}
عروض

أفكار جديدة حول تقاطع السياسي والإسلامي

طارق غانم

26 أغسطس 2019
تتقاطع حياة المسلمين مع ممارساتهم السياسية، والعكس صحيح. وبعض محاولات رصد هذه التقاطعات الحتمية وتفسيرها تحاول النظر فيها من منظورات مختلفة. معظم هذه المنظورات إما تركز على ممارستهم السياسية وإما على ممارستهم الدينية، وإما على قراءة الآخر في ضوء ذلك. وكثير من الدراسات الجديدة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تضع في حسبانها الظروف المحيطة، وتغييرات الحياة الكبرى في العالم وتأثيراتها، وكذلك الرصد الفعلي على الأرض والتأريخ من أسفل. وتلك الدعاوى الكبيرة - التي أُطلِقت- بأن تخلُّف المسلمين عن ركب الحضارة سببُه الفقه الإسلامي، أو التصوّف، أو ذلك الفكر المبثوث في أدب نصيحة الملوك، كلها لم تعد كافية، فهناك ظروف إنسانية أكبر من ذلك كله هي السبب الرئيس في ذلك التدهور الحاصل للمسلمين.
لننظر مثلاً إلى التغييرات التجارية أو التكنولوجية العالمية؛ فلا أحد يستطيع أن ينكر ذلك الدور الكبير الذي أدَّاه اكتشافُ البارود واستخدامه في سقوط الدولة العثمانية، وكذلك الآثار المختلفة لانتشار الإنترنت انتشاراً واسعاً. وما تثبته الدراسات أن معظم المسلمين يتعلمون دينهم من التلفزيون، وليس من المساجد، وأثر هذا على الخطاب الإسلامي. ناهيك عن التغير الجذري الذي صاحب ظهور الدولة القومية الحديثة، وما صحبه من تغيُّر كامل في المساحة العامة، ومنها وضعُ الأوقاف، وتأثير هذا كله على المؤسسات الدينية والمتدينين أيضاً.
وكذلك فإن رؤيتنا لأولئك المنتمين إلى مدرسة ما أو نظام معين، بوصفها أمثلة مباشرة لفهمنا نحن، هي أيضاً قاصرة. فالدراسات الأنثروبولوجية للحياة اليومية الدينية نتجت عنها مؤخراً
استنتاجات مهمة كثيرة، خاصة حول تقاطعات القانونين الوضعي والإسلامي والعلمنة وتدين العامة. وأيضاً لا يكفي مجرد النظر في تفاعل الإسلامي مع السياسي في التاريخ من خلال الكتابات السياسية، وتجاهُل فنون كان يُنظَر إليها على أنها غير ذات صلة مباشرة، كالتراجم والطبقات، وكذلك الأدبيات مثل أدب القضاة، وأيضاً كتب "التاريخ من أسفل". فتاريخيّاً، نجد كتاباً مثل "النشوار" للتنوخي يسمح لنا برؤية 'من أسفل' لعلاقة القضاة بالسياسيين في القرنين الثالث والرابع الهجريين، أوسعَ وأشملَ من أي مرجع آخر من هذه الحقبة.


كتاب جديد
أخرجت دار المرايا، وهي دار شابة تُصدِر أبحاثاً نقدية قيِّمة في السياسة والاقتصاد والشأن العام، كتاباً هاماً بعنوان "ما السياسي في الإسلام: الحركات الإسلامية وصخب السياسة"، يقدم تحليلات مهمة فيما يخص تفاعلات الحركات الإسلامية في مصر.
وعلى الرغم من مضمون العنوان، فالكتاب يحتوي على دراسة لمؤسسة علمية، لا حركة إسلامية. هذا الكتاب المكوَّن من أربعة فصول، تقع في 149 صفحة، يقدم لنا إشكاليات وأفكاراً قيِّمة في التعامل مع الأفراد والجماعات الدينية التي ظهرت على الساحة السياسية بعد 2011، وخاصة جماعات: الإخوان المسلمين، والسلفيين، والجماعات الإرهابية في مصر. ومن هذه الأفكار المهمة التي طُرحت في فصول الكتاب: الدولاتية والسيولة والعلمنة والجيل

