}
عروض

رواية "ذئب الله" لجهاد أبو حشيش: التواطؤ مع الشرّ

بكتلٍ سرديَّة منفصلة/ متّصلة يبدأ الشاعر والروائي الأردني جهاد أبو حشيش، في روايته الجديدة الموسومة بـ"ذئب الله"، والصادرة لدى داري فضاءات وابن رشد، بخطِّ طريقٍ جديدةٍ له. ثمّة أسلوبٌ مختلف ومغاير لأغلب الروايات العربيَّة التي غالباً ما تستند إلى صوت البطل الواحد/المُفرِد. صحيحٌ أنّ "عوَّاد الباز" هو بطل الرواية، لكن ثمّة أبطالٌ آخرون لا بدّ وأن ترتفع أصواتهم وهم يتحدّثون عن السّرد وخفاياه.
"عصريَّة وعائشة ومنال وصخر ومليحة والخربة وعوّاد"، أصواتُ شخصيَّاتٍ مرسومة وفق قساوة الحياة وطيش الخيال، كلُّ شيءٍ خاضع لاعتبارات المجتمع، ثنائيَّاتٌ روائيَّة موجودة في الواقع غالباً، منها من دخل معترك الحياة وأراد أن يكون أُسوةً بمن هم كائنونَ فعلاً، حيث البساطة الحياتيَّة، ومنهم من أصرّ على أن يدخل الحياة – مرتاحاً دونما أي جهدٍ - من الأبواب الخلفيَّة المليئةِ بالدمّ والمتاجرة بالدماء والأسلحة التي توفّر المال الكثير: "الحديدُ يدرُّ الكثيرَ من المال، أكثر بكثيرٍ من الخضار"، إحدى مناجيات "عوّاد الباز"، الشخصيَّة الأكثر قسوةً في عالم الرواية العربيَّة حتّى الآن.
يعتبر "عوّاد" محرّك السرد ضمن الرواية ومختلق الأحداث، غير أنّ نفوراً ما يتكوّن لدى القارئ آن التعرّف أكثر على تلك الشخصيَّة التي تدفع حياتها ثمناً في سبيل الحصول على أيِّ شيءٍ تودّه حتّى وإن كان ثمن الحصول على الشيء ذاك حياته أو منظومة القيم الاجتماعيَّة المتعارف عليها في مجتمعٍ عشائريّ، في الوقت ذاته تنكشف البراءة لدى باقي الشخصيَّات على الرغم من المعرفة المسبقة بأنّها هي من تدفع بذاتها إلى أن تكون عرضةً للاستغلال أو لأن تكون فريسةً للذئب. شخصيَّات متواترة، تأتي وفق ترتيبٍ تدوينيّ يعطي البعد التسلسليّ للأحداث.
الوعي المعرفي للشخصيَّات من قبل المؤلّف يعتبر من أبرز الأمور خطورةً في السَّرد الروائي، حيث لا يمكن التكهّن بما ستفعله الشخصيَّات إزاء كلّ موقفٍ جديد بالنسبة للقارئ، وهذا ما يبرع فيه المؤلف في إتيانه والتركيز عليه بمجهره السرديّ. ذلك ما كشف عنه الناقد كمال أبو ديب في معرض تقديمه للرواية، إذْ يقول: "رواية محبوكة بذكاء، تتجاوز رسم التفاصيل والجزئيات والثرثرات التي تزدحم بها الرواية عادةً لتركّز "بإطلاق تقريباً" على ما أسميّه: "اللحظات الذرويَّة" واللمحات الدالَّة المنتزعة بحدّة من حياة الشخصيَّات، مختزلةً بهذا الاختيار البارع خمسين عاماً في أحداث وانفعالات ورغبات تشكّلت في اللحظات الحاسمة من حياة الإنسان وفي المفاصل الخطيرة من الواقع العربيّ". إذاً ثمّة خمسون عاماً من السرد داخل الرواية!، وبالخيال الجامح الواثب الذي يرتّب السرد، تمضي الرواية في سرد السجون والخربة والقرى والمقاومة وتجارة السلاح والجنس والتسلُّط، مفردات تحتاج كل واحدةٍ منها إلى عالمٍ
روائي، لكن جهاد أبو حشيش تمكّن بفضل السّرد المنفصل/المتّصل من إيصال الفكرة الأساسيَّة للذئب البشريّ، حيثُ كل الأمور مرتّبةٌ وفق نظامٍ تخييليّ يعطي البعد الأوسع لحكاية كلّ شخصيةٍ على انفراد، تجتمع تلك المنفصلات مكوِّنةً المعرفة الأشدّ بعمق تلك الشخصيات التي تعتبر مارقة بعضَ الأحيان وتحتاج إلى قتلٍ فوريّ لتغدو في أماكنَ أخرى شخصياتٍ رؤومةً وتقاوم!، ثمّة خلطٌ بديع يتبّدى رونقه في ذروة الأحداث ضمن الرواية.

