}
عروض

"مِن هذا العالَم" لطارق الجبر: ترجمة تفاصيل الحياة اليوميّة

تكادُ قصيدة الشاعر والمُترجم السوري المُغترب طارق الجبر أن تكون أشبه بقاربٍ لا يهدأ، تدور وتدور حول حياة شاعرها ويوميّاته؛ سواء من جهة مفرداته التي تنهل جمالياتها من رحلة واقعيّة ومُتخيّلة في الآن معاً، أو من حيثُ العوالم التصويريّة في وصفه المُذهل لجوانب حياتيّة قلّما نجدها في تجارب أخرى، سابقة كانت أم مجايلة، جنباً إلى جنب مع تلك الدفقة الشعوريّة التي تسيطر على أجواء معظم القصائد، وتُضفي بدورها لمسة موسيقيّة جميلة وجديرة بالاهتمام والقراءة والإصغاء بتمعّن.
يأتي الكتاب الشِعريّ الجديد "مِن هذا العالَم"، الصادر مؤخراً عن منشورات Lebeg Poethree (روما 2018)، لطارق الجبر، في ثلاثة أقسام رئيسة، هي: من الغربة والأرض، من الثورة إليّ، من الحبيبة إلى وجهي؛ حيثُ يتضمن كل قسم مجموعة من القصائد، تختلف من حيثُ المضمون عن قصائد الأقسام الأخرى. ولعلّ الخيط الوحيد والجامع ما بين
قصائد هذا الكتاب هو تلك البنية الأسلوبيّة السلسة، وكذلك اللغة البسيطة والقريبة إلى حدّ ما من الهمس الدافئ، الهادئ والنقيّ، عدا عن تلك النبرة الحميمة في تناول تفاصيل الحياة اليوميّة، حتى تكادُ أن ترى أدقّ التفاصيل، سواء العابرة أو المهملة أو حتى تلك المتناهية في الصِغر.
في قصيدة بعنوان "هنا"، ثمّة نفحة حنين جليّة، حيثُ دمشق البعيدة ودفق الذكريات على أشدّه، وحيثُ الحسرة التي طالما تعصر القلب وتذيبه شوقاً إلى مرتع الأمس القريب؛ يقول الشاعر: "هنا/ في البلاد المُشرفات على البلاد،/ ما زال كلّ الشوقِ عشق../ ما زال قلبي لا يصدّق/ أنّ صوتَ الذاهبين إلى المدارس/ ليس يأتي من دمشق".

سيرة مفعمة بالذكريات
يكتب طارق الجبر حزنه وفرحه، ماضيهِ وحاضره، غيابه وحضوره، يكتب- دونَ كلل أو ملل- سيرته المليئة بالمغامرات، لتأتي القصائد وكأنها شريطٍ لا نهائي من الصور الشِعريّة الرقيقة والمُعبّرة؛ "الذكريات"، "الأغاني والنكات"، "ما زلتُ أؤمن بالحطب"، "الرحيل"، "اعتاد الخيال على وجودي"، "اللجوء"، "الغريب"، "البلاد"، "خدمة إلزاميّة"، "الشوق"، "حين يُخطئ القلب"، "الطريق"، "خوف أمّي"، "الفقد".. وغيرها الكثير من المُفردات والتعابير التي تخصّ يوميّاته في الغربة، نجدها بين جنبات كتابهِ هذا.
في قصيدة بعنوان "في السجن"، وبلغةٍ غايةً في الحميميّة والتكثيف اللغوي الشديد، يبعثر الشاعر أحلامه وهمومه على جسد الورقة البيضاء، في محاولةٍ منه لإعادة تكوين الماضي على هيئة كائن يرافقه أينما ذهب.
هنا، ثمّة البصيرةُ قبل البصر، والتصويريّة بدلاً من اللغة الإنشائيّة والتقريريّة، حيث يقول: "كأنّ غيمي ناقصٌ سرباً مُهماً،/ كيفَ يتركُني حمامي؟!/ كلّ أشيائي البعيدة قرب عيني./ كلّ شيءٍ داخلي يبدو عصيّاً سارحاً/ ما بين أحلامي وبيني./ حتّى الملابس لن تُغطّي عورتَكْ./ يأتي صديقي حين يُنهي ما أقول: (إنَّ الحياةَ قصيرةٌ حتّى تصيرَ صديقتك)".
ما نجده في المقطع السابق، من تشظّ في اللغةِ وبتر الجُملة تلو الأخرى، وتركها هكذا في مهبّ الحنين وحده، ينسحب على معظم قصائد الكتاب، والتي بلغتْ تسعة وعشرين قصيدة، أتتْ في ثمانيةٍ وأربعين صفحة.

