}
عروض

محمود وهبة شاعراً للنزق والحيرة

فيديل سبيتي

19 يونيو 2019
منذ توقفتُ عن نشر الشّعر في مجموعاتٍ ورقيّة في عام 2011، توقفتُ تلقائيّاً عن قراءة الشّعر سواء القديم منه أو الجديد، الذي ينشره شعراءُ الأجيال السابقة أو الشعراءُ الشّباب الذّين يسمّون الجدد. وربّما كان استنكافي هذا وليد شعور مفاده أنني لم أستشعر انبثاق شعرٍ جديد ولو أنّ كتّابه من الشّعراء الشّباب، إذ لاحظتُ أنّ كلّ جديد وصلتُ إليه أو وصلني هو محضُ تقليد لقصيدة سابقة، أي قصيدة الرواد، وهؤلاء شعراء مجلة "شعر" و"الآداب" ومن لفّ لفّهم، من ثمّ شعراء الحداثة الثانية، وهؤلاء هم من ترأسوا الصفحات الثقافية في الصحف اللبنانية منذ السبعينات، ثم شعراء الحرب وهؤلاء ممن عايشوا الحرب أو شاركوا فيها منظرين أو مقاتلين، ثم شعراء فترة السّلم، منذ بدايات التسعينات حتى نهاية العقد الأول من هذا القرن. وشعراءُ هذا الجيل كانوا إلى فترة قصيرة هم الشّعراء الشّباب، وللمصادفة أنني كنتُ أحدهم. إذ اعتقدتُ بكلّ تشاوفٍ أن الأجيال الشعريّة توقفت عندنا نحن محوّلي حانات السّهر الليليّ في الحمراء إلى أمكنة للسّهر الشّعري. وبالفعل مرّت فترة زمنيّة ليست بالقصيرة من العام 2007 و2008 حتى الأعوام الوسطى من هذا العقد الذي نحن على أهبّة ختامه، فترةٌ بدت وكأنها خالية من الشعر أو ممن يجترحون قصيدة جديّة ذات صوت جديد، عدا بعض النتف الشعريّة التي رحنا نلتقطها هنا وهناك في وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن تحت الرماد العميم كانت تختبئ النار، وبالفعل مؤخراً خرجت مجموعات شعريّة لشعراء شباب، لست بصدد إيراد أسمائهم الآن، لكنها تحملُ هموماً جديدة لنقل إنها تتناسب مع القفزة الهائلة في تطوّر الاتصالات ووسائلها، وتتناول السرعة التي تحوكُ العالم والحياة بعد خفوتِ البطء كحالِ عيش، بل وتلاشيهِ نهائياً، وتتناول أيضاً مزاجات شخصيّة في خضمّ فوضى الوجود والمشاعر والتواصل مع نهر الحياة الراكض ركضاً كأنّه سائرٌ إلى لا مثوى أو لا مأوى أو لا حتف. إنها قصائد تشعرك بأن الشاعر يرمي حجراً في النهر ليصبح النهر نهراً آخر ولربما حجراً فوق قصيدة فوق حجر…
محمود وهبة هو أحد هؤلاء الشعراء الشباب، في مجموعته المعنونة "غلامٌ يطاردُ مجرّة" الصادرة عن دار النهضة العربية في بيروت. لنترك العنوان جانباً لأن العناوين لها آلهة
وأوقات ومسارات، آلهة توحي بدورها للشاعر ما ترتئيه. ولندخل في خضم القصائد التي تضمّها المجموعة والتي لا مبالغة بالقول إنها ذات نبرة جديدة وملفتة.
محاولة وهبة عنونة مجموعته بجملة مركبة لا تقدّم صورة صادمة، تنبئ بأنها ستدخلنا إلى متن شعريّ طفوليّ، وتساهم لوحة الغلاف للتشكيلي غيلان الصفدي ذات الخطوط غير المتناسقة في إقناعنا بذلك، لكن القارئ المعجب بالشعر الحديث الذي يكتبه الشباب في بيروت، سيكتشف العكس وبأن الشعر في "غلام يطاردُ مجرّة" يرسم نمطاً جديداً في كتابة القصيدة الشبابية الحديثة لناحية توصيف الضجر والقلق الخاص والتبرؤ من العالم الخارجي، أو إعادة توصيفه بغرائبية تملكُ صلابتها بل وقسوتها في قلبِ الواقع.
يقول في قصيدة "هذيان": هكذا هديّةٌ منتهية الصلاحيّة من بابا نويل… كأس نبيذ فاسد لونه أخضر…. رائحة القهوة المطعّمة بالتّرمس….. هكذا هي حياتي…. هذيان.
أبرز ما يثارُ ضد القصيدة الجديدة أنها تُهملُ اللغة وتخفض بقدر كبير الاستخدام الجماليّ لها، بمعنى "تحييد اللغة" والامتناع عن البحث عن الشعرية في إمكانات "المجاز"، وقد يكون هذا الاتجاه ردّ فعل حاداً لما كانت عليه القصيدة العربية السبعينية وما قبلها من احتفاء باللغة يصل حدّ البهرجة والمبالغة التزيينية طلباً لوجاهة شعريّة فارغة تخفي ضموراً مريعاً في عناصر الشعر الأخرى. لننظر إلى الوجاهة الشعريّة بلا تشاوف لغويّ في قصيدة "مرسال" التي أهداها وهبة إلى والده يقول:

