}
عروض

الفساد النسقي والدولة السلطوية.. حالة الجزائر منذ الاستقلال(2/2)

بوعلام رمضاني

10 يوليه 2019
التضحية بالمصلحة العامة
من الأسماء الفرنسية القليلة، التي استعان بها الدكتور محمد حليم ليمام في كتابه "الفساد النسقي والدولة السلطوية... حالة الجزائر منذ الاستقلال" والذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعد ترجمته من اللغة الإنكليزية، من أجل تحديد وتثبيت مقاربته المنهجية لتحديد المفاهيم ومعالجة الفساد النسقي بصفة كاملة وعميقة، إيف مونييه الذي عرّف الفساد في دراسته "الفساد السياسي والديمقراطية" الصادرة في صيف عام 1995 "بأنه عبارة عن مبادلة سرية بين السوقين السياسية أو الإدارية والسوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي مبادلة سرية لأنها تنتهك المعايير العامة القانونية والأخلاقية، ويتم خلالها التضحية بالمصلحة العامة لخدمة مصالح خاصة من خلال صفقات وعقود تمويل بكيفية منحازة تفتقد إلى الشفافية والمنافسة وتجلب للفاسدين منافع في الحاضر وفي المستقبل لهم وللمنظمة التي ينتمون إليها".
ويعتبر "الفساد في الجزائر نسقيا لأنه يتحول إلى قاعدة وليس استثناء" (الفساد العرضي الذي يقوم على مخالفات المسؤولين والإداريين)، ولا يعتبر أيضا فسادا منتظما ومهيكلا أيضا لأنه يتجاوز مفهوم استخدام الرشوة بشكل متكرر والتي تبلغ مستوى الفضائح الإعلامية والشعبية ليبلغ مستوى حالة المستوى النسقي بعد تحول جميع الفاعلين في الدولة وفي المجتمع الى شركاء في ممارسة الفساد ويتصرفون بما يتعارض والمصلحة العامة. هذه الوضعية يسميها الباحث حكم الفساد، الذي يتحول إلى منهج حكم تشيع بموجبه ثقافة تفرضه كمعيار جبري على كل فواعل الحكم، وفي وضع مثل هذا تكون مقاومة الفساد مغامرة قد ينجر عنها انهيار النظام، وتاليا تُلغى آليات المساءلة وتسود ثقافة اللاعقاب.
وتكمن قوة الكتاب العلمية التي أشرنا إليها منذ البداية، في تجاوز المؤلف المنهج التحليلي القائم على فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع بناء على نظريات التحديث والتحول والتبعية التي يعتبر نقادها أنها فشلت في إدراك الواقع وشتى الظواهر المطروحة مثل السلطوية. واعتمادا على منهج متعدد وهو منهج تحليلي تاريخي وصفي مقارن، راح الدكتور ليمام يوفق باقتدار بين السيطرة على طبيعة الموضوع المعقد باستنطاق مقاربات ونظريات مختلفة وبين تفادي الوقوع في فخ النظريات والإحصاءات الخاصة بإدراك الفساد والتي تقدم عادة نماذج نظرية قد تصلح
لفهم الظاهرة في البلدان المتقدمة، في حين تعجز عن فهمها بشكل معمق في بلد مثل الجزائر. واعتماد المؤلف على المقاربات الجديدة أكد ورسخ أهمية الفرضيات والأهداف العلمية المتوخاة والقدرة على الإمساك بالإشكالية العويصة والعميقة، وأدى إلى هيكلية منهجية متراصة الجوانب وغنية المغزى والنتائج.
ولعل عرض الكتاب أو العودة إليه في الظرف الجزائري الحالي يعني نجاح صاحبه في اختيار الموضوع الهام بمبدئيته في سياق معايشته كعربي فساد بلد لا يختلف جوهر فساده عن فساد الدول السلطوية بوجه عام، وفي توخي المنهج الشامل والمتعدد الذي يسمح بفهم تحول الفساد إلى نظام حكم وبالوقوف عند نموه بسرعة خارقة كمؤسسة قائمة في صلب مجتمع أضحى فيه الفساد معيارا جبريا يفرض نفسه على الجميع. واليوم ليس من الغريب انطلاقا من هذا المعطى أن يدعي فاسدون نسقيون محاربة فاسدين نسقيين مثلهم الأمر الذي يعطي مصداقية دامغة لشعار الحراك الجزائري "يتنحاو قاع (لينقلعوا كلهم)" والذي أصبح عالمي السمعة حتى وإن اعتبر نظريا وعمليا خبطة رومانسية في مرحلة أولى تتناقض مع مفهوم الفساد النسقي. وقاع (الجميع) هي الكلمة التي تقابل حديث المؤلف عن فساد يفرض نفسه على الجميع، وعليه فكيف يقتلع الفاسدون الكليون فاسدين كليين مثلهم أي نسقيين كما جاء في عنوان الكتاب في شهور أو أعوام قليلة في ظل استمرار وجوهه وصناعه ومنسقيه ومهندسيه الذين يحاسبون بعضهم البعض هذه الأيام في جزائر الفساد النسقي بانتقائية التغير الشكلي في دوائر نظام الفساد العصبوي العصاباتي؟

