}
عروض

"حدادون وخيميائيون".. بورتريه الإنسان الخالق

دارين حوماني

13 يناير 2020
بعد ست مجموعات شعرية يدخل الشاعر محمد ناصر الدين عالم الترجمة من بوابة تاريخ الأديان ومن عالم مرسيا إلياد تحديداً.. مرسيا إلياد (1907-1986) مؤرخ الأديان والفيلسوف الروماني الذي اقترب منه ناصر الدين عميقاً في اهتماماته الفلسفية والدينية فلاحق معه الجذور التاريخية للخيمياء، السياق الثقافي للأجهزة الأسطورية المتعلقة بالمعدن والحديد وصولاً الى الأفكار الخيميائية كعلم قدسي وليس كمرحلة تمهيدية أو مشوّشة للكيمياء، وذلك لتقديم قراءة لتاريخ الأديان، قراءة "تجمع ولا تفرّق"، كما يقول ناصر الدين في مقدمة الكتاب "حدادون وخيميائيون" الصادر حديثاً عن دار الرافدين.



عصر الحديد
يبدأ إلياد بوصف إنسان العالم القديم ككائن ديني يقدّس الشهب ويعتبر نفسه الإنسان الخالق حين يشارك في خلق المادة، ثم يناقش إلياد كيف اشتغل البدائيون بالصخر النيزكي وكيف تمّ اشتقاق الرموز السحرية الدينية وحيث أفضى عصر الحديد الى إبداعات روحية. وسيكون الحداد العنصر الأساسي في نشر الأساطير والطقوس والرموز الفلازية المرتبطة بتصورات سحرية دينية متماسكة ومتوازية أو حتى متناقضة وسيكون تبجيل الفلز أمراً ثابتاً ممزوجاً برعب خرافي وتضحي المطرقة شارة للآلهة العاصفة الجبارة، وسيحتفظ الحديد بهذه الامتيازات السحرية حتى عند الشعوب التي تمتلك تاريخاً ثقافياً متطوراً فهو مفيد كمضاد لضرر الأدوية وللهلوسات الليلية، ولا تزال هذه المعتقدات في عدد من المناطق من تركيا وبلاد فارس رائجة حيث يتم استخدام السكين لطرد الشياطين مقتنعين بقدرة الحديد على أن يتقمص الروح الشيطانية.
يستحضر صاحب كتاب "المقدّس والمدنّس" كيف تمت إزاحة الإله السماوي وانتقلت فكرة الخليقة التي يديرها إله سماوي لفكرة الخلق بواسطة الزواج المقدس والأضحية الدموية ما يعزّز التماثل بين الإنسان والكون، فالحياة لا يمكن أن تنبثق إلا من حياة أخرى تمت التضحية بها، فالكون هو الآخر انبثق من عملاق بدائي وهو هنا يشير الى طقوس البناء وكيف كان يتم اعتبار الفلزات كائنات تنحدر من دم ولحم كائن أولي نصف إلهي تمت التضحية به.
يذهلنا الكاتب في الفصل الثالث، "العالم مجنسناً"، بعملية التخصيب النباتي التي كانت تتم بمشاركة جنسية للبشر، فالتطعيم بنظرهم لا ينجح إلا باتحاد جنسي بشري خارق حيث على المجامعة أن تتم وقوفاً في المكان التي سيتم فيه تركيب الغصن وقت الجماع. نحن إذاً أمام نوع من التصوير العام للحقيقة الكونية كحقيقة مجنسنة. ونجد الرمزية الجنسية أيضاً في اعتبار النار ثمرة لاتحاد جنسي. ينتقل بعدها الكاتب الى الدور الشعائري للكهوف على أنه عودة روحانية الى الأم فالأرض هي بطن الأم والمناجم هي رحمها والخامات هي الأجنة.
يذكّرنا مرسيا إلياد أن افتتاح منجم أو بناء فرن للتعدين استمرّ كشعائر منجمية في أوروبا حتى نهاية القرون الوسطى وتضمّن كل تدشين لمنجم حديد إحتفالات دينية، وحتى في البلاد الآسيوية وإلى وقت قريب لوحظ عند افتتاح منجم وجود طقوس تتضمّن تجنّب المحرّمات وخاصة الجنسية ووجوب الطهارة والصوم والصلوات. إنهم على تماس مع القداسة عند افتتاح المناجم، فعملية الصهر صاحبها الكثير من الاحتياطات حيث كانت الخيم تُنصب قرب المناجم ووُجب على المعيشة أن تكون بتولية.