الاجتماعي.
يقدم لنا محرر الكتاب مصطفى عبد الظاهر في مقدمته وكذلك فصله الأول "الدولة واللامبالاة السياسية في تجربة الإخوان"، مداخلَ مفاهيمية مفيدة للمهتمين.
يبدأ عبد الظاهر مقدمته مؤكداً أهميةَ مشكلة تغاضي الباحثين في الفكر والتاريخ السياسي الإسلامي عن دراسة التشكيلات الاجتماعية والتاريخية، والتوجه بدلاً من ذلك بهوس شديد إلى محاولة الوصول إلى 'جوهر' الإسلام. يؤكد عبد الظاهر أيضاً إشكالية تطور الأديان علميّاً تطوراً أفقيّاً لا رأسيّاً، أي بناءً على تبويبات مسبقة ظهرت في أزمنة مبكرة (كأبواب العبادات والمعاملات في الفقه مثلاً)، وليته أصَّل لها وفرَّع عليها فيما يخص محتوى الكتاب؛ إذ إن تلك التبويبات قد مرت بتطور تاريخي كذلك، والواقع لما يكن أبداً تجلياً مباشراً للإملاءات المباشرة من الكتب، وأيضاً تجددت تلك الاستشكالات الموجودة إما في فنون أخرى، أو في المطولات مثلاً، التي بها محتوى تجديدي مهمٌّ من ترجيحات، والتجديدات قلما جرى الوقوف عليها.
أكد المحرر أن المبادئ الأساسية التي سيدور حولها العمل هي الدراسة 'من أسفل'، وتحديد إطار البحث حول الشأن المصري، كذلك الاهتمام بدراسة التاريخ الحديث للظواهر بدءاً من 1967. وعلى الرغم من أهمية هذه الأطر ودقتها، فإننا لم نجد تغطية كافية للحركات الإسلامية من أسفل، فلا نجد اهتماماً كافياً بتواريخَ أو مروياتٍ أو وجهات نظر شخصية لأفراد خارج دائرة السلطة في هذه الجماعات، إلا بعض الحوارات المتعمِّقة، التي بُنِيَ عليها فصلُ زينب البقري عن مؤسسة "شيخ العمود" العلمية، التي أظهرت بناءً عليها استنتاجات مهمة.


السياسي في الإسلام
في فصل "ما السياسي في الإسلام؟ الله والدولة واللامبالاة السياسية في تجربة جماعة الإخوان المسلمين" يأخذنا مصطفى عبد الظاهر في متوالية تحليلية كي ندرك كيف أصبحت جماعة الإخوان دولاتيةً مهووسة بالرغبة في قيادة الدولة، وكيف أثَّر ذلك في تكوينها داخليّاً، الأمر الذي دفع بها إلى عدمية إسلامية من نوع خاص، يستعير مصطفى فكرتَها من ياسين الحاج ويبني عليها؛ عدمية أساسُها فرط وجود الله (وليس ’موته‘ كما في الفكر العدمي الغربي) في المسائل الكبرى.
كل تلك الأمور جعلت من الإخوان حركةً نفعية متسلِّطة، تستحل التبرير والتنقل النفعي بين الجناحين السياسي والدعوي. وتسجيل تاريخ الاتجاه الدولاتي للإخوان مهم جدّاً، وكنت أتمنى

