}
عروض

"ثلاثية الأجراس": تمثلات المحو والبقاء في صراع الفلسطينيين (2/2)

رزان إبراهيم

14 يوليه 2019
أدوات البقاء
عموما تتوسل "ثلاثية الأجراس" (ظلال المفاتيح، سيرة عين، دبابة تحت شجرة الميلاد) لإبراهيم نصر الله الصادرة حديثاً، أدوات البقاء المعمول بها بين الفلسطينيين متحدية منطق المحو الإسرائيلي ولهذا الأمر تمثلاته المتنوعة، نذكر منها الآتي:

مفتاح العودة
وقد كان حضوره قوياً بدءاً من النزوح الكبير حين كانت أصوات المفاتيح المعلقة في رقاب النسوة تتردد مثل قرع جرسيات كنائس مهدمة، تسمعها (مريم) فتبكي ويحيرها كيف ترتطم المفاتيح بعضها ببعض، ويصدر عنها هذا الصوت الحزين، مع أنه ليس هناك سوى مفتاح واحد معلق على صدر كل واحدة من النساء حولها، وعندما اختفت القرية تصاعدت أصوات المفاتيح أكثر. وهي (مريم) التي لم تكن تسمح لأي كان بالعبث في هذا المفتاح الذي علقته على رقبتها منذ النكبة، ولا حتى التظارف فيما يتعلق به، وهي التي كانت تتحسسه كما لو أنها تتحسس ظلها وتهدهده لتطمئن أنها لم تزل على قيد الحياة.

محاولات العودة والثبات على الأرض
ظلت البيوت مع الفلسطينيين، لا تغادرهم، وكأنها هاجرت معهم. من هذا الباب لم يجرؤ زوج (مريم) على شراء قطعة الأرض التي يمكن أن يبني عليها بيتاً بعد ترحيله من بيته في قريته، وكان حريصا على أن لا تغيب هذه القرية من عينيه. أبعد من هذا تضعنا الرواية أمام مشهد مؤثر نرى فيه (أم جاسم) عام 1987 وقد أعادت بناء قريتها كما كانت تماما قبل أربعين عاما: البيوت، والمضافة، والمسجد، والكنيسة، والمدرسة، والأسوار عن طريق خطوط من الحجارة وضعتها مكانها، بدت كما مخطط واضح ينتظر الرجال كي يبنوه. وكأنها في عملها هذا تتحدى في سرها (ناحوم) الذي وإن محا رأس السرو تماما من على الأرض، إلا أنه لم

يكن قادراً على محوها من ذاكرتها التي مكنتها من إعادة البناء وحدها. لذلك يقول ناحوم: "يخرجون من ظلال مفاتيحهم التي طردناهم منها ويعيدون بناء كل شيء من جديد". لكن حتى هذه الحجارة التي أعادت بها مريم رسم قريتها من جديد قامت الآلة الضخمة العسكرية بتجريفها. ليس هذا وحسب، فبتتبع (ناحوم) الذي يصبح قائد الهاجناه، فإننا نراه بعد تدمير القرية العربية حريصا حتى على محو ظلال البيوت والشجر والأسوار وكل ما قد يشكل ظلا هو منارة ترشد الفلسطيني للعودة. لذلك فقد كان يفكر بأنه "يملك مفتاح التفجير الذي طير بيت أم جاسم ومحا القرية برمتها" يواجه به مفاتيح البيوت الفلسطينية.

الكاميرا بين البقاء والمحو
في "سيرة عين" نلمس مسعى هذا الجزء إلى ترسيخ فكرة البقاء من خلال كاميرا (كريمة) ابنة راعي الكنيسة الإنجليزية اللوثرية، المولودة عام 1893 في زمن كانت مهنة التصوير فيه حكراً على الرجال وحدهم. جدير بالذكر هنا تركيز هذه الثلاثية على دور إيجابي لعبته المسيحية في فلسطين، لذلك تنقل لنا الرواية سؤال الأب مانويل الخوري الإيطالي: "كيف يمكن لمسيحي أن يحب دينه ولا يحب فلسطين؟ الدفاع عن فلسطين هو جزء من الدفاع عن يسوع"؟. عودا إلى (كريمة) صاحبة العزيمة والموهبة التي نجحت في أن تكون أول فتاة تشق دربا كأول مصورة في فلسطين كلها، وربما في بلاد العرب جميعها، يوقعنا السرد في محطات من الدهشة ونحن نرقب هذه الشخصية التي طاردها الموت هي وأفراد عائلتها في أكثر من موقف يستدعي الإعجاب، فنراها تصور ما لم يستطع مصور من الرجال من قبلها أن يصوره، وتدهشنا أكثر إذ تتعامل مع الكاميرا يدا امتدت إليها كي تنقذها من الموت، لأنها بكل بساطة منحتها فرصة التأمل والتنقل، بدلا من الجلوس مقيدة، وكانت تقول: "صورنا أقوى من أسمائنا". وإن كان الذبول هو مصير الإنسان حين تفارق الروح الجسد، فإن "الصورة تزداد قوة كلما مر الزمن وأصبحت أقدم". بل إن (كريمة) ذهبت إلى أبعد من هذا حين قادت السيارة وهي ابنة القس في بيت لحم. أما أن تكون للصور التي تلتقطها (كريمة) هذه القوة، فلخصوصيتها باعتبارها الشاهد على ممارسات الجنود الإنكليز الذين

