}
عروض

آل عبد الهادي في تاريخ ومآل فلسطين: قراءة نقدية حداثوية

محمد م. الأرناؤوط

21 سبتمبر 2018

بعد كتابه الأخير عن تجربة جبرا إبراهيم جبرا الحياتية والأدبية (ضفة ثالثة 23/3/2018)، الذي قرأ فيه مآل فلسطين والفلسطينيين قبل وبعد 1948، يوسّع الناقد الفلسطيني المعروف  فيصل دراج من دائرة المقاربة لتكون هذه المرة من خلال عائلة كان لها مكانها في تاريخ ومآل فلسطين قبل وبعد 1918 ثم قبل وبعد 1948: "آل عبد الهادي في تاريخ فلسطين – أقدار وطن ومآل نخبة وطنية" (عمّان، الأهلية 2018).

ومع أنه كُتب الكثير عن هذه العائلة الممتدة في دراسات لمؤرخين فلسطينيين وعرب وأجانب، إلا أن مقاربة د. دراج الجديدة تحمل نكهة خاصة: مقاربة التقلبات وصعود وهبوط العائلات الفلسطينية من خلال فهمها تغيرات العصر وتقبّلها الحداثة التي فرضت نفسها بسرعة على مجتمع تقليدي خلال حكم محمد علي باشا بلاد الشام 1831-1840.

يرتبط بروز عائلة عبد الهادي بقرية صغيرة (عرّابة) وشخصية مؤسّسة لمجد العائلة (الشيخ حسين عبد الهادي) تمثلت في جملة قصور غير مسبوقة (12 قصرا) جعلت من عرّابة مركزا مهما، قبل أن تنتقل العائلة إلى مدينة نابلس وتؤسس هناك مجدها الجديد. خلال هذا الانتقال كانت هناك تحولات كبيرة في المشهد الإقليمي والدولي: من حكم الملّة إلى حكم الحداثة التي جاءت مع محمد علي باشا والتي قّدرها واستفاد منها رأس العائلة الشيخ حسين.

بدأ بروز الشيخ حسين في 1820 في عرّابة، ببناء قصر كبير مجاور لقصر أبيه صالح عبد الهادي يعبّر عن طموحه في خلق زعامة محلية جديدة. وهكذا في 1827 نجح الشيخ حسين في نيل اعتراف الإدارة العثمانية به حين كلّفته بجمع ضرائب عرّابة ومحيطها، ولكن النقلة الكبيرة كانت مع "الحكم المصري" لفلسطين 1831-1840، إذ عيّنه ابراهيم باشا ابن محمد علي متسلما لجنين ثم منحه محمد علي الباشوية مع تعيينه مديرا لولاية صيدا التي كانت تضمّ شمال فلسطين، وبقي في منصبه هذا حتى 1837 بينما أخذ ابنه سليمان منصبه في جنين.

ومع أن عائلة عبد الهادي تخّلت عن الدولة العثمانية لتؤيد "الحكم المصري" الجديد، إلا أن استعادة الدولة العثمانية بلاد الشام مع تدخل الدول الكبرى في 1840 لم يجعلها تنتقم من عائلة عبد الهادي، التي كانت قد عززت مكانتها، بل استمرت في صعودها مع الجيل الثاني (محمود بك عبد الهادي وحافظ باشا عبد الهادي) حتى أواخر الحكم العثماني حين يبرز ممثل الجيل الانتقالي الجديد بين العثمانية والعروبة (عوني عبد الهادي).

أخذ هذا البروز الجديد يلفت نظر الأجانب من قناصل ورحالة ومستشرقين الذين رأوا فيه مؤشرا على وصول حداثة مبكرة، فالقنصل البريطاني جيمس فن كان يميز بين آل طوقان "الذين كانوا يميلون إلى المحافظة والحفاظ على التقاليد والولاء للسلطة العثمانية" وبين آل عبدالهادي "الذين اختاروا المثال المصري في التقدم"، أي الانتقال من تقاليد الريف الموروثة إلى معايير جديدة في الحياة مع الانفتاح على الخارج، الذي هو هنا مصر. فقد انفتحت عائلة عبد الهادي على "التقدم المصري"لا من "حيث المأكل والملبس، بل في ما يخصّ التعامل مع الحياة وصوغ الهيبة والتعامل مع الأجانب، وكل ما يسوّغ بناء قصور جميلة الهندسة".

ويبدو فهم "التقدم المصري" أوضح في كتاب ماري روجرز شقيقة القنصل البريطاني بدمشق في كتابها "من حيفا إلى عرابة"، حيث تقول بعد لقائها رأس العائلة: "أوضح لي صالح بك عبد الهادي أنه لا يؤمن شخصيا بالتمييز بين الذكور والإناث ..إذ إنه حظي بفرصة لتعليم أبنائه وتربيتهم وفقا لما يحمل من معتقدات وأفكار. لقد وصل إلى اقتناع مفاده أن درجة تقدّم ورقي أي بلد تعتمد بشكل كبير على المكانة التي تحتلها المرأة فيه، كما كوّن آراء نيّرة وحرّة حول الأثر الإيجابي لتعليم البنات ومنحهنّ حريتهن".

