}
قراءات

رفيق شامي و"صندوق العجائب": التعلّق بدور الحكواتي

عارف حمزة

29 يناير 2019
لا يتخلّى الروائي السوري/ الألمانيّ رفيق شامي عن تعلّقه بدور "الحكواتي"، ليس تمامًا في أعماله الروائيّة العديدة للكبار أو البالغين، فهي تحتاج إلى تقنيّات مختلفة في لفت نظر القارئ الألمانيّ، هو الذي يكتب باللغة الألمانيّة مباشرة، لكنّها تظهر بصورة أكبر خلال أعماله التي يكتبها للفتيان؛ إذ يبدو هذا الدور عزيزًا على قلبه، ويُناسب طريقة سرده في تلك الكتب، ويُمكن أن نقول بأنّه يُشكّل ارتباطًا عزيزًا بمسقط الرأس الذي غادره في عام 1971 إلى ألمانيا. هذه الطريقة في الروي، على بساطتها، تُفكّر بذلك الدور الذي كان يقوم به ذلك الرجل في مقهى بعيد وقديم خلال سهرات شهر رمضان، أو ذلك الرجل الذي كان يرتحل إلى قرى بعيدة وهو يحمل على ظهره ذلك الصندوق الثقيل كي يُلفت نظر السامعين البعيدين والبسيطين إلى قوّة الحكايات. صندوق العجائب الثقيل ذلك حمل عنوان كتاب شامي الصادر بالألمانيّة مؤخرًا عن دار "إديتسيون براكلو".
صندوق العجائب، ككتاب، جاء أيضًا من أجل تسديد دين لكلّ من سامي وليلى، اللذين قصّا على الطفل رفيق شامي (واسمه الحقيقي سهيل فاضل، وولد في دمشق في 23 حزيران/ يونيو 1946) "قصص قيس وليلى وعنترة وعبلة والزير سالم وأبي الفراس الحمدانيّ"، كما جاء في الاستهلال الخاص بالكتاب. أي أنّ شامي الطفل عاش تلك التجربة، التي لم يعشها الكثير من أطفال دمشق وبقيّة المدن، في أن يكون مستمعًا لقصص التراث وأساطيره وعشّاقه.
"قبل سنوات عديدة وطويلة عاش رجل عجوز في العاصمة دمشق. كان يحملُ صندوقًا ثقيلًا على ظهره، وببطء ينتقل من حيّ إلى آخر، وعندما كان يصل إلى زقاقنا كان ينادي بصوته الغنائيّ: تعالوا أيّها الأطفال، تعالوا جميعًا هنا واسمعوا قصصي من دون مقابل. تعالوا جميعكم هنا! بقرش واحد تستطيعون رؤية عجائب العالم، ورؤية سامي الشجاع وهو يركب أحد الأسود"- هكذا يقصّ شامي جزءًا من طفولته وحياة ذلك الرجل الذي كان يزور زقاقهم مرّة في الشهر، ويجعله يركض إلى أمّه ويطلب منها النقود، ويلتحق ببقيّة أطفال الزقاق كي يتفرّجوا ويسمعوا العجائب من القصص ويشاهدوا العجائب من الصور. ثمّ يصف لنا شكل الرجل
العجوز وحركاته وسكناته وكذلك الصندوق الذي يحمله وكيف يرى أربعة أطفال سوية الصور الملوّنة وهي تكرّ ببطء من اليمين إلى اليسار، وبعد ذلك يقصّ الرجل حكاية الراعي الشاب سامي "الجميل مثل القمر والمقدام مثل نمر، ولكنه فقير مثل متسوّل"، الذي يلتقي عند بئر الماء بالشابة ليلى "الجميلة مثل زهرة والرشيقة مثل غزالة"، وعن وقوعه في حبها، ولقاءاتهما كلّ ليلة في ذلك المكان، وعن حديث أهل القرية عن حبّهما.
ليلى هي ابنة مزارع غنيّ، يُريد تزويجها من شيخ مسنّ غنيّ، بينما سامي هو مجرّد راعٍ فقير. وهكذا سيثور الأب ويغضب ويمنع ابنته من لقاء سامي مجددًا. وعندما لم تطعه ليلى حبسها في القبو لسبعة أيام. ولم يمنع ذلك لقاءاتهما سرًا. كان ذلك في الربيع. وفي الخريف استمتع المزارعون بالحصاد الوفير، لكن كان ذلك لفترة قصيرة؛ إذ سرعان ما أغارت عصابة من اللصوص على القرية ونهبت البيوت والحظائر. وعندما رأى رئيس العصابة ليلى، قبض عليها وحملها على حصانه وخطفها. صاح الأب بالناس أن ينقذوا ابنته من زعيم العصابة، ولكن لا أحد استطاع إنقاذها. طبعًا سامي كان في البعيد مع قطيعه، وعندما عاد في المساء عرف بما جرى للقرية ولحبيبته. أقسم سامي على استعادة ليلى، وأقسم الأب على تزويجه إياها إن أنقذها من يد العصابة. أعار الأب حصانًا لسامي، الذي استطاع بعد أربعة أيام أن يعود بليلى من أيدي الأوغاد، واستقبلته القرية استقبال الأبطال.
بعد ثلاثة أيام من الاحتفالات، وعندما أراد سامي أن يُذكّر والد ليلى بوعده، كان الوالد قد
أصيب بمرض مميت، وقال لسامي بصوت المحتضر: دوائي الوحيد هو حليب الأسود، إذا جلبتَ لي الدواء ستكون ليلى زوجتك! وهكذا تولد حكاية جديدة من سابقتها، ومغامرة جديدة، كما في حكايات الشرق وحكايات ألف ليلة وليلة، لكن ليس بجودتها لغويًّا وخيالًا. فالأب تظاهر بالمرض كي يطلب من سامي طلبه المستحيل، عارفًا أنّه لن يعود بحليب الأسود. وحتى عندما عاد سامي بذلك وهو يمتطي أسدًا، بدل حماره الذي التهمته الأسود، طلب والد ليلى مهرًا لابنته يبلغ ثلاثمئة جمل من سامي الذي لا يملك حتى معزاة واحدة!!