يشير إلياد الى فكرة القربان البشري المرتبط بالفلازة فالجسد يمثّل في تحلّله المنجم الغني بالذهب، ولقد تم تصوير الفعل النموذجي للخلق الكوني إنطلاقاً من مادة أولية حية. بحث إلياد في فكرة الإنسان القادر أن يقوم مقام الزمن المعبّر عنه بوضوح في النصوص الشرقية وهي تمثّل الفكرة الأصل للعمل الخيميائي، فكرة تحويل الإنسان أو الكون عبر حجر الفلسفة، إنه يستبدل نفسه بالزمن. الخيميائي كما الحداد والخزاف كانا يعتبران أنهما يعرفان نشوة الخالق من حيث التحكّم بعناصر التحويل وتصليب الأشكال. كانت النار مظهراً لقوة سحرية دينية بمقدورها تغيير العالم. السحر البدائي أو الشامانية تعني التحكم بالنار، إنها سلسلة تترابط عضوياً: أساتذة النار، الشامانيون، الحدادون، الملوك الأبطال. لفظة "الحداد" تعني "البطل" في الأغاني الملحمية لمعظم القبائل المغولية وعند الأتراك ويعلو مقام الحدادين ليصلوا إلى رتبة الملوك. ويعرض لنا إلياد ثيمة فولكلورية أوروبية تتضمن فكرة تجدد الشباب بواسطة نار الفرن، ويلعب يسوع المسيح دور الحداد الذي يشفي المرضى ويعيد الشباب للشيوخ بوضعهم داخل فرن محمي أو بصقلهم فوق سندان، ويظهر يسوع في هذه الإبداعات الفولكلورية كأستاذ للنار، وقد احتفظت هذه الصور بسطوتها على المخيال الشعبي لوقت طويل. يقول إلياد: "لا تتوجه الأسطورة الى وعي يقظ بل تمارس سلطتها على المناطق العميقة في النفس، إنها تغذّي وتستثير المخيلة".
ينتقل بعدها إلياد للحديث عن الخيمياء الصينية كاختصاص مستقل باستعمال المبادئ الكونية التقليدية والأساطير المرتبطة بأكسير الخلود وبالتقنيات التي تهتم بإطالة الحياة وبالصحة الروحية، وعلى الخيميائي أن يصوم لمدة مئة يوم ويتطهر، ويعني ذلك تجاوز الشرط البشري والمشاركة في وجود غير زمني وهكذا سيلتقي بالخالدين. على الخيميائي أن يصل الى الحالة الفوضوية للّاوعي المتحققة بواسطة التأمل ويتسلّل الى المسكن الأكثر سرية للكينونة. والخيميائيون الهنديون لهم قدرات خارقة أو كرامات يوغية، وهناك تقاطع بين اليوغي والخيميائي هو تنقية موادّه الملوّثة وكمالها وتحويلها إلى ذهب، الذهب الذي يعني الخلود، وباختصار سبق الإيمان بالتحويل حيث تتموضع الخيمياء ضمن التقنيات الروحية، ولا يمكن هنا أن تكون التجارب على المواد المعدنية مجرد أعمال كيميائية بل لها تبعات روحية.
التجارب الرهيبة والشريرة للظلمة والموت الروحي والهبوط إلى الجحيم مؤكدة في نصوص الخيميائيين، المرحلة التي تلي الظلمات هي البياض التي قد تتناسب على الصعيد الروحي مع "بعث" ما يترجم بالوصول الى حالات من الإدراك لا تتوفر في الحالة المدنسة. ويشير "فالنتين" إلى الضرورة الحتمية للنزول الى الدرك الأسفل: زر باطن الأرض وبالتنقية تجد الحجر السري. هذا الحجر الذي يحمل مرادفات عديدة. الحجر الفلسفي هو طريق طويل للغاية فهو في الوقت ذاته متاح للغاية، هو موجود في كل مكان. يقول "ريبلي" إن كل امرئ يمتلكه وإنه يوجد في كل مكان، في داخلك، في داخلي، في كل الأشياء، في الزمان وفي المكان. وكان الخيميائيون العرب أول من أضفى على الحجر فضائل علاجية، وعبر الخيمياء العربية سينتقل مفهوم الأكسير الى الغرب، وهو طب يزيل كل الشوائب ويمكنه غسل نجاسة الجسد.
يشير صاحب مؤلف "تاريخ الأديان القديمة" الى ما ذكره روسكا "لا يتناسب العذاب لدى الخيميائيين الإغريق مع عمليات حقيقية، إنها كانت بالأحرى رمزية. بدأ العذاب يشير الى العمليات الكيميائية على يد المؤلفين العرب، فنقرأ في وصية جعفر الصادق أن الأجساد الميتة وجب عليها أن تتعذب بالنار وكل أنواع العذاب لكي تحظى بالخلاص لأنه بلا عذاب وموت لا يمكن الحصول على الحياة الأبدية. تحيل كلمة "عذاب" الى الموت- التحلّل- الظلمة وما من أمل في الخلاص بالتجاوز أو بإنجاز التحول دون الموت المسبق".


