}
عروض

بيروت كما عاشها محمد صالح أبو الحمايل: سينما وصحافة

صقر أبو فخر

22 أبريل 2019
تكتظ المكتبة العربية بعشرات الكُتب عن مدينة بيروت، وجميعها يتحدث عن ماضيها الزاهر منذ أن صارت ولاية عثمانية في عام 1888، حتى تدمير قلبها التجاري في معمعان الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1991). وتتشابه تلك الكتب في استعراض أسواق المدينة وعماراتها ومظاهر التحضر فيها كدور السينما والمسارح الشعبية والمقاهي والنوادي الرياضية والمطاعم والمكتبات ودور النشر والصحف... إلخ. غير أن كتاب الصديق محمد صالح أبو الحمايل الموسوم بعنوان "تاريخ بيروت الحديث" (بيروت: دار صادر، 2019) ينفرد عن أقرانه من كتب البلدانيات في أنه لا يستل معلوماته من كتب المؤرخين الذين سبقوه، بل من معرفته المباشرة بهذه المدينة، ومن تقصيه المعلومات الصحيحة من أهالي بيروت التي كانت حتى سنة 1831 "بلدة صغيرة تُحدق بها أسوار متداعية، وتضم بضع مئات من المساكن مع قليل من الأسواق الضيقة القذرة" (لويس شيخو: بيروت: تاريخها وآثارها، مطبعة الآباء اليسوعيين، 1925)؛ وتلك القرية القذرة أصبحت في منتصف القرن العشرين مدينة عامرة بكل شيء، ودرة المشرق العربي.

* * *

قدم للكتاب مؤرخ بيروت الأستاذ عبداللطيف فاخوري الذي لاحظ أن محمد صالح أبو الحمايل عمل على ثلاثية المكان والزمان والإنسان، ومارس الكتابة التاريخية بحسب نظرية إبن خلدون، فكان مثل "منقّب الآثار" الذي يتعقب كل زاوية وزقاق كي يقبس معلومة من هنا أو حكاية من هناك. لكنه، بدلاً من أن يعود إلى عصر آدم على عادة المؤرخين القدامى، انصرف إلى

التأريخ الإجتماعي (ص10). ومهما يكن الأمر، فقد انهمك الأستاذ محمد صالح أبو الحمايل في هذا الكتاب في إظهار حبه لبيروت وعشقه للسينما وللحَرْف؛ ولا غروَ في ذلك، فهو عمل في ميدان الطباعة، وكتب مبكراً في جريدة "النضال" (صاحبها مصطفى المقدم). وبعد أن عاد من اغترابه في ألمانيا في سنة 2004 دأب على الكتابة المنتظمة في جريدة "اللواء" (صاحبها ورئيس تحريرها صلاح سلام). ويعيدنا هذا الكتاب الى الزمن إلذي كانت فيه بعض دور السينما كالريفولي والأوبرا تكتظ بعد ظهر كل يوم سبت بالفتيات اليهوديات اللاتي كن يتوافدن إليها لمشاهدة أفلام ليلى مراد. أما في أسبوع الآلام فكانت دور أخرى تعرض أفلاماً عن صلب المسيح، وكانت الفتيات المسيحيات القرويات ينتحبن عند مشاهد آلام المسيح في درب الجلجلة مع أنهن لا يُجدن قراءة الترجمة (ص32). وما دام لبنان اليوم يعج بالكلام على محاربة الفساد ومكافحة الفاسدين، فإن المؤلف يذكّرنا بأن أهالي بيروت كانوا يتندرون على السياسيين بقولهم إنهم ألغوا "ترامواي بيروت" لأنه يسير على سكة قويمة من دون أي اعوجاج (ص35).

* * *

من المطمورات الجميلة في هذا الكتاب، الحديث عن قبضايات بيروت؛ هؤلاء الذين انقرضوا تماماً في خضم الحرب الأهلية اللبنانية. ويروي الكتاب قصة مقتل القبضاي مصطفى الحارس قطايا (يكتبه أطايا). لكنه لا يذكر مَن الذي أطلق النار عليه وأرداه. وللمعلومات فحسب، فإن إبراهيم النابلسي (التكميل) وأحمد ستيتية هما مَن أطلقا النار عليه. وهذه الفئة من الناس، أمثال أحمد المغربي (أبو عباس) ورشاد قليلات وسعيد حمد ومحمد سليم سعد الدين كريدية (أبو عفيف) وحنا يزبك ونقولا مراد وأرتين الأسمر وغارو، كانت تروِّع الناس وترعاهم في الوقت نفسه، وتعمل عيوناً وأيديَ للزعماء الأعيان. ويكمن مصدر قوتها في الحماية التي تغمرها بها الزعامات السياسية. فأبو عفيف كريدية، على سبيل المثال، اقتحم مرة إحدى قاعات المحاكم في بيروت وأطلق النار فيها مهدداً من يتناول رياض الصلح بالنقد، وخرج ولم يجرؤ أحد على اعتراضه. وهذا القبضاي نفسه ذُعر، بحسب بعض الروايات الشفهية، واختبأ في منطقة حنتوس (الأوزاعي) حين هدده يونس بحري من إذاعة برلين العربية في أثناء الحرب العالمية الثانية 