لغة بسيطة وقصص مفتعلة

صحيح أنّ هذه القصة من تأليف شامي، أي أنّها ليست من كتب التراث، لكنّها ستنتهي تلك النهاية السعيدة بزواج ليلى وسامي بعد تلك المغامرات غير القابلة للتصديق، لكنه لن يكون بتلك المتعة التي فاضت بها قصص التراث العربي خصوصًا، والشرقي عمومًا؛ فلغة شامي هنا جاءت بسيطة، والقصص مفتعلة ومُقلّدة لتلك القصص المتوالدة التي ذكرناها في التراث.
هذا الكتاب ليس رواية، بل كتاب يحكي عن مهنة شخص كان يحكي القصص ويُري الأطفال الصور التي تنتمي لأماكن وأزمنة مختلفة، وبالتالي قد يُبرّر هذه اللغة العاديّة في أنّها تُحاكي، أو تنقل، اللغة البسيطة والخيال البسيط لذلك الرجل حامل صندوق العجائب، لكنّ ذلك لن ينفي النظرة الاستشراقيّة لهذا الكتاب أيضًا.
الكتاب زاخر باللوحات التي رسمها الفنان الألمانيّ بيتر كنور وأضفت على الكتاب جوًّا يشبه أجواء كتب التراث التي كانت تزخر بلوحات الأبطال بخيولهم وسيوفهم وحبيباتهم، حتى أنّ رفيق شامي نفسه، في مقدمة الكتاب، يُعبّر عن سعادته وذهوله بهذه الطبعة الفاخرة من اللوحات المصاحبة للحكاية.
لا تنتهي الأمور عند سرد هذه الحكاية، بل يذهب شامي إلى سرد أجواء الزيارة التالية لصاحب صندوق العجائب، والذي يسرد من جديد حكاية سامي لكن مع ابنة تاجر للسيارات، ثم حكايات أخرى تنفصل عن التراث تمامًا لتعيش في الزمن الحاضر الذي يعيشه المستمعون الصغار أمام صندوقه الكبير.بعد ذلك بعامين لن يعود الرجل العجوز صاحب الحكايات والصور العجيبة لمدينة وزقاق الطفل الذي كبر وكتب عنه هذا الكتاب. بعضهم قال بأنّ الرجل العجوز مات، ومنهم من قال بأنّه أصيب بالجنون. لكن ذلك الطفل الذي في داخل رفيق شامي ما زال يُنصت وينصت، فربّما يسمع ذلك الصوت فجأة وهو ينادي: "تعالوا، تعالوا أيها الأطفال، تعالوا جميعًا إليّ هنا واسمعوا قصصي من دون مقابل. تعالوا كلكم هنا. بقرش واحد تستطيعون رؤية عجائب العالم"، ويركض إليه من جديد...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.