}
قراءات

"5 ميغا بيكسل".. عين الشاعر على الجحيم السوري

ضاهر عيطة

24 ديسمبر 2019
اشتغل فايز العباس في ديوانه "5 ميغا بيكسل.. ذاكرة ممتلئة لعينين" (دار فضاءات) على صياغة أشكال ومضامين أعادت الاعتبار لحضور المأساة، وحررتها من السقوط في مألوف الحدث العادي، لتغدو تجسيداً فنياً وفكرياً لصور ومشاهد استقتها الكاميرا من واقع الجحيم السوري، بحساسية عالية، ودقة متناهية، مكنتها من رصد آثار الأحداث المريبة، ليس فقط على صور الضحايا من الخارج، وإنما استطاعت أيضاً، أن تجسد عوالمهم النفسية والفكرية، لتحيلها إلى مرئيات، على نحو فاق حدود مخيلة الوعي البصري. هذه الكاميرا ليست إلا ذاكرة الشاعر المسكونة بمشاهد الأنين والقهر والموت، التي تفعل فعلها في روحه وكيانه، بوصفها سلسلة مستمرة تنتج الدمار والخراب كيفما تحركت. وبالتأكيد، كان لمثل هذه المشاهد والصور المخزنة في الذاكرة وقع صادم على العين، نظراً لغرابتها وفداحتها، وعدم منطقيتها، مما استدعى تشكل بصيرة من نوع جيد، أخذت على عاتقها رصد تفاصيل، كان من شأنها أن تبدل بنية وأشكال الوعي البصري، إزاء الصورة والمشهد، وتقلب مفاهيمهما رأساً على عقب. ولم ينحصر أثر تلك الأهوال في إحداث تغيير في متن الصورة والمشهدية البصرية، إنما أدت، كذلك، إلى تغيير المفاهيم، في ما يخص جدلية العلاقات الإنساني، فها نحن أمام مشهدية تكاد تعنون مضمون ومحتوى ما خُزن في تلك الذاكرة، يفتتح بها العباس ديوانه:
واحد
اثنان
ثلاثة
{طخ}
أقصد
فلاش
يمازح قناص أبناءه وهو يأخذ لهم صورة تذكارية.
 
في هذه المشهدية يتعمق معنى المأساة، وتتضاعف شدة الصدمة، نتيجة لمزج العنف والخراب مع الضحك والاستهزاء. وكذلك حلول هذه المشهدية الموغلة في البدائية والتوحش مع ذاكرة من حجم 5 ميغا بيكسل، التي هي ثمرة نتاج جملة من الاختراعات الحديثة، التي جادت بها
حضارة القرن الواحد والعشرين على البشرية، مما يساهم، وبقدر كبير في تعميق الشعور بالمرارة، إزاء حضارة أمكن لها أن تنتج كاميرا على هذا القدر من الدقة والعبقرية، في وقت تساهم فيه هذه الحضارة، وبإصرار، على توسيع وتعميق بؤرة الجحيم السوري.
وربما نتيجة لهذه المفارقة، صاغ فايز العباس أسلوبه الشعري، على نحو مغاير، ومفترق عما هو مألوف، فالتراكيب اللغوية، ومنتجة الصور المشاهدة، أضاف إلى مقاطعه الشعرية طاقة ومعاني صادمة إلى حد الجرح والعطب. وهو حينما يحيك، أو يخلق، جسماً لقصيدته الشعرية، يبدو وكأنه يعمد إلى تمزيق هذا الجسم، وبعثرته، وقد تجلى ذلك في هندسة المقاطع، وطريقة توزيعها، وبعثرتها على الصفحة الواحدة، من صفحات ديوان، ما يمكن أن يحيل إلى الإنسان السوري، الذي مزقته وبعثرته براميل الطائرات، وحولته إلى أشلاء.
ويكاد هذا يطال المضامين أيضاً، حيث يتم تفكك المعاني، للمجيء بمعان جديدة، لم تكن في حسبان المخيلة البصرية، ما يؤدي إلى زلزلة هذه المخيلة، فنلحظ مثل هذا التفكك والانقلاب على سبيل المثال، وقد طال الشكل والمضمون معاً، بجعل الهرم في القاع، والقاع في الهرم:
لا أجيد تلويحة الوداع
دائماً كنت أعدها انكساراً
قلت لكم: {كنت}، ومنذئذ وأنا أنكسر
إلى جميع الذين لوحت لهم..

