}
عروض

الحرب والموت والتَّراجيديا في ديوان "سماء واسعة لفرح مُرّ"

مازن أكثم سليمان

22 أكتوبر 2019
يُمثِّل ديوان "سماء واسعة لفرح مُرّ" للشّاعر محمَّد طه العُثمان، الصّادر عن دار موزاييك للدِّراسات والنَّشر في إسطنبول في العام 2019، تجربةً يُمكنُ إدراجُها ضمن تجارب الشِّعر السُّوريّ الجديد في زمن الحرب، وتسعى هذه المُقارَبة إلى قراءة الجوانب المُتعلِّقة بكيفيات بسط أساليب وجود الحرب والموت والتَّراجيديا في عوالم هذا الدّيوان، وطرائق هذه الأساليب في بناء المُستوى الدَّلاليّ في القصائد بما هيَ (أي هذه الأساليب) عناصر مُهيمِنة يساهمُ رسم مَعالِمِها في فهم أوَّليّ للبنية الفنيّة في هذا الدّيوان من ناحية أولى، ويرفد من ناحية ثانية جهد العمَل في إنجاز قراءة منهجيّة للمُنتَج الشِّعريّ السُّوريّ في هذه الحقبة.

أوَّلاً: عالَم الحرب بينَ الرُّؤى السَّوداء، والدَّلالة المفتوحة
قالَ محمَّد طه العثمان: "حينَ تغفو البلادُ على موتنا/ فاعلموا/ أنَّني خطْتُ من زيفِ تحنانكُم هذه المسرحيّة..." (ص9).
يُؤسِّسُ الشّاعر عالَم الحرب في ديوانِهِ انطلاقاً من إغراقِهِ في الرُّؤى السَّوداء، ففي هذا الشّاهد تنهضُ مسافة التَّوتُّر من التَّناقض بينَ (النَّوم) الذي يعني الاسترخاء والرّاحة، و(الموت) الذي يرمز إلى الألم وهواجس القلق، حيثُ يلتقي هذان القطبان في بُؤرة (البلاد) التي يكونُ (نومُها) قائماً على (الموت/ موتنا): نحنُ أهل هذا الوطن المكلومينَ؛ لذلك، يخيطُ الشّاعرُ (من الزّيف) مسرحيَّةً؛ فالزَّيف والمسرحيّة هما أسّ الرُّؤى السَّوداء في القصيدة، ثُمَّ هما أسّ الرُّؤى السَّوداء في الواقع الحربي القاسي بطبيعة الحال.
لكنَّ المسرحيَّةَ تعني فيما تعنيه أنَّها حمّالةُ أوجه، وأنَّ المجاز كثيفٌ فيها، وأنَّ الدَّلالةَ لا تستقرُّ على مَعنىً واحد. قالَ الشّاعر في مطلع قصيدتِهِ "هامش على الهامش": "هذه الحربُ ولودةٌ كروحكِ.../ ومتأهّبة كحِصَان./ تَعْشقُ الحَياةَ... فلا تكفُّ عنِ الموتِ." (ص17).
إنَّ هذه الحرب على الرّغم من آلامها العارمة ذات أوجه متعدِّدة، ففيها الحُبّ: "ولودةٌ كروحكِ"، وفيها الانطلاق/ الانغماس في العالَم: "متأهّبة كحصان"، وفيها اللَّعب الحُرّ لأساليب الوجود: "تَعشقُ الحياة... فلا تكفُّ عن الموتِ". حيثُ يُؤدِّي التَّضادّ الظّاهريّ بينَ الحياة