خلاص الطبيعة
يستخلص إلياد أن الخيميائيين كانوا مقتنعين أن منجزهم يتم بمعونة الرب وهو استكمال مثالي للطبيعة وأنهم قادرون على خلاص الطبيعة. ويماثل خيميائي هرمسي من القرن السادس عشر حجر الفلسفة بيسوع المسيح كما يؤكد خيميائي آخر للإمبراطور رودولف الثاني أن خلاصاً روحياً على نطاق كوني سيكون ممكناً. يمرّ إلياد بعدها على فلسفة نيوتن الخيميائية، نيوتن الذي أمل أنه باستطاعة الخيمياء اكتشاف أسرار العالم، ولقد كان مقتنعاً أن الرب اختص بعض عباده بأسرار الفلسفة والطبيعة والدين.
يقول إلياد إن العلماء المحدّثين عاجزون عن تجربة القدسي في علاقتهم مع المادة، وروسكا وهوبكنز وغونديل ومولتوف ورفاقهم يتصورون الخيمياء كخطوة جنينية للكيمياء. يمكن فهم الطبيعة حصراً بدراسة الكيمياء أي الخيمياء الجديدة وتشكّل الكيمياء المفتاح القادر على فك أسرار الأرض والسماء، وبما أنه تم تفسير الخلق كعملية كيميائية فقد أمكن تفسير الظواهر السماوية والأرضية بمصطلحات كيميائية. يصل إلياد الى نقطة مفادها أن الكيمياء لم ترث إلا شذرات من الإرث الخيميائي ويمكن أن نجدها في الأفكار الأدبية لبلزاك وفيكتور هوجو وفي منظومات الاقتصاد الليبرالي والرأسمالي وفي اللاهوت المعلمن للمادية وفي كل مكان يتفجر فيه الإيمان بالقدرات غير المحدودة للإنسان الخالق.
يرى إلياد أن الإنسان الحديث يتنقل في عالم معلمن بالكامل معدود بالساعات وقد تحوّل الى كائن زمني، الديانة هي الوسيلة التي تضفي المعنى على الشرط البشري في الموت والجنسانية والوقت الذي ينقضي، وإن نزع القدسيّة عن العمل يشكّل جرحاً في جسد المجتمعات الحديثة وإفقاراً للثقافة، وهو يدعو الإنسان الحديث الى البحث عن أحلام الخيميائيين لأن الخيمياء تركت للعالم الحديث أكثر بكثير مما تركته الكيمياء السخيفة، على حد تعبير الكاتب إلياد. أما المترجم ناصر الدين فيضع بين أيدينا مثاليات آبائنا الأولين ويدعونا معه من خلال هذا المنجز المهم الى إعادة النظر في قراءة الأديان قراءة ثقافية إيجابية منفتحة، على أن يستكمل هذه التجربة المهمة بترجمة حفريات إلياد في اليوغا والخيمياء الى لغة الضاد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.