وما يفترض أنها  افتتاحية للإهداء، تتحول هنا إلى خاتمة له. وقد رمى العباس بالمقطع الأخير منها، إلى أسفل الصفحة، ربما إمعاناً في تمزيق جسم القصيدة، لتتماهى مع أشلاء السوريين. ولعل أهوال الحدث القاهر، والمنفلت من كل المعايير، والضوابط، استحال معه الاعتماد على البنية التقليدية للشعر، فجاء العباس بأساليب وتعابير وصور لا يمكن لها أن تتوافق مع قصيدة  تضبطها الأوزان والبحور والإيقاعات الموسيقية، إذ أن الضابط الوحيد هنا صرخات وأنين الثكالى والمفجوعين، وصدى أشلائهم وهي تتمزق،  فإن كانت هي ثورة على المفاهيم والتقاليد الشعرية، إنما هي أيضاً، محاكاة من نوع جديد لثورة السوريين، على أدوات القمع والموت:   
كما لو أن أماً أضاعت ابنها إثر غارة مفاجئة
تركت صورتي هناك
أنا الثكلى التي يثقب السماء أنينها
والعويل هو ابني.
                                                                                         إن حلول مثل هذه المشاهد، بقسوتها وعنفها، لا تبدو هنا مجرد حدث طارئ، بل توحي وكأن الأرض مسكونة بها منذ الأزل، وهي تمثل الحقيقة المطلقة، لدرجة أن القياس عليها، بات هو المعمول فيه.                                                                          وحتى البيت، بوصفه فضاء مكانياً، كان يرمز للدفء والأمان والحميمية، استحال مع الثقافة التي فرضتها البراميل الأسدية، التي تنهال على السوريين ليلا نهاراً، إلى فضاء لا يرمز إلا للموت والجحيم:
الباب فم البيت يأكل أهله
ويطبق عليهم درفتيه
البيت حوت
وكل سكانه يونس.                                
هي مشهدية مريبة بالفعل، وتنجلي صورة الفجيعة على نحو أكثر مأساوية، وحين يتم دمج  أساطير الماضي، مع ما يحدث الآن.                                                      وفي ذات المعنى، يوسع العباس من المشهدية، ليمنحها بعداً تراجيدياً:
نقرأ الفاتحة أمام قبر كان منزلا
وموتى كانوا سكانه.     
 
وها هي وظيفة باب البيت تتخذ أبعاداً مغايرة، يكشف النقاب عنها طفل الشاعر، حيث يكذب الباب، الذي لم يدخله والده حتى الآن، مما أحال الباب إلى فضاء تغريب وتشريد:
يا بابا الباب يكذب عليّ
ابني عادل 6 سنوات.
يرد هذا في قصيدة حوارية طويلة، بين الشاعر وطفله، خارجة من معاناة التهجير والنزوح
والغربة، تتخلخل فيها كل المسلمات الفكرية والعاطفية، وتدمع لها العين إلى حد النواح.
وعلى الرغم من أن معظم المقاطع الشعرية صيغت بمفردات بسيطة، ومألوفة، سرعان ما تصدمنا طريقة بنائها وتركيبها، إلى حد نخال فيه أن هذه الصور والمشاهد، تسجل تلقائياً، من قبل 5 ميغا بيكسل، وليس من قبل فايز العباس، نظراً لمدى الدقة، والعين البصيرة التي ترى في الفواجع، ما لم يسبق أن اعتادت أن تراه العين من قبل.            ولئلا ينكسر الشاعر تماماً، ابتعد جغرافياً عن ما رصدته عين ذاكرته في أرض الجحيم، لكن هذا الجحيم، ظل عالقاً في مسامات غربته ووحدته، ليطحن كيانه الوجودي:
لدي ألبوم صور لكل الذين عبروا حياتي على شريط الخبر العاجل
كلما نظرت إلى صورتي رأيت وجوههم تصطف
لتنمحي هيئتي..

ثم يضيف، في السياق نفسه، مشيراً إلى أن الذات التي تئن بمثل هذه المقاطع الشعرية ما هي إلا جثة، وكل ما سوف نسمعه هو حديث جثة، جثة هذا العالم المحتضر:
أنا الجثة الناجية
رأسي معي وأصابعي
وهذا الحديث الطويل.
 
وكان لثقافة القتل والتعفيش التي أسس لها الأسد أثر في تفريخ كائنات بشرية، مشوهة، ومعطوبة المنطق والتفكير، يحول فيها القاتل أشلاء ضحاياها إلى غرض، أو أداة، توظف لخدم جهاز مادي، أو لعبة يتسلى بها أطفاله:
سأعود من هذه الحرب
وآخذ معي ذراعاً مبتورة
أذكر أن ساعة الحائط تحتاج رقاصاً
سأعود من هذه الحرب، وآخذ معي أذناً "مقطوشة"
أذكر أن حائطي لا يسمع أحاديثهم الليلية
سأعود من هذه الحرب
وآخذ معي فستان طفلة مطرزاً ببقع حمراء
أذكر أن دمية ابنتي كانت عارية.
 
وهنا صرخة الضحية في وجه هذا العالم، الذي لا يكترث بمعاناتها، بقدر ما يكترث للبحث عن مواد يغذي بها ماكينته الإعلامية:
لستُ لوحة سريالية كما أبدو لكم
أعيدوا لي رأسي وفردة حذائي
كي أرجع إلى البيت.
 
وأمام هذه التحولات التي أوجدتها ثقافة البراميل والهمجية الأسدية، يتم الجنوح نحو الموت والهلاك، على نحو مريب، إذ لم يعد ثمة اختلاف يذكر بين من يحمل سكيناً، ومن يحمل قلماً، فكلاهما يمارسان النزوع إلى القتل، والنزوع إلى الهلاك:                                  
لديك سكين حادة الطباع مثلي
ولدي قلم مزاجي الرصاص مثلك
أنا وأنت لدينا هاجس الوداع الأخير مثلهم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.