والموت هُنا إلى تخليق حقل مجازيّ يتجاوز منطق الثُّنائيّات نحْو تعدُّدٍ دلاليّ مفتوح المعاني والتَّأويلات؛ فقد يرى البعض أنَّ الشّاعر يُريد أن يتخلَّص من واقع الحرب المُؤلم، لكنّهُ يعجز عن ذلكَ، فيستسلم للموت، وقد يرى البعض الآخَر أنَّهُ يتهكَّم من الحياة المقتولة في زمن الحرب، أو أنَّهُ يُواجه الموت بالتَّمسُّك بالحياة عبرَ مُعادل وجوديّ. قالَ الشّاعر في ختام قصيدتِهِ "هامش على الهامش": "قارورةُ العطر الدّاكنةِ من جسدِ الحبيبةِ المشظّي.../ أغنيةُ الطّفلةِ الصّغيرةِ عن السَّلامِ./ تراتيلُ الجُنْدِ عن الخلاصِ./ أرَقُ المدافعِ؛ وصُداعِها حتّى الحمّى./ كُلَّها تعشَقُ الحياةَ فلا تكفُّ عن الموت." (ص18).
لا يكفُّ الشّاعر عن تفخيخ الدَّلالة، إذا صحَّ التَّعبير، ولا تكفُّ الدَّلالةُ عن التَّشظِّي بتشظِّي الوجود السَّوداويّ، فأساليب وجود الحرب تبسط سُلطانَها على النَّصّ هُنا، واللَّعب الحُرّ بينَ المعاني يتركُ المُتلقِّي حائِراً بينَ خيارات عدّة، أهمُّها نمطٌ من التَّهكُّم الحداثيّ الذي يُغلِّفُ الرُّؤى السَّوداء، ويُؤسِّسُ لمَا أصطلِحُ عليه بـِ(ليبيدو الحرب)، بوصفِهِ قُوَّة مُمانَعة ضدَّ سَطوة الحرب وخرابها. قالَ الشّاعر: "في سماواتي التي بتُّ أسمّي البلادَ/ باسمِها؛/ حينَ تسقطُ حمامةٌ من السِّربِ/ تكونُ قد قتلتْ رصاصة..." (ص38).
ينطلقُ تخليق (ليبيدو الحرب) هُنا من الانقلاب على الواقع، بعكسه، فالحمامة (رمز الحُرِّيّة والحياة) هيَ التي تقتلُ الرَّصاصة (رمز السِّجن والموت)، والنُّهوض للدَّلالة في هذا الأسلوب، فضلاً عن انطوائِهِ على المعنى التَّقليديّ الرّافض للحرب، ينطوي على وميض تهكُّمي خافت من ضعف البشر وجنونهم، وينطوي على بحث عن الذّات الفرديّة والجمعيّة، في آنٍ معاً، وبالتَّأكيد يبقى هذا الأسلوب الوجوديّ وفيّاً للدَّلالة المفتوحة غير المُباشَرة، وإذا كانَ المعنى يبدو من حيث الظّاهر سهلَ المنال، فإنَّ التَّدخُّلَ التَّأويلي قد يمنحُ القارئ فرصةً للخوض في مسافات توتُّر غنيّة. قالَ الشّاعر: "كي أكونَ قبيلةَ حُبّ/ عليكم بأن ترشفوا من جنوني/ هديلَ القنابلْ" (ص69).

ثانياً: مُفارَقات الوجود المطوي على الموت
تنهضُ علامة الموت بوصفِها أساليب وجود على رمزيّة لا تكفُّ عن تشويش مسافات التَّوتُّر في فَجْوتِها الدَّلاليّة، فأوَّلاً يُجرِّد الشّاعر الموت من همِّهِ الجمعيّ، لينهضَ على حامل مجازي

ذاتيّ يؤسِّسُ دلالةً وجوديّةً تقوم على مُفارَقة يصعبُ القبض على معناها النِّهائيّ الحاسِم. قالَ الشّاعر في قصيدة "الشّاهدات": "في هذا الموت شيءٌ مريحٌ كظلال القبور المستريحة./ الشّاهداتُ هي الأكثر حياةً في هذه الضّجّة والصّراخ./ والشّاهدات هي ندى النّعاس في شجر الموت.../ وموتي خفيفُ الظِّلِّ على أهل مدينتي النّائمة،/ لكنَّهُ ثقيلٌ على الشّاهدات"(ص14).
هل فعلاً يجدُ الشّاعر أنَّ الموتَ مُريحٌ أكثر من الحياة؟ وهل يعني الغرق في الموت تمسُّكاً مُضمَراً بالحياة فقط؟ أم يعني أيضاً تمرُّداً على الواقع الجمعيّ المعيش؟
هل ينطوي هذا الموت الفرديّ على إذعان لدلالة الموت الجمعيّ؟ وهل يدلُّ الموتُ فرديّاً أو جمعيّاً على دلالة انهزاميّة/ مُنسحبة تنهضُ على أساليب وجوديّة مُستسلمة للموت؟
لقد طوى الشّاعرُ الوجودَ بكُلّ أبعادِهِ على بُؤرة الموت هُنا، فغدا الرَّمزُ مُتعدِّدَ الآفاقِ الدَّلاليّة انطلاقاً من حصار مسافة التَّوتُّر بمفارَقة غير مُباشرة تتلاعبُ بمَراميها علامة (الشّاهدات). قالَ الشّاعر أيضاً في قصيدة "الشّاهدات": "قلَقُ الرُّؤى في الطُّموح.../ أغنياتي عن الفلّاحين.../ اللَّهفة المُستعارة في جوف يديَّ المُوسَّدتَيْن فوق صدري،/ لقد كنتُ ثقيلَ الظِّلّ،/ حتّى على ظلالِ الشّاهداتِ المُستريحة" (ص15).
إنَّ طيَّ الوجود على الموت يُؤسِّسُ لتعدُّدٍ دلاليّ، حيثُ تبطِّنُ أساليبُ الوجود المعنى بدلالات مفتوحة تُربكُ أُفُق تلقِّي القارئ، فهل يُمكنُ أنْ يحبَّ الإنسان الموت أكثر من الحبيبة؟ وما دلالة أنْ يكونَ الموتُ لذيذاً كما قالَ الشّاعر في الشّاهد الآتي: "لا يمكنُ أن أحبَّكِ أكثرَ من هذا الموتِ اللّذيذِ" (ص47).
قالَ الشّاعر: "صاعداً درج الموتِ كي أهتدي/ النُّورُ من جبّتي/ والمدى في يدي" (ص63).
تنبسطُ أساليبُ الوجود هُنا عبرَ حركيّة تخليق الفعل الحيّ في بُؤرة الموت؛ إذ يُؤسَّسُ سُؤالُ الذّات والعالَم انطلاقاً من هذه البُؤرة، ومن دون أن تمنحَ هذه الأساليب نفسَها لدلالة حاسِمة، حيثُ يبقى طيُّ الوجود على الموت (فعلاً مُحايداً إلى حدٍّ كبيرٍ) ناهضاً على الصَّمت، أو المسكوت عنه، فما الموتُ الذي يهدي؟ وما الموتُ الذي يترافقُ بالنُّور وانكشاف المدى؟ وهل يرمز الشّاعرُ في هذا الأسلوب إلى رمزٍ ميتافيزيقيّ، أو دينيّ؟ أم يبسطُ معانٍ تهكُّميّة ضدَّ شرط الموت في الحرب؟ أو على الأقلّ: يسعى إلى تخليق مسافة توتُّر تحتفي ضمناً بالحياة عبرَ تفخيخ دلالة الموت؟ وهوَ الأمر الذي نجدهُ في الشّاهد الآتي: "فهذهِ الحربُ اسْتَكانَتْ/ حينَ جَرَّبْتُ الخلودَ بمَتْنِها/ وجعلْتُ أنكيدو يُحيدُ – بحنكتي- سُبلَ الوداعْ" (ص72).