بعض التفاعل مع الفكر الإسلامي - بتمسكه بالتعددية القانونية المخالِفة للنظام الحتمي للدولة القومية، وتأكيده على دور الفرد العالِم لا المؤسسة مثلاً- والدولة القومية الحديثة، والمقارنة ولو باقتضاب ببعض التجارب ذات الصلة لحركات لها فِكرٌ مغاير حول الدولة، مثل فكر بديع الزمان النورسي وأثره مثلاً.
في فصلها المُحكَم "تكوينات شباب الإسلاميين الاجتماعية: مدرسة شيخ العمود نموذجاً"، تحاول زينب البقري فَهمَ التكوينات التي أنشأها واتجه إليها جيل الشباب المستقلين والمنشقين عن الإخوان، الذي يُعد غالبية مَن اتجهوا إلى هذه المدرسة، وذلك بالتعامل نقديّاً مع نظريات حول الجيل الاجتماعي وذاكرته وبنيته الجمعية. ولهذا قدَّمت تقسيماً خماسيّاً لأجيال الإخوان، منذ بداية تأسيس جماعتهم حتى الآن، حتى تصل إلى سبب اتجاه بعض المنشقين لهذه المدرسة وما يماثلها. وتوصلت الباحثة إلى كثير من الاستنتاجات المهمة المبنية على مقابلات عديدة مطوَّلة مع طلاب المدرسة، وخلفيات اشتراكهم فيها. ووضعت تلك الخلفيات المختلفة (أزهريون، وسلفيون، ونشِطون في العمل الطلابي) في إطارٍ أوسعَ، هو ما أسمته "الإسلام بالمشاريع والعمل الخيري"، الذي لا يغفل تأثيرَ العقليات الناشئة عن مهن المتدينين وتأثيرها على تديُّنهم (كالمشاريع الدينية الشبابية المستوحاة من "الستارت أبس".
وهنا ملاحظة نظرية، فالتعامل مع الحداثة والحراك السياسي هنا لا يتعدَّى "السيولة" الحداثية الرائجة بين الباحثين المصريين، فـ"شيخ العمود" - إذا استخدمنا الصورة البلاغية نفسها - بوصفها مؤسسةً علمية، هي أيضاً مظهرٌ لعمل في الاتجاه المخالف، أو "للتصلب"؛ وذلك لاسترجاعها المنهجَ العلمي للمذهب السُّني التقليدي الأزهري المتصوف في تدريس المتون العلمية المعتمَدة، بعيداً عن النهج الإخواني، ولو بشكل مرِن، مع التكامل مع أطروحات من العلوم الاجتماعية. لذا، فالتعامل مع الحداثة والسياسة معقَّدٌ، ويحمل في طياته تناقضات عِدة.
تؤكد الباحثة أن جميع الممارسات التي أحصتها تشترك في اشتباكها مع أدبيات الإسلاميين ومن ثَم تجاوزها، وتقدم خمس إشكاليات وتناقضات داخلية شديدة الأهمية، أرى اشتراكَ المتدينين جميعهم في التصارع فيها، منها ما سببه "التصلب"، كاعتبار العلم الشرعي (وحده) سبباً للخلاص، ومنها ما تفسِّره "السيولة"، كعدم ثبات تنظيم المؤسسة ورؤيتها العلمية، ومحاولة ممارس الشعائر الدينية البحث عن شبيهٍ داخل المؤسسة.


