وينوه الصكر، في تقديمه لكتاب "الربيع ليس صُدفةً" الذي رأى النور حديثاً ضمن إصدارات "دار ميارة للنشر والتوزيع بتونس"، إلى أن اختيار السيّد التوي الطبيعة مختبراً لحدوسه وأسئلته ومعتقداته تقربه كثيراً من الفلسفات الزهدية، دون ظهور مسمياتها؛ فهي ليست طاوية خالصة أو صوفية تقشفية، وليست كذلك رومانسية هروبية تقترح الطبيعة ملاذاً أو ملجأً إزاء عنف الواقع وشراسته، زاعماً (الصكر) أن الطبيعة التي يقترحها العمل الشعري (الربيع ليس صدفة) تنفي ذلك كله، وتهبنا حواراً جوّانياً وبصرياً في آنٍ واحد مع الطبيعة بكونها وجوداً حياتياً فيه ما في الموجودات من سلب وإيجاب. وحتى الوردة قد تكون مسمومةً: (حتى الوردة المملوءة سُمّاً هي أيضاً وردةٌ/ إجلالاً لموكب النهار تنفُضُ عنها قطرات الندى/ من يد الشمس تشربُ قهوةَ الصباح...).
ويقترب الصكر في سياق مقاربته لنصوص "الربيع ليس صُدفةً" من ما يشير إليه بـ"سكون عجيب يتفجر أخيلةً ومجازات صورية وانسياباً إيقاعياً لاحقاً يؤثث أركان النص وأجزاءه وصولاً إلى خاتمته. الخاتمة في قصائد "الربيع ليس صُدفةً" دلالة شديدة الحضور، فخواتم

"اختيار السيّد التوي الطبيعة مختبراً لحدوسه وأسئلته ومعتقداته تقربه كثيراً من الفلسفات الزهدية، دون ظهور مسمياتها؛ فهي ليست طاوية خالصة أو صوفية تقشفية، وليست كذلك رومانسية هروبية"

القصائد ونهاياتها ليست إيقافاً للتدفق مثلاً أو خروجاً من السياق إلى الفضاء دون دلالة، بل هي شبيهة ببيت القصيد في التراث الشعري، يلخص وأحياناً يحول النص في اتجاه دلالي جديد". كما أن مهنة الشاعر كما يراها هذا العمل الشعري خطيرة تحف بها المخاطر، هو خالق مصائر وصانع سعادات كثيرة تجعله كائناً سماوياً، يطل على العالم ويستبدل قبحه بجماليات الحب والموت والشعر؛ ذلك أن العالم دون شعر ظلام، ودون شاعر كسفينة دون رُبّان:

سيكون الليل في غياب الشاعر عارياً
صار كخريف بلا غابة
الشاعر نجمة معلقة في سقف السماء
السماء التي قال إنها قصيدة صوفية زرقاء
سقطت في البحر.

*****

يقع الكتاب الشعري الأول للسيد التوي في 144 صفحة من القطع الوسط. وكتب التوي في صفحته على فيسبوك، محتفياً بـ"ربيعه الذي ليس صُدفةً إنما شعراً هذه المرة": "هذا كتاب الحب والصبر والعرق، كتاب للمجانين والعقلاء، كتاب الأشياء المهملة والمنسية داخل النفس البشرية وخارجها. كتاب لكل الأصدقاء الذين رافقوني ورافقتهم في طريق الحرية، وهدية لأنصار النص البسيط والعميق".
تماماً، إنه كتاب مختلف، اشتغل عليه صاحبه طويلاً قبل أن يرسله إلى المطبعة، مدوّناً الأشياء المهملة والمنسية داخل أغوار النفس البشرية وخارج أحراشها، وما يميزه أنه جاء صافياً مُختزلاً ومُشذّباً على الرغم من كونه العمل الشعري الأول لأديب وكاتب كان اتجه بدءاً لإصدار كتابين: في القصة القصيرة: "لا تنس أنك من يحرك الكأس" عن دار نشر أفريقية في عام 2010، ورواية: "وردة الفجر" عن دار زينب للنشر، 2015.
تناثرت على امتداد صفحات "الربيع ليس صُدفةً" 103 نصوص، جاءت في كثير منها على هيئة مقاطع شعرية موزعةً على ثلاثة أقسام، افتتحها الشاعر بـ"ثقوب في الليل" وتحت هذا العنوان تداعى (40) نصاً، جاء مقطع "ثقوب في الليل" الذي حمل عنوان الجزء الافتتاحي ثالثاً بعد مقطعين هما "جدار" و"سبع أرواح". ويقول المقطع:

الليل معطفي الأسود...
النجوم أزراه الذهبية...
القمر... وردتي أدوّخ بها العذارى
حين تشرق الشمس أتحوّلُ إلى مُشرّدٍ بائس
في المساء أتمطى مثل قطةٍ
وأتعرّى مستقبلاً الشفق الأحمر
وقبل أن أكمل صلاتي
يرتديني معطفي الأسودُ
وتقبِّلُ وردتي الصفراء راحتيّ.

