}
عروض

"في غرفة العنكبوت".. واقع المثلية الجنسية عند الرجال

هيفاء بيطار

15 نوفمبر 2019
لو لم تكن رواية "في غرفة العنكبوت" لمحمد عبدالنبي (340 صفحة. صدرت ترجمتها الفرنسية عام 2018. حاصلة على جائزة معهد العالم العربي عام 2019) عملاً أدبياً إبداعياً لصح القول (من وجهة نظر علمية) إنها دراسة طبية موضوعية للمثلية الجنسية عند الرجال. فالكاتب يتناول موضوعاً إشكالياً وشائكاً في عالمنا العربي، وموضوعاً مُحتقراً اجتماعياً ودينياً ويُوصف المثلي بأبشع الصفات، وبعض الدول تعدم المثليين مثل إيران، وبعضها الآخر تسجنهم لسنين طويلة مع التحقير والتعذيب. لكن محمد عبدالنبي نأى بإبداعه ونفسه عن كل تلك الوقائع، وتغلغل في تلافيف نفسية المثليين دون أن يُطلق عليهم أي حكم قيمة، ودون أن يعتبرهم آثمين وخطرين على أخلاق المجتمع، إنه مبدع وباحث في الآن نفسه حول حالة المثلية الجنسية، أي أن يعشق الرجل رجلاً آخر، أن يحبه بكل عنفوان روحه وتوقها للحب، وأن يتعذب من هجر الحبيب له، وربما المؤلم أكثر ما يعانيه هؤلاء المثليون من عقدة ذنب تدمر روحهم المعنوية، وإحساسهم أن الآخرين يحتقرونهم ويشمئزون منهم، لكنهم (أي المثليين) ما بيدهم حيلة، فهم هكذا وجدوا أنفسهم، وهكذا خلقهم الله.
في الصفحة 150، يقول الكاتب على لسان بطله المثلي الذي لا يجد متعته وفرحه إلا في مضاجعة رجل: "أتذوق لذة الندم في فمي وكأنها حلاوة الإيمان". لا يملك هؤلاء شيئاً تجاه ميولهم الجنسية المثلية، ويمارسونها في السر، وتحت ذعر من افتضاح علاقتهم، وتذكرني تلك العبارة (أتذوق لذة الألم في فمي وكأنها حلاوة الإيمان) بالعبارة الرائعة التي قالتها الشاعرة الإيرانية فروغ فرخ زاد (أثمت إثماً مُشبعاً باللذة). ويرى الكاتب بحياد تام، وهو يتوارى وراء نصه، أن لكل جسد حساباته الخاصة، وميوله الخاصة، وأن الله الذي خلقهم مثليين عارف ماذا خلق، وسوف يجد طريقة لهم ليتوبوا! أما الكارثة التي يتعرض لها هؤلاء المثليون، فهي حين يُسجنون، حيث تمعن أجهزة الأمن والشرطة في إذلالهم وتحقيرهم، وتجبرهم على الاعتراف بكل علاقاتهم الجنسية، وأحياناً يعدونهم مجرمين خطرين، ويسألونهم إن كانوا قد صنعوا
طائرات، أو صواريخ، وهم أصلاً لا يعرفون الكتابة والقراءة، فكأنهم يقولون لهم: نحن مجرد خولات، فارحمونا ولا تجعلوا منا إرهابيين. الجريمة الأكبر أن بعض رجال الأمن والشرطة (ولأنهم سلفاً يحتقرون المثليين) يقومون باغتصابهم مرات متكررة مهينة وموجعة حتى يتدفق الدم من الضحية، مع إسماعهم كلمات وشتائم مُروعة. يا سلام على حماة شرف أخلاق المجتمع يقومون هم بدورهم بفعل اللواط، وبأحقر أشكاله، أي تحقير المثلي، والتمثيل بجسده. هذا هو النفاق الأخلاقي والوجداني في عالمنا العربي، هذه هي الأخلاق المُزيفة التي نستعملها للاستعراض فقط، بينما العفن يعشش في النفوس.
في الصفحة 325، وصف مؤثر وموجع لما يعاني منه المثليون: وددت لو أحكي عن الأجساد المعروضة على الأرصفة، والأماكن المعروفة منذ حلول المساء، وحتى ما بعد انتصافه، عن الأعين التي تُفتش في نهم عن رسالة في ما حولها، عن طمأنينة، عن فرصة أخرى، ولو لليلة واحدة، وعن زحام الأوتوبيسات، وما يتيح من فرص ثمينة، عن الشباب المحروم الذي يجد بغيته في الحبايب، فيتعامل معهم كمصرف للمني الذي يفور في جسمه ويدفعه للجنون، ومع الوقت يتخيل هؤلاء أنفسهم كمبولة للمني. هذا المقطع على قساوته هو حقيقي، فالكبت الجنسي الفظيع في مجتمعاتنا العربية، وعدم التقاء الشبان والشابات، يولد أشكالاً من الحصر النفسي والكبت قد تؤدي إلى أمراض نفسية خطيرة، وأحياناً إلى الانتحار.