الفكر الأنجلو ساكسوني وليس الفرنسي
لتطبيق المناهج التحليلية في الدراسات السوسيو أنثروبولوجية وكما أشرنا في صدر المقال، زود المؤلف نفسه بترسانة من كبار المحللين الأنجلو ساكسونيين الذين شرحوا مفهوم الفساد النسقي انطلاقا من حقيقة غزارة البحوث الأميركية وندرتها في العالم العربي، واعتماد مقاربة عالم السياسة مايكل جونستون والإشادة بوطأته العلمية في مقدمة الكتاب لم تكن إلا واحدة من المقاربات الأخرى التي أحاط بفضلها الدكتور ليمام بماهية الفساد النسقي طولا وعرضا وأفقيا وعموديا على النحو الذي يشفي غليل قارئ عربي يرزح تحت نير فاسديه من الحكام المستبدين. ووضع جونستون أربع متلازمات لفهم الكيفية التي تسمح بتغلغل الفساد، والظروف التي تؤدي إلى غلبة المفسدين من الساسة والأثرياء واستبدال مبادئ النزاهة بقاعدة النهب المنظم، ومن خلال المقارنة بين البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية والأنظمة السلطوية يستنتج جونستون المتلازمات الأربع كما سيأتي معنا.
اعتمد الدكتور ليمام أيضا في رحلته الشيقة والصعبة سعيا وراء معالجة شاملة للفساد النسقي، على أفكار علماء سياسة أميركيين آخرين مثل منصور أولسون في تفسير سلوك الجشع الذي يميز الممسكين بالسلطة، وبربرا غيدس في فهم منطق الفرد الحاكم، وبروس بيونو دو مسقيتا، وانطلق هذا الأخير من فرضية عدم استطاعة أي حاكم السيطرة على الحكم بمفرده لولا الحاشية التي تضمن له الاستقرار وتاليا لا مندوحة من أن يستخدم الفساد ويؤيد استخدامه لشراء الولاء والدعم المطلوبين لبقائه. وأنا أنقل هذا الكلام على لسان مؤلف الكتاب، تأسفت لعدم تكريم الباحثين الأميركيين المذكورين في حراك قيل إن "حزب فرنسا" قد اخترقه بقوة.
والرئيس بوتفليقة الذي خلع شكليا ما زال حاضرا ببطانته العميقة والسميكة حسب جونستون ما

دامت الحاشية التي تركها الرئيس تُعتبر لغما متعدد الشظايا ومتغلغلا في كل دواليب الإدارة وفي المجتمع بوجه عام، كما مر معنا في تعريف الفساد النسقي. ومن هذا المنظور ما من لغة ولا عرق ولا توجه أيديولوجي أو ديني سلم من وطأة إرث الفساد الموروث كولونياليا، وهو الفساد الذي تم تشجيعه وتكريسه بكل لغات المسؤولين السياسيين والمثقفين الذين آمنوا بخرافة الاستقرار السياسي الكاذب والمخادع تحت رعاية فرنسية وغربية يؤيد ممثلوها حكم رئيس يحمل كصورة باسم محاربة الإرهاب الإسلامي الذي أصبح سلاح غرب لتأجيل موعد العرب والمسلمين مع الديمقراطية والحرية والكرامة والاستقلال الحقيقي.