مع فهم جوهر التقدم، لا يعد من المستغرب اهتمام آل عبد الهادي بتعليم أولادهم في مصر ولبنان وإسطنبول وحتى باريس "عاصمة النور" كما كانت تُعرف. فقد مثّل جوهر "الحكم المصري" الانتقال من "حكم الملّة" إلى حكم المساواة بين الطوائف والمشاركة في الإدارة التي أصبحت ممثلة للجميع، ولذلك لا يعد مستغربا أن يحرص صالح بك عبد الهادي المذكور على إرسال ولديه إلى كلية اللاتين في عينطورة بلبنان. وقد وصل هذا الاهتمام بالتعليم في الخارج، الذي أصبح خريجوه يحتلون المناصب في الإدارة العثمانية الجديدة التي جاءت بعد "التنظيمات" في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، حتى يقال إنه في أواخر القرن التاسع كان يدرس في معاهد اسطنبول 21 طالبا من جبل نابلس منهم 19 من آل عبد الهادي.

من هذا الجيل الجديد برز عوني عبد الهادي (1889-1970) الذي جمع بين الحداثة والعروبة ورفع آل عبد الهادي إلى ذروة عالية خلال القرن العشرين. في الفصل الذي خصّصه د. دراج لعوني عبد الهادي، تبدو ثمار التقدم الذي تنبّه إليه آل عبد الهادي؛ فقد ولد عوني في نابلس ولكنه انتقل مع والده الذي كان يعمل في السلك القضائي إلى بيروت، التي وصلتها الحداثة مبكرا، ومنها انتقل إلى اسطنبول للدراسة في المدرسة السلطانية التي كانت تعد الكوادر للإدارة العثمانية الجديدة ، ثم أرسله والده إلى باريس حيث تخرج في كلية الحقوق في 1914.

مع إتقانه الفرنسية وانفتاحه على الحداثة الأوروبية، لم يعد جبل نابلس هو السقف بل أصبحت الحرية والعروبة الذروة الجديدة، حيث ساهم في تأسيس جمعية العربية الفتاة وتنظيم المؤتمر العربي الأول في باريس 1913 ليساهم لاحقا مع الأمير فيصل في مؤتمر الصلح بباريس في تلمّس دولة عربية في بلاد الشام تشمل فلسطين، وبعد ميسلون 1920 انتقل مع غيره من العروبيين إلى شرق الأردن ليساهم مع الأمير عبد الله في تأسيس الكيان الذي اعتبر آنذاك "قاعدة لتحرير بلاد الشام" ليتركه في 1922 وينتقل إلى فلسطين ليبدأ كفاحا قانونيا (مع فتح مكتب محاماة) وسياسيا (مع تأسيس حزب الاستقلال) حتى 1948.

في مقدمته للكتاب، يقول د. دراج عن مصير الفلسطينيين إنهم حُرموا بعد 1948 من الأرض ومن النخبة القائدة التي تقاتل من أجل الأرض، وذلك بعد أن تشتتت النخبة الفلسطينية على الدول العربية المجاورة التي خاضت صراعات في ما بينها على "تحرير فلسطين". في هذا السياق، تحفظ عوني عبد الهادي على مشروع "حكومة عموم فلسطين" الذي تبنّته جامعة الدول العربية، ومال إلى الكيان الجديد الذي أصبح يضم الضفة الغربية وشرق الأردن في 1950 حيث تقلد وزارة الخارجية في فترة عاصفة(1956) اعتزل بعدها العمل السياسي وغادر إلى القاهرة في 1964 ليقضي في جامعة الدول العربية ما بقي من العمر حتى وفاته في 1970.

صحيح أن تراث عوني وآل عبد الهادي استمر بشكل ما في صهره المهندس سمير (الذي تزوج ابنته ملك) ابن نعيم عبد الهادي (1910-1996) رئيس بلدية نابلس الذي أصبح في 1955 وزيرا للأشغال وعضوا بارزا في الحزب الاشتراكي برئاسة سليمان النابلسي، حيث إنه يمثل الآن قصة نجاح في الاقتصاد في المجال العربي وصولا إلى تعيينه عضوا في مجلس الأعيان الأردني، إلا أن دوره الأكبر يبدو في استعادة الذاكرة والحفاظ على تراث آل عبد الهادي المادي (ترميم القصور) والفكري (نشر أوراق ومذكرات الخ). وحول هذا، يقول د. دراج في خاتمة الكتاب "عن فلسطين ونخبها: ما كان وما سيأتي" إن "الإشكال الأساسي" لا "يقوم في توليد نخبة فلسطينية، إذ إنها كانت موجودة بنسب مختلفة، إنما في نوع العوائق التي تواجهها وتمنع عنها تحقيق مشاريعها" (ص 303).

من هنا تصبح، بحسب د. دراج، استعادة الذاكرة الفلسطينية للاستفادة منها في "صناعة المستقبل" فعلا من أفعال المقاومة للحصار المضروب على الفلسطينيين في الداخل والشتات.

      

      

   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.