ثالثاً: تشتيت التَّراجيديا، ومسافات التَّوتُّر المجازيّ
تقومُ العناصِر المُهيمنة على أساليب وجود الحرب والموت في هذا الدّيوان على تفخيخ فجوات التَّوتُّر المجازيّة لتشتيت (تراجيديا الموت)، وإرجاء الدَّلالة قدر المُستطاع، إمّا ببسط كيفيّات ينهضُ عليها (ليبيدو الحرب) المُقاوِم لشناعتِها، أو بتبطين المُعاني بدلالات غير مُستقرّة تطوي

ضمن ما تطوي فكرة الصِّراع بينَ الاستسلام للحرب/ الموت واستدعاء ليبيدو الحرب/ الحياة، أملاً في الانفكاك من سَطوة التَّراجيديا. قالَ الشّاعر في مطلع قصيدة "موت مُؤجَّل": "في غرفتي الشّاحبة.../ تسمعُ الجدرانُ/ صوتَ القذيفة ولا تخاف..." (ص23).
إنَّ التَّعدُّد الدَّلاليّ النّاهض على الصِّراع الجدَليّ بينَ (الرُّؤى السَّوداء)، ورغبة بسط كوى أمل تفاؤليّة (رُؤى مُتفائلة) يبدو أنَّها مُضمَرة، أو مسكوت عنها، في معظم الديوان، يُطلُّ (أي هذا الصِّراع الجدَليّ بين الرُّؤى السَّوداء والرُّؤى التَّفاؤليّة) في أسلوب وجود خاتِمة قصيدة "موت مُؤجَّل"، بترميز كاشف هدفهُ (تشتيت التَّراجيديا) للانفكاك منها، حينما قالَ الشّاعر: "في غرفتي الشّاحبة.../ لا يمكنُ إلاّ أن تعيشَ مطمئنّاً.../ فحينَ الجدرانُ لا تخافُ،/ والعصفورُ دائمُ الغضب.../ هناك ثمّةَ غصنٌ ينمو على جَبينك" (ص24).
تفي عتبة عنوان الدّيوان: "سماء واسعة لفرح مرّ" بالعناصِر المُهيمنة على أساليب وجود الحرب والموت والتَّراجيديا، فالسَّماء واسِعة، وهناك فرح موجود؛ لكنَّهُ مرّ، والجمع بين اتّساع السَّماء من ناحية، والفرح المرّ من ناحية ثانية يصنعُ فجْوة توتُّر ترمز إلى ما تبسطه أساليب الوجود في الدّيوان من انطواء مُتعدِّد الدّلالات على الحرب والموت، ومن تخليق مسافات توتُّر مجازيّ تُشتِّت التَّراجيديا، فاتِحةً المعاني على احتمالات غير مُباشرة في مُعظم الحالات. قالَ الشّاعر:

"الطّائراتُ تُحَنِّي باب ضحكتِهم

                             والعابرونَ أباحوا النَّزفَ... إذ طرقوا" (ص28).


*شاعر وناقد سوريّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.