}
قراءات

"أركل البيت وأخرج": ما يحدث كلّ يوم بلغةِ الشّعر

مناهل السهوي

12 فبراير 2019
عن الحياة التي نترُكها خلفنا، عن تلك التي نذهب إليها حين نخطو إلى الموت، عن المساحة التي نبنيها من زمن الانتظار، الخوف والرغبة، عن بناء ماضينا وهدمه؛ عن هذه الأبعاد ومن خلالها تقدم الشاعرة السورية نسرين أكرم خوري مجموعتها الشعرية "أركل المنزل وأخرج" الصادرة عن دار نينوى/ دمشق، وهي مجموعتها الثانية بعد "بجرّة حرب واحدة" الصادرة عن دار التكوين.

ابنة الذكريات
تفتتح نسرين مجموعتها بالخسارات الكبيرة، ماضيةً من رأس الهرم لتنحدر صوب الخسارات الصغيرة واليومية، خسارة الأوطان والأحلام والرجال، وكلّ المفردات حولها هي حطبٌ لخسارات ماضية وأخرى مؤجلة، والموتُ القديم لا يختلف عن هذا الجديد سوى بالخوف الذي يرافقنا اليوم، والحياة التي نتمناها في المنازل هي حياة تفرّ منها الكاتبة منذ البداية لتقول لستُ ابنة الأماكن بقدر ما أنا ابنة الذكريات، تشرحُ المكان بالصورة وتبني الذكرى بالحاجة والأمومة والألم للوصول إلى الخذلان كنهاية حتميّة، ليست النهاية المشتهاة إنما تلك الأقرب للحقيقة.

من زرعوا حبّاتِ الفول في قطنٍ مبلّل/ لم يجدوا من يضع القطن في أفواههم/ كيف نَمَت فوق أجسادهم نباتات كثيرة؟

اشتغلت خوري في مجموعتها على اللغة من الداخل والخارج فلمْ تكتف بنصوص عبثت فيها مع اللغة واقترحت من خلالها علاقة جديدة مع الحروف والعبارات، فبسطت علاقة أكثر رحابة مع الحرف، عاكسةً القدرة العالية للعبث واختراع حيوات موازية، هذا العبث الجميل الذي قامت به الشاعرة يستندُ على الخذلان في القصيدة والهروب وتحطيم الحياة السابقة، تحطيمٌ يتمّ عبر اللغة، ولا شكَّ في أن هذا النوع من الهدم هو الأصعب على الإطلاق في المزج بين القادم والماضي، بين ما لم نعدْ نصدقه وبين خشيتنا من دخوله مجددًا، لتبقى لغة نسرين المتينة بوابتها نحو كسّر هشاشة القارئ وجرّه نحو منطقة غير مأهولة سوى بالخوف العميق.

شِعرُ السخرية

تحوّل خوري الحياة إلى مزحة كبيرة تصنعها بالمفردات، أليست ذروة الألم هي السخرية مما يحدث، وتحويل التجارب القاسية والحروب إلى نكتة!
تركّز سخرية الشاعرة على فتات ما تبقى من الحياة لتشكّل مفهومها الخاص عبر إدخال جرعات ألم مكثفة داخل مفرداتٍ تسخر من الحقيقة أو مما يجري. وتحويل الحياة إلى مزحة كطريقة في مواجهة الألم يحتاج قدرة على تطويع اللغة في سياق جماليّ أولاً دون الوقوع في فخِّ العادي أو المبتذل، لتظهر هذه القدرة عند نسرين على شكل صور قاسية أحيانًا توظّف فيها ذاتها الإنسانية لتلمس ذلك الجزء العميق منّا وأخرى بسيطة مقدمة كلّ ذلك تحت رداء الحقيقة الصادمة التي لا مفرّ من مواجهتها.
لم يبكِ طوال الحرب/ حتّى قطعوا يده،/ كان يحلم بإصبعي نصرٍ صغيرين/ أو أن يبقوا له واحدةً على الأقل/ يرفعها في وجه العالم.

الوصول إلى الوطن المشتهى

تبني خوري علاقتها مع الأوطان بطريقة مشابهة لعلاقتها مع اللغة والمنزل والماضي، الاشتغال على كسر كلّ المعتقدات والذكريات، لتنطلق من النقطة التي توجد هي فيها غير عابئة بالشكل الأمثل لوصولها للقارئ، وكأن الوطن هو معرفة نتلقاها إما بالطريقة الصحيحة أو

الخطأ، وكلّ ما يترتب على هذه المعرفة لاحقًا على الشاعرة سبكه عبر لغتها وتشذيبه ونحته في محاولة للوصول إلى الوطن المشتهى، لكن هذا الوطن المشتهى بات اليوم في مهبّ الموت، كل شيء قُتِلَ، المنازل والأشخاص والصور التي أردنا تعليقها على الجدران، وبمواجهة الوطن والموت يفوز الموت، يحصي أمواته، يرتب مواعيده ولا يمنحهم سوى بعض القصائد أو نباتات تنمو على أجسادهم.
تُقدّم خوري قصيدتها من خلال تراكميةٍ مألوفة وبناء لغوي يعتمد صفَّ الحياة والصور بطريقة أقرب إلى اليومي لتأتي النهاية مكمّلةً للصور الشعرية التي تقوم على استعارة المتلاحقات البسيطة والأليفة. ليست النهاية وحدها الصورة، ندرك من خلال شعر نسرين أن الصورة هي كلّ القصيدة وهي تتالي مشاهداتها وسبك النص حتى يفيض في النهاية بصورة متكاملة حاملةً داخلها ما ودّت الشاعرة قوله.
كان الخريف يهبط على ذلك الدرب البعيد/ كنتَ غافيًا في سيّارةٍ/ والطريق المختلّ يهدهد لك/ حين أفقتَ كان كلّ شيءٍ حولك ميتًا:/ وجوه أصدقائك، الورود في غرفتك، والطّريق./ وحدهما عكّازاتاك كانتا تورقان تحت يديك.
نهايةً تخاطبنا نسرين ومن خلال "أركل البيت وأخرج" من مكان يشبهنا، ومن ذكريات وتفاصيل مألوفة ومعتادة، لكنها تجعلنا نعيد النظر في القطن الذي نحشوه في أفواه الموتى، وفي القطن الذي زرعنا فيه حبات الفول، وكذلك في الصلبان المعلقة على المقابر، وفي الصلبان المعلقة على صدور الصبايا... إنه ما يحدث كلّ يوم، لكن بلغة الشعرّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.