل السلاح، على أن تتكفل الدولة السورية بتأمينه لهم سراً. اعتمدت رواية "الأعراف" على البنية الحوارية بشكل رئيسي، لطرح أفكار نقدية، في غاية من الجرأة، في تناولها للسلطة الدينة، وعلاقتها بالسلطة السياسية، على نحو يكشف النقاب عن زيف الموروث الديني والساسي على حد سواء، ضمن آلية اعتمدت أسلوب التحليل الممنهج، وربما هذا ما جعل من الرواية، محطة للتأمل والتفكر، أكثر مما هي رحلة في عالم السرد، إذ

نلحظ تواري السرد في أحيان كثيرة لصالح التفكير النقدي، لكن هذا لا ينفي أن السرد سرعان ما كان يستعيد حضوره، مركزاً على تاريخ شخصية "إسحاق" الذي هو "الشيخ البلقاني" الآن، وكذلك على شخصية "غياث" يتخلله مونولوجات طويلة في بعض الأحيان، تتضح فيها وجهة نظر كلتا الشخصيتين. وكان التناقض الحاد بين طباعهما، يساهم على مدار أحداث الرواية، في تولد انفعالات، وردود أفعال عنيفة، تصل أحياناً إلى حد الرغبة في التصفية الجسدية، وهو ما كان يؤدي إلى شد عصب الأحداث، ويضاعف من حدة الصراع، بين رجل أصولي مارس القتل والخداع باسم الدين، وآخر شاب متحرر الفكر والروح، كان حلمه بالحرية، هو من يقف خلف دوافع بحثه عن الحقيقة، في حين تشير أفكار "البلقاني" إلى مدى انغماسه في البشاعة والإجرام، وقد تجلى ذلك عبر حوارات ومونولوجات رشيقة وذكية، ما يحض القارئ على التأمل في مضامين الأفكار المطروحة، وتوقه لمعرفة السر الذي جمع بين شخصيتين من هذا النوع، وبهذه الصفات، في فضاء مغلق، ذلك السر الذي ظل مجهولاً إلى ما قبل نهاية الرواية بقليل. وقد أمكن لتفاصيل الزنزانة الفاخرة، ورسم ملامحها، الشبيهة بملامح الشقق المسورة بصفائح حديدية، وحركة وسلوك "الشيخ البلقاني" و"غياث" ضمنها، يخلق أجواء مريبة، تخللتها جرعات من الأفكار والتأملات، لا تقل ريبة عنها، نظراً لجرأتها، سيما تلك التي كانت ترد على لسان غياث، والتي سعى من خلالها إلى تمزق التابوهات الدينية والسياسية، وزلزلة قناعات البلقاني، إذ كلما حاول الأخير الدفاع عن وجهة نظر في ما يخص الموروث الديني والسياسي ينسفها "غياث" بالحج والبراهين، وبشواهد من الواقع اليومية. وكانت تلك النقاشات والحوارات الفكرية تسير بموازاة بنية سردية تحكي قصة "الشيخ البلقاني"، وهو "إسحاق" تاجر المخدرات، الذي تمكن بمكره وخداعه، إضافة إلى حلاوة صوته، من التأثير على المصلين، ما رشحه في نهاية المطاف لأن يغدو إماماً للمسجد، وإن كان هذا المسجد قد بدا له شبيهاً بمأوى للمسنين، نظراً لحرص جيل الشباب على عدم دخوله في تلك الفترة، سيما أن أحداث مذبحة حماة لم يكن قد مضى عليها سوى بضع سنين.
إذاً، نحن أمام تاريخين منفصلين، تربط بينهما مجازر النظام الأسدي، تاريخ الثورة السورية، وما حفل به من مجازر، وتاريخ مجزرة حماة، ما يشير إلى أن الجرائم التي ارتكبها هذا النظام كانت بمثابة المحرك لصيرورة الزمن السوري، وهي من حددت أفق المكان وصفاته، ما يعني أن هذه المجازر هي من رسمت مصائر الناس، إلى حد بدت وكأنها القدرية الوحيدة التي تتحكم في حياة السوريين، وليست أقدار السماء، أو أي قوة أخرى، وطالما أن نظاماً كهذا يدعم

السلطة الدينية، والسلطة الدينية تدعمه بدورها، تنتفي بذلك وصفة: الدين هو الحل.
وكان اشتغال الرواية على بنية الفضاء المكاني، تفكيكاً وتحليلاً، يمنحها المكان أبعاداً جديدة، ومعان لم تكن مألوفة، فإن كان المكان الذي تجري فيه أحداث الرواية هو عبارة زنزانة، فالأحداث التي تأتي في سياق السرد يحضر فيها المسجد على الأغلب، وهذا التماهي بين المكانين يشير إلى مدى العلاقة الوظيفية بينهما، حتى أن المؤلف "أنور السباعي" كان له من الجرأة أن يجعل فضاء المسجد مفتوحاً على وظائف وأحداث ليس لها علاقة بالعبادات الدينية، إنما أحاله إلى فضاء مورست فيه الخديعة والنفاق، وكذلك السكر والعشق والغرام، إضافة إلى جعله مقراً للتحقيق والتعذيب، في مشهدية تكشف عن طبيعة شخصية رجل الدين، حين ينتشي "البلقاني" من قبلة أحد المصلين على يده، وكان لتلك القبلة من الأثر الكبير على سلوكه، ومجرى حياته، فبينما هو ينوي هجر المسجد، والعودة إلى تجارة المخدرات، شعر، مع تلك القبلة، أنه صاحب حظوة ومكانة، هي بشكل، أو بآخر، قبلة العبد على يد سيده، قبلة ترضي نوازع السلطة والتسلط. إضافة إلى المبالغ المالية التي حصل عليه جراء فتاويه، كل هذا جعله يختار تأدية وظيفة الخداع والمراوغ والكسب في المسجد، ما يشير صراحة إلى أن غاية السلطتين، الدينية والسياسية، ما هي إلا تخدير الشعوب، وسوقها كالقطعان، بحجج وذرائع واهية، فإن كان معظم الفقهاء والمشايخ يزعمون أن الدين الإسلامي لا يحتاج للوساطة بين الله وعبده، نراهم في الواقع، يؤدون هذه الوظيفة على أكمل وجه مستغلين عقول البسطاء.
وعلى خلاف "الشيخ البلقاني"، يتمتع "غياث" بروح شفافة، ما يجعله يتعذب في المعتقل مرتين، مرة حينما كانوا يعذبونه، ومرة حينما كان التعذيب ينال من المعتقلين، فيعذبه صراخهم، وهو انطلاقاً من هذه الروح المفعمة بالإنسانية، يبحث عن حقيقة الخالق، ليس بحثاً لأجل خلاصه الفردي، وإنما خلاصاً للإنسانية ككل. وعندما يدرك أن "اسحاق" ليس إلا "الشيخ البلقاني" الذي حرض الناس على حمل السلاح في الثورة، وبالاتفاق مع أجهزة الأمن، يسأله: هل شرب دماء الناس حلال أم حرام؟ هل رائحة شواء أجساد الأطفال تبطل الصيام أم لا؟ في حين كان "غياث" يصلى مع أصدقائه في مسجد "العمري" كمقر للتجمع، قبل كل مظاهرة، غير أن كعبتهم لم تكن إلا الحرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.