تعاسة من نوع فظيع
آلام الرفض والنبذ والتحقير التي يتعرض لها المثلي تجعله يتزوج كي يُلغي، أو يُبعد، الشبهة عن نفسه، وتبدأ تعاسة من نوع فظيع، وهو مضطر لمعاشرة أنثى لا يطيق تقريبها، ولا يجد هاني بطل الرواية سوى اللجوء للكحول والمخدرات كي يُخدر وعيه واشمئزازه ويقوم بواجبه الزوجي، إنه في قمة التعاسة فقط ليرضي المجتمع، ومن أبسط حقوق الإنسان تجاه نفسه أن يكون سعيداً. وهكذا يجد نفسه مضطراً لمعاشرة زوجة، وهو لا يطيق جنس النساء، ولا يميل إليهن.
أبدع محمد عبد النبي في وصف حالة الحب بين المثليين، فالعلاقة ليست مجرد نزوة جنسية بين رجل ورجل، رغم أن هذه الأشكال موجودة بكثرة، لكن ثمة حب، قلق من صد الحبيب، خوف من فقدانه، لمعان العيون، نشوة أثناء اللقاء، وتبادل القبل، السعادة التي لا يمكن وصفها حين يتحقق التواصل الجسدي، كل ذلك الوصف الآسر البديع يقدمه لنا الكاتب بموضوعية بحث علمي، من دون أن يُطلق أي حكم أخلاقي على سلوك هؤلاء، أو من دون أن يدينهم لأنهم ببساطة موجودون، وبكثرة أيضاً، ويعانون من آلام نفسية مبرحة بسبب رفض المجتمع لهم،

وبسبب العقوبات التي يتعرضون لها، وهي غالباً السجن لسنوات.
وتنتهي الرواية من دون موعظة أخلاقية، ولا دينية، ولا قانونية، إنها تسليط ضوء على فئة من المجتمع يجب أن يُعترف بها، سواء لعنها البعض أم تقبلها. وكما قال الكاتب: للجسد حساباته الخاصة. وطالما أن هؤلاء المثليين لا يؤذون أحداً، بل يعيشون ما تتوق إليهم أرواحهم وأجسادهم، فمن حقهم أن نحترمهم، وألا نحقرهم، وألا يغتصبهم حماة الوطن والشرف، كالشرطة، وأجهزة الأمن.
بالمناسبة، فإن نسبة كبيرة من القرود والطيور لديها شذوذ جنسي، وهؤلاء لا يمكن تطبيق أحكام أخلاقية عليهم. العالم واسع، وحتى مفهوم الأخلاق نسبي.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن رواية "في غرفة العنكبوت" هي أول رواية عربية رائدة في طرح موضوع المثلية الجنسية باحترام وبتحليل نفسي عميق، وبأدب جم، إذ لا نجد في كل صفحات الرواية أي وصف لعمل جنسي مثلي (كما كان يفعل جان جينيه، الذي قزز القارئ حين وصف في صفحات الشهوة التي تثيرها رائحة الخراء!!!) وأظنها الرواية العربية الوحيدة الموضوعية بامتياز في تحليل تلك الظاهرة، وربما تشبهها رواية "شارع العطايف" للكاتب والناقد السعودي عبدالله بن بخيت، تلك الرواية الرائعة التي عالجت أشكال الشذوذ الجنسي، لكن في مجتمع السعودية. أما محمد عبدالنبي فروايته رواية إنسانية تصلح لكل المجتمعات، ولكل زمان ومكان. وأزعم أن هذه الرواية سوف تثير لدى قرائها الكثير من الأسئلة الوجودية ومفهوم الحلال والحرام ومفهوم الفضيحة والإثم، فالذي يعاشر زوجته بشكل شاذ هو آثم أكثر من المثلي الذي لا يؤذي امرأة تضطر أن تتحمل الذل والقهر لاعتبارات اجتماعية وذكورية ودينية عديدة. إنها رواية تستحق الجائزة بامتياز، لروائي مبدع راقي الأسلوب رغم بساطته (السهل الممتنع)، ورواية نجح الراوي في التواري من وراء أحداثها تاركاً صوت الواقع الأليم يعبر عن نفسه. رواية ليست فيها أي تعابير جنسية مقززة، أو غير مقززة، لأن إبداعه العالي يطمئنه أنه ليس بحاجة لغواية الجنس كي تصبح الرواية أكثر تشويقاً. شكراً للمبدع محمد عبدالغني. ومن يدري قد تستخدم روايتك في بحث علمي عالي المستوى حول ظاهرة المثلية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.