رواية الشخصيّات المتعددة
تكاد تكون "ذئب الله" الرواية الأكثر احتشاداً بالشخصيَّات المتنافرة والمتناقضة، ثمّة ما يمكن القول عنه إنّه مسرحٌ كامل داخل روايةٍ متعدّدة، فإن وضعنا الحكاية جانباً وركّزنا على الشخصيَّات بإمعان، ثمّة ما يتبدّى لنا من شخوصٍ مسخٍ وأخرى تفرح وتريد أن تسعَد في حياتها لكنّها مجبرة على العمل اللا أخلاقي، كلّها تسيرُ معاً في سردٍ واحدٍ ضمن روايةٍ واحدة، مع أنّ الحكايةَ تلفظُ القارئ باختلاط أبوابها ومداخلها الكثيرة، هناك الكثيرُ من المداخل التي تولِج القارئ إلى عوالم الحكايات المنفردة المبعثرة هنا وهناك ومن ثم يُعادُ التئام الجروح داخل الحكايات المبعثرة، إلّا أنّ الأبواب تتلاشى وتغدو الأحداثُ كسجنٍ أبديّ للقارئ سرعان ما يشعر بقساوتها وخشونتها، أحداثٌ متوالية ودخولٌ لعوالم السجون وإبراز الشخصيَّات اللاعقلانية في تعاملها مع المحيط، شخصياتٍ بشريَّة كانت أم مكاناً لا بدّ وأن يُحافَظ عليه، حكايةُ دخول "عوّاد الباز" إلى السجن وخروجه مرّاتٍ عدّة، وكأنّ السجنُ استراحة المحارب لأجل التخطيط في كلّ مرَّةً يفشلُ فيها المُخَطَطُ مسبقاً، علاماتٌ سرديَّة حافلة بالدلالات تحتلّ أجواء الرواية بمطلقَها.
تفاصيلُ رسم الشخصيَّات ونحتها، كلّ شخصيَّة على حِدة ترسمُ ذاكرتها، محبّتها أو كرهها لاسمها، تلكَ الذاكرة التي تربط بعضها البعض وشائجُ محبَّةٍ أو كره، رسمٌ ما لعوالمَ داخليَّة لشخصيَّات تتغذّى على العنف! وعقب كل مشهدٍ روائيّ يدخل فيه اسمُ شخصيَّة جديدة تأتي فكرة التوضيح كهندسةٍ شبه ضروريَّة لسير السرد باتجّاههِ الصحيح.