يغلقون كنيسة المهد ببنادقهم وعرباتهم العسكرية، إضافة إلى أن الصورة "هي حافظة الذاكرة التي تستبقي الشخوص مهما حدث لها، سواء رحلوا للبعيد أو اختطفهم الموت، تبقيهم أطفالا أو شبابا كما لو أن الزمن لم يستطع النيل من تألقهم".
إن كانت الكاميرا مظهر حياة واجهت بها (كريمة) أشكال الموت، فإنها تعود إلينا بوجه آخر مع والد ناحوم (موشيه) القادم من برلين الذي يستغلها أداة محو يتم تنفيذه من خلال صور تتجاوز مجرد كونها سلطانا يمتلك الزمان، لتصبح بين يديه سلطة كبرى لامتلاك المكان. هنا تأخذنا الرواية للخوض عميقا في علاقة جدلية بين البندقية وكاميرا عمياء تلتقط صورا لفلسطين وفق تعليمات معينة أفرزت ثلاثة أنواع منها؛ (صور الطبيعة الجميلة جدا، صور المناطق الجرداء، صور الكيبوتسات الرائعة التي بنوها). أما الشيء الذي لن يظهر في الصور فهم العرب، مع تبريرات جاهزة تقول لموشيه الذي رأى قراهم ورآهم بأن: "اللعنة حلت على هذه الأرض منذ صلبنا المسيح ولذلك لم يسكنها أحد".  فكان على (موشيه) آنئذ وفقا للتعليمات أيضا أن لا يسمح للكاميرا أن تراهم: "الكاميرا لن تراهم لأنك لن تصور أيا منهم، لأنه غير مسموح لك بأن تصور أيا منهم".
مرة أخرى يأتي منطق المحو الإسرائيلي بحجة استعادة المكان الذي يدعي خروج الأجداد اليهود منه قبل ألفي عام متماثلا مع منطق السمسار الذي يأتي بخفة يد النشال وذكاء الثعلب، ينقل المكان من يد إلى يد حتى وإن بقي في مكانه. يحيلني ما تقدم حول صور مفبركة إلى ما يورده إيلان بابيه عما فعلته الدولة الصهيونية بصور روجت لها بعض المواقع الإسرائيلية الحكومية، هدفها إظهار فلسطين صحراء مقفرة جرداء قبل وصول الصهيونية، خلافا لرواية تاريخية موثقة تكشف مجتمعا يشبه باقي المجتمعات العربية، وكان على وشك دخول القرن العشرين كمجتمع حديث لا يختلف كثيرا عن دول الشرق المتوسط، بل إن فلسطين كانت في طور التطور كدولة قبل وصول الصهيونية على أيدي بعض الحكام المحليين مثل ظاهر العمر 1690 – 1775. وهو ما يأتي منسجما مع ثلاثية تنحو باتجاه فهم أفضل حول الكيفية التي عاش بها الفلسطينيون عشية الاستيطان الصهيوني.
انسجاماً مع ما سبق، فلا غرابة إذ نرى (موشيه) كارها لطبرية لأنه لم يستطع أن يخليها من الناس، وهو يعني هنا الفلسطينيين لأنهم كانوا يملأون المكان كله بشوارعه، وبيوته، ونوافذه، وحقوله، وبياراته، وبسياراتهم وعرباتهم، ويعبرون البحيرة بمراكبهم. إذن نرقب (موشيه) مرارا وتكرارا يقتل الصورة تماشيا مع رغبته قتل الفلسطيني تأكيدا لفكرة أنه لا وجود له وأنه سيموت قبالة الإسرائيلي الذي يعيش، لذلك تجده وقد هوى قلبه حين رأى في إحدى الصور