مقومات السلطوية والفساد النسقي
ساعة حديث العالم البعيد والقريب عن طريقة محاربة الفساد النسقي في جزائر ما بعد بوتفليقة الشخص وليس ثقافة الفساد المفخخ والملغم على أكثر من صعيد اجتماعي وإداري، يأتي عرض كتاب الدكتور ليمام الآني أكثر من أي وقت مضى للفت انتباه السذج من الأميين والمتعلمين والمثقفين والواهمين والمؤمنين بالتغيير الموعود بقدرة قادر أن حياة الفساد النسقي أدوم وأبقى من صناعه الراحلين بشكل أو بآخر، ومتلازماته الأربع كما جاءت في مخ جونستون لا تدع مجالا للشك في خطورة وشقاء مقارعة الشعب لبقايا محترفي الإضرار بالأخضر واليابس وبالبلاد وبالعباد وبالجن والأنس بدم بارد وبضمير ميت لا يمكن للعقل السليم تصورهما.
في حديثه عن متلازمات الفساد وتحت عنوان "مأسسة القوة البريتورية بدلا من مأسسة الدولة" أكد المؤلف أن عسكرة النظام ظاهرة وليدة دولة الاحتلال وحصيلة التجربة الكولونيالية فهي لا تؤرخ بانقلاب يناير 1992: "لقد تدخل العسكر عشية الإعلان عن تقرير المصير وكان القوة الوحيدة والموحدة إلى حد ما (كلام يكرره ويعتنقه أنصار العسكر من المثقفين والسياسيين المدنيين) ولدى قادته شعور بمسؤولية عظمى تتلخص في إقرار النظام وتجاوز حالة الانهيار (كلام القايد صالح اليوم) وإنجاز مشروع الاستقلال ببناء الدولة. تصور القوة البريتورية ناتج عن استعمال القوة للاستيلاء على المجال السياسي ظنا منها أنها أكثر مواطنة (أكثر وطنية في نظر أنصار القايد اليوم لأن المواطنة مفهوم دخيل في نظرهم كالمجتمع المدني) من السياسيين الفاشلين المثيرين للفتن (سبحان الذي يقدر على استباق الأمور). ومنذ اللحظة الأولى التي انقلب فيها جيش الحدود وقيادة الأركان العامة على الحكومة المؤقتة، صارت "مجموعة البريتوريين" هي من يتولى مقاليد الحكم في البلاد من خلال اصطفاء رؤساء الجمهورية تباعا بداية من بن بلة أول رئيس جمهورية". وتغول جهاز المخابرات وتغلغله في مسام الجسم الدولتي هو الذي تفاوض مع الرئيس بوتفليقة لرئاسة البلاد قبل أن يحاول إلغاء عسكرة الدولة لإتمام استحواذه على كل السلط ودوائر صنع القرار، واستخدام القذارة التي سادت أثناء حرب التحرير من خلال الاغتيالات والمؤامرات والتلاعبات وكبح كل معارضة والتخلص من المناوئين مثلما ما حدث في تسعينات القرن الماضي، واليوم باتت البلطجة السياسية أو حتى الاجتماعية مسلكا لتحريف كل مطلب ينادي بالتغيير أو لترويع الناقمين على الأوضاع القائمة.