الزهورُ كذلكَ تغارُ
بدورها، تبدو العناوين لدى الشاعر طارق الجبر لافتة ومُتقنة لماهيّتها ومسبوكة برويّة تامّة؛ كونها تُعتبر العتبة التي تسبق النصّ وتضيء عوالمه من كافة الجوانب الجماليّة، مبنى ومعنى. وعلى الرغم من كثرة تلك العناوين المكوّنة من مفردة واحدة لا أكثر، إلا أنّنا نجد عناوين أخرى تأتي في صيغة جملة طويلة أحياناً أو مركّبة من مفردتين أحياناً أخرى، وتكون غايةً في السلاسة والإدهاش، ومنها - على سبيل المثال لا الحصر- نقرأ: "ساعات في الحرب"، "آخر الحب"، "ليلي طويلٌ والزهور تغارُ منّي"، "تفسير قصيدة حب"، "لم أكتب الشيء الغريب"، و"قمر أيلول".
هذه العناوين وغيرها، يمكننا قراءتها هكذا منفصلة واعتبار كل عنوان قصيدة بحدّ ذاته، نظراً لشِعريتها العالية، عدا النفحة الجماليّة لتلك المُفردات المنتقاة بعناية تامّة، لتأخذ كل مُفردة منها مكانها المرجوّ ضمن النسق الشِعريّ للعنوان/ النصّ.

العربيّة لغتي الأم
كتاب "مِن هذا العالَم"، والذي جاء في مئةٍ واثنتين وثمانين صفحةً من القطع المتوسط، هو باكورة أعمال الشاعر طارق الجبر، وصدر بثلاث لغات، هي: العربيّة والإنكليزيّة والإيطاليّة؛ حول ذلك، وفي معرض تقديمه للكتاب، يقول الشاعر: "ما دفعني لإصدار الكتاب بثلاث لغات هي رغبتي بترجمةٍ حقيقيّة لحياتي، فالعربيّة هي لغتي الأم التي أشعر بها، والإنكليزيّة هي لغتي الأكاديميّة التي أفكّر بها، والإيطاليّة هي لغة تفاصيل حياتي اليوميّة والتي لم أصل لمستوى كتابة الشِعر بها بعد، لذلك استعنتُ بموهبة الكلمات والموسيقى لكلٍّ من أليساندرا ألتامورا

وسيلفيا بيير أنتوني جويا ومارينا بوسي اللاتي أهدينني مُتعة قراءة قصائدي بالإيطالية".
جديرٌ بالذكر أنّ المؤلف الجبر شاعر ومُترجم سوري، مُقيم في إيطاليا مُنذ ست سنوات. درس الترجمة (إنكليزي- عربي/ عربي- إنكليزي) في كليّة الآداب بجامعة دمشق، وتخرّج منها عام 2012. عمل في مجال الترجمة من الإنكليزيّة إلى العربيّة، حيثُ أصدر كتاب "مُقدّمة في الأنثروبولوجيا" تأليف ميريل وين ديفيز وَبييرو، عن دار "المتوسّط"، ومن الإيطاليّة إلى العربيّة أصدر كتاب "نحن أبطال السيرك" تأليف أليسّاندرا ألتامورا، عن دار "Il Foglio؛ إل فوليو".
عمل الجبر لثلاث سنوات بالمجال الإنسانيّ مع الأمم المُتّحدة والمُنظّمات غير الحكوميّة، من مثل: مُنظّمة ACF الإنسانيّة في لبنان والمناطق الحدوديّة عام 2014، شرطة الحدود الأوروبيّة Frontex في بعثات إلى مرافئ الجنوب الإيطاليّ عام 2016، مُنظّمة WAHA الطبّيّة في مُخيّمات شمال اليونان عام 2017. شارك في تأليف الفيلم الوثائقيّ "Io sto con la sposa - أنا مع العروسة" الذي شارك بمهرجان البندقيّة السينمائيّ في نسخته الحادية والسبعين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.