 الممارسة السياسية للسلفيين
في "السلفيون في مصر: براجماتية الدين والسياسة السلطة" يقدم محمد توفيق أطروحة لفهم فلسفة الممارسة السياسية لسلفيي مصر. وقد أحسن الباحث في تقديمه خريطةً موسعة للسلفيين المصريين وأطيافهم (العلمية والحركية والتعبدية واللاسياسية)، وفي رصد "التعلمن" الجزئي لبعض جماعاتهم بوصفه نتاجاً لدخولها المجالَ السياسي بعد الثورة. ومنظور "السلفي" هذا، أي انتهاج منطق المصلحة والمفسدة مسوِّغاً للحداثة السياسية، منظور مهمٌّ، ويمكن تطبيقه في التحليلات الأوسع (وإن كان له ما يماثله من داخل منظومة علم الأصول). تناول محمد توفيق بالتحليل كذلك ظاهرةَ سد الأحياز والفراغات والحضور التي سبقت السلفيةُ إليها، ولعل كونها حركةً طهرانية حداثية ينطوي على مركَّبات حداثية في عصر ما بعد الحداثة، فانقلابها على السلطة العلمية والتطور التراثي المذهبي السُّني الأوسع، وإيمانها بأن لأي فرد قدرةً على التفسير المباشر، وكذلك رفْض الكثير من مركَّبات الميتافيزيقا الإسلامية، هو بعض أسباب هذا السبق.
ظاهرة سد الفراغات هذه مبنيةٌ على مغالطة مزدوجة نقع جميعاً فيها؛ مفادها الاعتقادُ بأن الأساس أن تملأ الدولة بشموليتها المعهودة جميعَ الفراغات أصالةً. وقد نتج عن دخول السلفيين في السياسة هنا تناقُضٌ ظاهرٌ؛ هو تقديس الدولة وهيبتها ودستورها، ولا سيما عندما يناسب الأمرُ أهدافَهم السياسية.


الحركات الجهادية المصرية المعاصرة
أما فصل "الحركات الجهادية المصرية المعاصرة"، فينبه فيه مؤلفُه مصطفى زهران، بعد تحليل مستقصٍ لتركيبات الجماعات الإرهابية في مصر، على أهمية دراسةِ وفهمِ كلٍّ من هذه التنظيمات على حدة، ومعرفة شخصيتها وتركيبتها، خاصةً إذا أردنا أن ننجح في استئصالها. يؤكد البحث على المرونة الجغرافية النسبية لهذه التنظيمات، على الرغم من تمركزها في

مساحات محددة، وكذلك كونها تتجاذب بين قُطبينِ أساسيين هما ولاية سيناء/ الدولة الإسلامية من ناحية، وتنظيم القاعدة من الناحية الأخرى، مع وجود ملامحِ مناهجِ مختلفةٍ لكلٍّ منهما. ويُظهِر التحليل المتأني عودة الإنتاج العقدي بعد الثورة بين هذه التنظيمات، ووجود مدرسة تنظيرية جديدة لهذه الجماعات، بناءً على أفكار المفكر القطبي رفاعي سرور.
تأتي أهمية هذا الفصل في التأكيد على أهمية عدم وضعِ كلِّ التنظيمات في سلة واحدة، وكذلك الحالة المتعسِّرة لعملية السلام والبطش الإسرائيلي، والتأثيرات الحتمية لهذا كله على الوضع الأمني في سيناء.
أخيراً، هذا الكتاب يُعدّ إضافة مهمة للمهتمين بالإسلام والسياسة، وخاصة بسبب المنظورات المبتكرة لكاتبه. ومن المهم أيضاً توسيع دائرة البحث لتشمل فئاتٍ جديدةً تأثرت بالسياسة من بعد الثورة، كالصوفية على الرغم من فشلهم في إنشاء كِيان سياسي، وصعود بعض رموزهم للمناصب العليا في السلطة، واستحواذهم على محطات فضائية، وجهودهم التفسيرية الحثيثة في دعم النظام. وكذلك الجماعات الرأسية، كالمجموعات الدينية ذات الاهتمام المشترك على الإنترنت، والجماعات النسوية الدينية.
يقدم هذا العمل طرحاً قيماً وأفكاراً جديدة، ويستثير أيضاً الاشتباك مع أفكار الفلاسفة الغربيين، مثل ألسدير ماكنتاير، حول تكوين المجتمعات الدينية في العالم المعاصر، والشرقيين، مثل طه عبد الرحمن، حول أخلاقيات العمل الإسلامي، وبذلك يفتح الباب لطرق جديدة لفَهم تقاطعات الإسلامي والسياسي، والتعامُل معها.


*باحث ومدير تحرير سابق في دار نشر الجامعة الأميركية بالقاهرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.