النيوبترومونيالية والفساد النسقي
في ثاني مقومات السلطوية الفاسدة، تحدث الدكتور ليمام عن النيوبترومونيالية الريعية والقبلية متوقفا عند مفعولها من خلال حكم الزعيم الذي يدير الحكم بشكل شخصي انطلاقا من بن بلة ووصولا إلى بوتفليقة. ويحكم الزعيم في إطار العصبة السيطرة المديرة للسلطة والثروة بشكل خفي بعيدا عن قواعد لعبة سياسية واضحة وفي سوق تنافسية الأمر الذي يؤدي إلى تغول

الأولياء الزبائن ويكون الانتفاع السياسي والمالي مرمى للتنافس بينها، ومن خلال اللعنة الريعية استحدثت صفقة استبدادية أدت إلى احتكار أقلية للتوزيع السياسي للريع النفطي. ومع بوتفليقة زادت القبلية والجهوية كمحركين تاريخيين منذ الاستقلال للنظام البترومونيالي، ولغلق كل منافسة سياسية أعاد بوتفليقة الزوايا والطرقية والصوفية لتعزيز الشرعية الانتخابية والدينية كما جاء في دراسة إيزابيل ويرنفلس خلف الحكم السلطوي "عودة بروز نظام الصوفية في المغرب السياسي"، ومقابل كل ذلك وعوض تحديث الدولة راح الرئيس الأخير يعمل على تهجين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني. متلازمات تمفصل ظاهرتي الفساد والسلطوية في الجزائر تمحورت حول الفساد العصبوي الرعوي مع بن بلة وبومدين وبن جديد والفساد الانتقالي الانتقامي مع الشاذلي بن جديد الذي ألغى البومدينية باسم الانفتاح، وفي مرحلة ثالثة تطور الفساد إلى مستوى العنف واللصوصية بعد فشل التجربة الديمقراطية القصيرة ووجد أصحاب السلطة الفعليون الفرصة سانحة للاستمرار في عسكرة الدولة والمجتمع مع دخول البد حقبة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والأمني. وبحسب المؤلف، فإن الجماعات المسلحة والتي لم يصفها بالإسلاموية لم تلجأ للعنف نتيجة تظلمها من جور نظام الحكم بل لأنها وجدت في العنف مسلكا للنهب في ظل الفوضى، وبلغت نسبة العمولات في الصفقات الخارجية 10 و15 بالمئة ولا سيما مع الشركات الفرنسية، وسجل الفساد في مجال التسلح مستويات كبيرة مع ارتفاع واردات الدولة من الأسلحة والمعدات الأمنية. واختتم بوتفليقة مسار ومسيرة الفساد ضمن المتلازمة الرابعة المتمثلة في فساد عصبوي عصاباتي لتوطيد مقومات الدولة السلطوية بإعادة ترتيب الوضع السياسي والإقتصادي بما يسمح باستمرار السلطوية من خلال تسوية ملف المأساة الوطنية وهو الملف الذي وجد شجبا من طرف المطالبين بمساءلة المتسببن في القتل والنهب والفساد لكن حاجة الرئيس وداعميه إلى توطيد أركان الحكم الفردي المطلق فوتت الفرصة مرة أخرى أمام مأسسة الدولة المدنية. وفي عهده كما قال المؤلف مُختتماً رحلته مع الفساد النسقي في الجزائر: "أضاف الشخصنة والعصبوية والاعتماد على ملوك المال الجدد أو القوى غير الدستورية"، على حد تعبير صديق شهاب رفيق درب أويحيا المسجون الذي كان يتهيأ لخلافة بوتفليقة. وشكل بوتفليقة ائتلافا من الضروريين وضمنه بطانة الرئيس التي تعمل كحكومة موازية في الظل. في هذه الحال تغيب آليات المساءلة ويصبح الخلط بين السلطة والثروة أمرا جائزا بحيث أن الدور الذي أصبح يؤديه رجال الأعمال في دعم نظام الحكم مقابل التمتع بامتيازات لا حصر لها جعل الفساد يتخذ شكلا عاديا.
وهذا هو حصاد قضايا الفساد وما أظهرته ملفاته في العقدين الأخيرين، بل إن الفضائح المعلنة لم تعبر عن تفشي الفساد بقدر ما أظهرت ولوج نظام الفساد في أزمة لا يكفي سرد أعراضها بل المطلوب تفكيك مقوماتها. فهل يقدر القايد صالح رمز عسكرة فاسدة على ذلك؟ سؤال ستجيب عنه الأيام والشهور والأعوام الجزائرية القادمة في ظل حراك شعبي يبدو أنه سيستمر في صنع التاريخ برغم قساوة وصعوبة المخاض الذي يشدّ العالم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.