}
عروض

"بعينٍ واحدة وبصيرتين": فارس خضر يدوّن حنينه شِعراً

عماد الدين موسى

11 ديسمبر 2019
لعلّ السمة الجماليّة الأبرز لقصيدة الشاعر المصري فارس خضر تكمن في نبرتها الموسيقيّة الرصينة، رغم تحرّرها من براثن الأوزان، "أقفاص الفراهيدي الستة عشر للشِعر" على حدّ تعبير الراحل نزار قباني. الإيقاع الموسيقي هنا يكون بترتيب مُتقن ودقيق للمُفردات ضمن النسق الشِعري الواحد، مع خلوّه من النشاز والهفوات، أو التكرار.
في مجموعته الشِعريّة الجديدة "بعينٍ واحدةٍ.. وبصيرتين"، الصادرة عن دار الأدهم (القاهرة 2018)، يُدوّن الشاعر فارس خضر يوميّاته شِعراً، مؤكّداً ومنذ العنوان الرئيس للمجموعة على أنّ أولويّة اهتمامه ستكون "البصيرة" ومن بعدها "البصر"؛ بدءاً من نحته العميق في الحيّز المُهمّش من حياتنا اليوميّة، حيثُ التفاصيل الحميمة والعابرة، وتحديداً تفاصيل التفاصيل تلك المتناهية في الصغر، مروراً بأنسنة الأشياء والموجودات في الوسط المحيط ومن ثمّ محاورتها وتقديمها من زاوية مُغايرة ومختلفة تماماً، وصولاً إلى تلك الاعترافات التي طالما تراود الشاعر، من حسرةٍ، ألم، خيبة، أو أمل.
يقول الشاعر فارس خضر في "عين واحدة وبصيرتين": "أحبَبْتُهُمْ/ وكنتُ طيّباً/ لدرجةِ أنّ أحداً منهم/ لن يذكُرَني/ مطلقاً".
تمضي قصيدة فارس خضر، من حيثُ البُنية الأسلوبيّة، في اتجاه المزيد من الخصوصيّة؛ سواء من حيثُ اللُغة، فالعبارة تكون محبوكة بعنايةٍ ورويّة، أو من جهة الأجواء والعوالم التي يتناولها، حيثُ يتجلّى من خلال عناوين القصائد اشتغال الشاعر على الجانب المخفي والمظلم من واقعنا المعيش؛ ومن أبرز هذه العناوين، على سبيل المثال لا الحصر، نقرأ: "مستودع الآثام"، "عميق وواسع كمقبرة جماعيّة"، "دليل كسيح"، "مُصارع الثيران"، "قبر يتحرّك بين محطات المترو"، وغيرها.
في قصيدة بعنوان (شجرة جوافة.. تنام في سريره)، يزاوج الشاعر ما بين ثنائيّات عدّة، جُلّها متضادّة، فيها من التناقض المُحبّب، بقدر ما فيها من السلاسة والإدهاش؛ حيثُ يقول: "وأنتِ/ تَضغطينَ بأصابع خشنةٍ على رقبتي/ تحسّسي خيوطاً ورديّةً على جذعي/ عروقاً نافرةً../ ثمّ اذبحي غضبي،/ ثورتي/ التي ربّيتُها كلّ هذه السنواتِ/ بلا طائلٍ/ اقْتُليني/ بأسرع ممّا يفعلُ الحنين".

مجموعة "بعينٍ واحدة.. وبصيرتين"، والتي جاءتْ في مئة واثنتي عشرة صفحة من القطع المتوسط، هي الإصدار الرابع للشاعر فارس خضر، إذْ سُبِقَ له أن أصدر المجموعات التالية: "كوميديا" (1998)، "الذي مرّ من هنا" (2002)، و"أصابع أقدام محفورة على الرمل" (2002).
في هذه المجموعة؛ ثمّة نوستالجيا جليّة، ذات نبرة هادئة ومؤلمة في الآنِ معاً، حيثُ اللغة تأخذ ذلك المنحى الشفيف، جنباً إلى جنب مع تدفّق الذكرياتِ واحدة تلو الأخرى، كسيلٍ جارفٍ أنى للشاعر أن يقف في طريقها أو يوقفها. ومن جهةٍ أخرى؛ نجد لديه الشغف بمفردات وعبارات فيها الكثير من الحنّية، من مثل: "الذاكرة" و"السنوات" و"النحيب" و"ما جدوى الكتمان" و"الصمت" و"الأنفاس" و"أترك دموعي للينابيع" و"الحنين" و"العتمة" و"العابرين".. وغيرها، ومن ثمّ توظيفها في أماكنها المرجوّة وبمنتهى البراعة والإتقان، يقول الشاعر: "لا أتذكّرُ من القسوةِ/ غير وجهكِ/ فقط/ بقيت النظراتُ،/ مساميرَ/ من الضوءِ،/ تنقرُ عينيَ المُطفأة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.