تنزفُ السمكةُ دمَها
ملء قلبها الفاني
للسّلالم أدراجٌ كثيرة
ها أنتَ الآن هنا
أبح قلبكَ للتّراب
تناثر كغيمة في دهليز
.. ثمّ ابتعد

زاوية النظر النقدية
في العموم إن الشاعر محمود وهبة يقلبُ مسيرة الحياة ليجعلها تبدأ من الموت وتنتهي بالولادة. فكائن قصيدته شبهُ ميتٍ يعود إلى الحياة دائماً، وهذا ينطبق على كلّ الأشياء المحيطة بهذا

الكائن الذي يراكمُ التحوّل الذي يجري في داخله ليفرزَه أو ليبصقه على العالم الخارجي الذي لا يحضرُ سوى كمسبب للضجر، وللبطء القاسي، وللتخلي. وكأن الوجود الخارجي ليس سوى حالة غرائبيّة دائمة التبدّل والانقلاب.
يقول: "أحاولُ أن ألتفّ على الزمن الهارب من بين يديّ/ الزمن مقصلة/ الوقت مقصلة/ كأنّ موتاً ما سيحصل".
كأنّ قصيدة وهبة مكتوبة لذاكرة تتخلى عن دورها في استرجاع الأشياء الماضية فتتحوّل إلى صانع لعالم آخر كانت لمكوناته أدوار أخرى غير تلك التي منحناها إياها وباتت مسلّمات. الضغينة التي ينزلُها عن كتفيه لترتاح لكنها تلاقيه مجددا بعد بضع خطوات. كمن يخرمشُ بأظافره على الزجاج. يتقصّدُ تبطيئ المشاهد كي يرينا بشاعتها.
"أمي الراحلة غادرتني/ خلّفتْ وراءها حرباً/ أمي جميلة/ كبقعة زيتٍ على جريدة".
نهاياتُ القصائد غالباً ما تبدو غير مفاجئة مقارنة بالجمل التي تبدأ بها، عدا عن كون تسلسل الصور في متن القصيدة يبدو وكأنه يتقدّم نحو الخلف، كإعادة فيلم ببطء من نهايته إلى أوله. وهذا ما يجعل الجملة التي تبدأ بها القصيدة وكأنها ما كان يجب أن تختتم بها، لذا باختصار يمكننا قراءة قصيدة محمود وهبة في "غلام يطاردُ مجرّة" بالمقلوب من النهاية حتى البداية. وهنا قصيدة "أغنية قبل النوم" بالمقلوب:

هذه القصيدة غير ضرورية
هناك شفاهٌ جامدة غير ضروريّة
حيوانات باردة وجافة… غير ضرورية
مدن بعيدة غير ضرورية
أعواد ثقاب غير ضرورية
أسماك غير ضرورية.
هذه هي القصيدة بالمقلوب ولا أعتقد أن شيئاً ما تغيّر.

وقد يكون هذا الأمر مقصوداً ولو غير واعٍ، أي الانتقال من صدمة الصورة إلى الهدوء في

نهايتها، كالناظر إلى ما خلّفه الإعصار، وهذا الافتراض يمكن تأكيده من خلال شخصيّة "المتكلّم" في القصائد، ذاك الذي يشقلب العالم ويُعيد قولبته، لكنه لا يعلنُ في أي لحظة أنه يرغبُ بتغيير العالم بل ولا يرغب بتغيير وضعيته هو نفسه في هذا العالم. كلّ ما يطلبه هو إعلان النزق، وتبرير وجوده فيه، ورسمُ صورة قاسية وبهيّة للضجر الذي يكتنفه، ونكئ الجرح المختوم الذي ما زال أثره واضحاً في كلّ كائن بشريّ.
في المحصّلة، إذا جمعنا التجوال المتقصّي والذاكرة ولعبة الأدوار الممنوحة للأشياء، ولعبة اللغة المسبوكة برويّة الشّاعر الذي واتته الفرصة كي يقول أمراً ما بعد انتظار طويل، والولع بالمخيّلة؛ إذا جمعنا هذا كلّه لن نحصلَ على قصيدة محمود وهبة. ما ينقصُ هذا كله هي اللعنة التي تمتلئ بها نفس الشاعر الشاب. لعنة الفرد الذي يعيش في داخله ويمتصّ من الخارج صوره الشعريّة فقط. الفردُ الذي يعيش بنهش الصور ككائن طفيليّ. هذه اللعنة الفاضحة لدى محمود وهبة هي التي تكتبه شعراً وهي التي تجعلُ من شعره سبيكةَ صور.

*شاعر وصحافي لبناني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.