امرأة فلسطينية وطفلها الممسك بطرف ثوبها، "صعق وانتظر اللحظة التي تنفجر فيها الكاميرا أو تحترق وتذوب. أحرقها لاغيا أي أثر للفلسطينية وطفلها. حتى النجاتيف أحرقه". وهو ما يأتي متفقا مع ما يرد في التوراة من أن المنطقة كان يسكنها الهمج وحدهم، وعند خروج هؤلاء، ومن بعدهم خروج المسيحيين، تركت المنطقة في أيدي الوثنيين المسلمين الذين يسيطرون عليها، وأن الوقت جاء كي يحررها اليهود الكتابيون منهم، لنكون قبالة مفاهيم مكانية انطباعية يتم تجنيدها لتطبيع العلاقة الاستعمارية. في هذا الشأن تقول الرواية: "لقد بنى هذا العدو أسطورة احتلاله لفلسطين بأنها كانت صحراء، وسيحولها إلى جنة! ولكن فلسطين كانت دائما جنة، وكل ما يفعله الاحتلال هو تحويلها إلى صحراء". هذا لم يمنع صورا تذهب إلى يهود أوروبا تستغل الطبيعة مظهرة فلسطين أرضا للبن والعسل تدعوهم إليها كي يسكنوها.
تحضر المفاضلة بين الكاميرا والبندقية على نحو لافت في الرواية، فكلتاهما بعين واحدة ويحتاج مستخدمهما المتخفي أثناء عمله إلى التأكد من وجود الرصاصة أو الفيلم. ليغدو الجندي والمصور صنوين، كلاهما يقوم بعملية shooting، وكلاهما لا يصيب الهدف في الظلام إلا إذا أراد المغامرة، لأن إطلاق النار سيكشف مكان الجندي، واستخدام الضوء في الصورة سيكشف مكان المصور. أما عن غاية القتل، فبرصاصة البندقية تستطيع أن تقتل شخصا أو اثنين، لكن بالكاميرا تستطيع أن تبيد مدينة حين تخليها من سكانها، فتكون وسيلة إفناء، بل إن صورة جيدة ستدفع ألف يهودي للهجرة إلى فلسطين، مع احتمال أن يكون بعضها أعمى فلا يصيب.  في النهاية يقرر (موشيه) الانضمام لمنظمة عسكرية صهيونية ويتخلى عن الكاميرا لأنه أراد قتلا مؤكدا وليس محتملا كما الذي توفره الصورة.
من هذا الباب يخترق النص في الجزء الثالث حرب الصور مع (كريمة) التي تنشر لتثبت أن صورهم كاذبة، وأن للبيوت أصحابا عرب، لذلك فكروا في التخلص منها. علما أن هذا الاختراق في السرد الذي يتكرر عبر أكثر من موقف يستدعي فيه الراوي شخصيات ألفناها من قبل في الثلاثية، يحيلنا إلى مهارة استدعاء حلقات سردية سابقة تكسر التوالي والتتابع، دون الإخلال بالتنظيم الزمني والمنطقي للأحداث، لنكون قبالة نسق من التوازي تعالقت فيه مكونات المتن السردي، وأخرجت لنا محاور وشخوصاً تعاصرت زمنيا، وإن اختلفت في مكان وجودها في السرد، بما يفضي إلى ضرب من ضروب الاندماج العضوي رأيناه وقد تحقق عبر مشاهد مختلفة في الجزء الثالث من هذا المنجز السردي قيد القراءة.
يبقى أن الرواية من خلال الراوي/ الشخص الثالث الذي لا يشترك في الأحداث، وإنما يروي القصة متغلغلا في كوامن الشخصية التي يحكي عنها، تمكنت من الإمساك بمواقع الإدراك الجمالي من خلال تبنيها لجملة من الدوافع النفسية والوجدانية، تنقلها عن أصحابها محققة بعدها الدرامي الذي ازداد عمقا مع حضور أنثوي واضح دخلت فيه المرأة في تفاصيل دقيقة تصنع الحياة، بما في ذلك حكايات عشقية؛ كما حكاية (إدوار) الذي تزوج من أخت (إسكندر) حتى يبقى قريبا من (مارتا) المرأة الوحيدة التي أحبها، أو حكاية (جورج) العاشق القادم من أميركا.
نخلص مما تقدم إلى أن هذه الثلاثية التي هي جزء من مشروع الملهاة الفلسطينية الكبير خاضت في واحدة من أكثر تجارب الأمم مرارة وتعقيدا، وهي تجربة الاحتلال الإسرائيلي، ومعها لا نملك أن نخرج عما كان فانون قد وصف به المستعمر بكسر الميم من أنه عنف هائج وقوة عمياء تعبر عن علاقة بين ذاتيتين تحاول كل منهما محو الأخرى، وهو ما ترصده سطور الرواية أثناء نقلها صورة الإسرائيلي الذي يعمل بلا انقطاع على تجريد الفلسطيني من ذاتيته الإنسانية لتبرير الانتهاك المستمر له، ويستخدم دون توقف كل أنواع التحطيم المادي الممكنة كي يمحوه من الوجود، بما يستلزم فعلا مضادا لا يعدو كونه استجابة حتمية طبيعية من حق الفلسطيني أن يختار منها ما يناسبه لإحباط كل أشكال الإزاحة والإحلال التي يمارسها هذا المحتل الشرس،  وهو ما تبرزه هذه الثلاثية التي تثبت مرارا وتكرارا أن الفلسطيني يعلم جيدا ما يفيد بأن قدره في الحياة مرتبط بمحو الاستعمار الجاثم عليه المتسبب في آلامه، وهو ما عبرت عنه بالقول: "مع وجود بندقية في يد الجندي الذي يحتل أرضك، أنت دائماً مشروع شهيد".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.