السرد العنيف
يعمد الراوي في بداية كلّ سردٍ منفصل بعباراتٍ تلخّصُ الحكاية، عباراتٌ تَشي بما ستكون عليه الصفحات المُقبلة من الاعترافات للشخصيَّات المتورّطة في الرواية، تقنيةٌ سرديَّة تتوضّح خلال التنقّلات من لغة ضمير الغائب إلى ضمير المتكلّم والمفرد ومن ثمّ إلى الجمع دون أيَّة توريَةٍ أو ضجيج، غير أنّ محرّكات السرد تغوص نحو عمقها الأبعد من البساطة.
في الصفحات الأولى من الرواية يغدو السردُ شعبيَّاً، أو ربمّا يجاري حكايةً شعبيَّة قديمة يغلب

عليها طابع الانسيابيَّة. السردُ منهمك في الأسباب الفعليَّة لكامل أحداث الرواية، لكن سرعان ما يضجّ العمل بالأصوات المنفردة التي تجتمع في ذروة العمل كجوقةٍ موسيقيَّة تردّد ما يقوله البطل "عوّاد الباز". وثمّة العنف موزّعاً في كلّ أنحاء الرواية، العنف الذي لا شبيه له مطلقاً، القذارةُ وعبادة المال لدى الإنسان إذ يتحوَّل إلى ديدنٍ متجذِّر.
كلّ ما يجمع شخصيّات الرواية هو الموت، الموت وليس شيئاً آخر، عوّاد نفسه سليل الموت، هو وحده الكائن الأشدّ والأوضح رؤيةً لخلفيَّات تلك الشخوص داخل الحكاية، الخوفُ منتشراً في الأنحاء.
في دلالةٍ على رغبة الانتقام حتّى بعد الموت نقرأ في مشهد جدّة عوّاد "عصريَّة": "رغم أنّه لم يسأل عنها لكن أخته هاجر حدّثته أنّ جدته عصريَّة ماتت بعد أشهر من مغادرته، وجدوها عند قبر أمّه ميّتة وفي يدها شبرية، لا أحد يعرف ماذا كانت تفعل بها أو لماذا كانت تحملها".
إذاً لا مجال لحبٍّ ما داخل هذا العمل الروائي، فالأفعال وردود الأفعال مبنيَّةٌ على المنفعة، والمنفعة فقط، لا مجال لأي شيءٍ يوسِمه الحبّ أو مبدأ الحبّ، وإن وجِد فسيكون بطريقةٍ مغايرة كليَّاً: "الحبّ كشجر البساتين، لكنّ الرجال أغبياء، أنانيّون، يجوبون العالم ويتركون شجرة البيت بلا ماء".

النهاية المأساويّة
تأتي نهاية الرواية كصاعقة على "عوّاد الباز"، الذي كان الجميع ضحيَّته، البطلُ العنيف الذي لا يخالج القارئ شكٌّ في أنّه يعاني من خللٍ ما سيكولوجي، يقتل أمّه، يُسجَن ويتاجر بالدماء، عوّاد الذي تغيّر لدواعي الحصول على أموال أكثر إلى إنسان يدّعي التقوى، يشارك في تلقين الموت للأبرياء وترقيم النهايات لقاء المال، لتكون الصاعقة هي من نصيبه وحده، يموت ابنه عادل، الموت بمعناه الآخر الذي طالما وسَم فكر عوّاد طيلة الرواية، النهاية الأكثر مأساوية مما فعله عوّاد طوال حياته الماضية، ثمّة إيقافٌ مفاجئ للشرّ بشرٍّ أضخم لمن كان نفسه سبباً في الشرّ.
"ذئبُ الله" رواية التواطؤ البشريّ مع الشرّ ومع كلّ ما يمكن أن يدمِّر البشريَّة لأجل المنفعة. وكلّ هذه التلخيصات لا تغني عن القراءة المتأنيَّة لعملٍ ضاجٍّ بالموت وبالحياة وبكلّ أنواع الخيانات والتآمر مع الأعداء ضدَّ الأهل، وكلّ الأمر وفق تمازجٍ سرديٍّ أخّاذ لروايةٍ عربيَّة راهِنة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.