بأنه سينال العقاب عندما تصل قوات هتلر إلى بيروت قريباً وسيكون لها معه حساب.

* * *

الكتاب عبارة عن حكايات عن الأشخاص والأماكن (خصوصاً في وسط البلد القديم وشارع الحمراء)، وعن الاغتيالات والهجرات والعائلات والأعيان والأزلام، وهو مزود بصورٍ كثيرة تروي، بصرياً، حكاية هذه المدينة كما عاشها المؤلف. ومما يثير الغرابة أن بيروت التي عرفت نهضة أدبية مهمة منذ أواخر القرن التاسع عشر فصاعداً، وظهرت فيها أقدم جامعة في المشرق العربي هي الكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الأميركية في ما بعد)، ثم احتضنت حركة الحداثة الشعرية التي قامت على أيدي خمسة سوريين مهاجرين هم يوسف الخال وأدونيس وفؤاد رفقة ونذير العظمة ومحمد الماغوط، لم يظهر فيها أي شاعر بيروتي يمكن إدراجه في سياق التجديد الشعري في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. وفي هذا النطاق لم يحفل الكتاب كثيراً بالتاريخ الثقافي لمدينة بيروت، خصوصاً في ذروة ازدهارها، ولا سيما الإسهام الفلسطيني البارز في الحياة الثقافية اللبنانية. وكما كان للجامعة الأميركية شأن تأسيسي في شيوع الحداثة والليبرالية في منطقة رأس بيروت، كان لجامعة بيروت العربية شأن مهم أيضاً في إضفاء مناخ ثقافي مميز على منطقة طريق الجديدة التي ضمت، في الحقبة الفلسطينية، ما لا يقل عن 14 جريدة يومية ومجلة أسبوعية، وثلاث مطابع، ومؤسسات شتى، مثل مركز التخطيط والإذاعة الفلسطينية، ووكالة وفا، ومؤسسة السينما، وصالة الكرامة للفنون التشكيلية، وعدداً من دور النشر، كدار القدس. ومهما يكن الأمرُ فقد أسهب الكاتب في الكلام على دور السينما والمسارح مثل الكريستال. غير أن أول مسرح ظهر في بيروت كان "زهرة سورية" الذي تحول إلى "مسرح فاروق" في سنة 1945، ثم إلى "مسرح التحرير" في سنة 1952. ولعل الكاتب ابتعد عن ميدان سباق الخيل في بيروت لأن المراهنين كانوا مِن سقط الناس في نظر سكان 

المدينة الذين كانوا يزدرون ثلاثة: السبقجي والقمرجي والخمرجي. 

* * *

كان نصف بيروت، أي الشطر الغربي منها، عالماً غريباً وساحراً وقاسياً معاً. ففيه صُنعت أحلام كثيرة، ونُسجت مشروعات لتغيير العالم وجعله أكثر عدالة وإنسانية. وما إن تلاشت تلك الأحلام وتناثرت كغبار الطلع غداة حرب 1982 حتى عادت بيروت إلى زواريبها التقليدية مثل زاروب أم زكور وزاروب الحرامية وزاروب الطمليس، وذوت أحلام الشبان الذين صاروا كهولاً. أما الشبان الجدد فيكفيهم دراجة الفيسبا وتاتو و300 دولار في الشهر، ونارجيلة عند نواصي الشوارع و"إيش يا خال".
قصارى القول، إن لهذا الكتاب الشائق نكهة تختلف عن الكتب الأخرى المماثلة التي تناولت بيروت في حقبتها المعاصرة؛ ربما لأنه يجمع التاريخ الجلي للعاصمة إلى التاريخ الشفوي والذكريات والمشاهدات. وهنا بالتحديد تكمن المتعة في قراءة صفحاته التي بلغت 447 صفحة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.