يوزع السيّد التوي نصوص عمله الشعري ويختار عناوينه بخفة وشاعرية مقسماً الكتاب إلى

"في "الربيع ليس صُدفةً" 103 نصوص، موزعةً على ثلاثة أقسام، افتتحها الشاعر بـ"ثقوب في الليل" وتحت هذا العنوان تداعى (40) نصاً، جاء مقطع "ثقوب في الليل" الذي حمل عنوان الجزء الافتتاحي ثالثاً بعد مقطعين هما "جدار" و"سبع أرواح""

ثلاثة أجزاء، امتدت لتطبع ملحمية الجزء الثاني الذي حمل عنوان المجموعة الرئيس "الربيع ليس صُدفةً"، وقد افتتحه الشاعر بنص "زهر الرمان" أهداه إلى الشاعر والناقد حاتم الصكر، في مفتتح (50) من المقاطع الشعرية الرشيقة يطل من بينها بعد 32 مقطعاً العنوان الرئيس للمجموعة "الربيع ليس صُدفةً" حيث نقرأ:

ثلج يدوس بنعلين بيضاوين
غابة من الفلّين والفرنان والصنوبر
قمر برأس أشعث من وراء السحاب
يمد لساناً فضياً هازئاً من أشجار خائفة
بين الرّوابي يمشي الحطّاب متعثر الخطى
يمشي مثل عجل صغير
بيدين مرتعشتين سينزع عن الربيع معطفاً أسود
بفأس قديمة وأنفاس متهدّجة يغرس الدفء
في أرض متيبسة الشرايين
هل أعيرك عينيّ لترى غابات نازفة
نجمتين تتعانقان في الماء من أول الليل إلى الفجر؟
هل أعيرك عينيّ لتدركي أن الربيع ليس صدفة
لتنفضي الغبار عن قيثارة معلّقة منذ أعوام بنياط قلبي

                                           (.....)

تابعي عزفك...
القمر انكفأ مثل حلزون في صَدَفته
والثلج تحت ردفيك الساخنين يذوب
ارفعي يديك عالياً
قفي على رأسك المليء بالنوافذ والمسامير
فيداي قصيرتان وهذا الليل على شفتيك طويل.

على أن الجزء الثالث والأخير تحت عنوان "خارج القسمة" تضمن (11) نصاً بينها ما هو أقرب إلى الكتابة المفتوحة.
إلى ذلك، يكتب الشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة (إيكاروس) تلويحة محبة وجدت مساحةً لها على صفحة الغلاف الأخير: ("الربيع ليس صُدفةً" طريقٌ ونداء معاً، عمل شعري قاسٍ خرج بنا من فضاء القصيدة إلى فضاء النص، فالشعر لدى السيّد التوي ليس موهبة فقط، بل عمل دؤوب وشاق. فنٌ يحتاج إلى تقنية عالية ومهارات مختلفة انتصاراً لصرخة ويليام بتلر ييتس في ضرورة أن يتقن الشاعر حرفته، بنفس ما تفعله "وردة مسمومة بالضوء" أو "شمس تتململ في آنيتها").
ويضيف بن حمّودة: (ملكٌ هادئ في خيمته وعند رأسه جرّة نبيذ، حيث "أشجار الزيتون التي

"كتاب مختلف، اشتغل عليه صاحبه طويلاً قبل أن يرسله إلى المطبعة، مدوّناً الأشياء المهملة والمنسية داخل أغوار النفس البشرية وخارج أحراشها"

تلبس قبعاتٍ رصاصية". أضاء لي الشاعر التوي طريق المعرفة والنور، وتعلمت من منجزه أشياءً كثيرة: الوضوح الذي أمسكُ به فراشة في الحقل، والغموض الذي يجعلني أسمع "ما تقوله العصافير لحارس الغابة").
بعد إهداء حميم إلى العائلة (الأب، الأم، الزوجة، الأولاد) وإلى الرفاق والشعراء وآخرين، يفتتح السيّد التوي مجموعته الشعرية الأولى بتصديرين يقتبس في أولهما من كتاب "نافخ الزجاج الأعمى" لآدم فتحي: "نجمة خفية في الطرف الخفيّ من الجدار، وأعرف، النجمة قد تكون انطفأت من سنين، هذا الضوء قد لا يكون سوى نعيها المتأخر، لكني لن أسلِّم بموت نجمتي، حتى ولو ظلّت مسماراً مشدوداً إلى هذا الجدار، أحترق طويلاً طويلاً في ضوء احتضارها الطويل". بينما يقتبس من الشاعرة الروسية آنّا أخماتوفا في تصدير ثانٍ: "لا أحد يصغي إلى قصائد اليوم/ ها هي أيامٌ تتكهّن بكل شيء/ لم يعد العالم جميلاً/ فلا تصدحي/ لا تمزِّقي قلبي يا أغنيتي الأخيرة".
يشار إلى أن السيّد التوي من مواليد منزل فارسي بالساحل التونسي. صدر له إضافة إلى مجموعة قصصية ورواية وديوان شعر، بحث بعنوان: "الإعداد في النصوص المقدسة - الرموز والدلالات" عن دار زينب للنشر 2016. وينشر التوي مقالات ودراسات في الأدب والحضارة، وهو أحد مؤسسي حركة نص بتونس. يشتغل منذ فترة على موضوعة "الإسلام المبكر" على طريق نيل شهادة الدكتوراة.