}
عروض

العمل الممنوع

محمود عبد الغني

18 سبتمبر 2018

-1-

توجد في مكتبات جميع الكُتّاب والمثقفين كتب ممنوعة. و"الكِتاب الممنوع" صنفٌ تتداخل فيه طبقات وفئات، إذا تابعنا تطوّره، نكون قد تابعنا تطوّرها. الكُتّاب يراقبون بعضهم. رجال الدين يراقبون الكُتّاب والمفكرين. شرطة المراقبة هي جهازٌ تابعٌ للحكومة تقوم بعمل خاص هو في جوهره القيام بصدّ الأفكار "الشيطانية" التي يكتبها "الكبار" كي يتواصلوا بها مع "الصغار". والمدى الرمزي لهذا الأمر هو اختراق "غرفة الكاتب"، كما تصوّرتها فيرجينيا وولف، ومصادرة الأفكار "الشيطانية". إن المراقبة (الرقابة)، إذًا، هي أعلى مراحل الدولة المتحكّمة.

أنا هنا أسمّيه "العمل الممنوع" بصيغة الخلط بين الرواية والقصيدة والمسرحية، لأنّ المنع يطاول في الغالب هذه الأجناس، ولأن الرقابة طيلة تاريخها اكتسبت خبرة في منعها. يلتقي ذلك بما كتبه الأديب الكيني نغوجي واثيونغو: "حذّرني مراقب سجن شديد القسوة من أية محاولة لكتابة القصائد، وواضح أنه يخلط الروايات بالقصائد".

ومثلما لا تفرق هذه الأجهزة الرقابية بين أجناس الكتابة والتأليف فهي لا تفرّق بين معارض سياسي وأديب ناقد وجاسوس خائن، أو بين روائي وشاعر ومسرحي. لقد منعت قصيدة "عواء" للشاعر الأميركي ألان غينسبورغ، مثلما منعت رواية "عناقيد الغضب" لجون شتاينبك، أو "أليس في بلاد العجائب" التي تدخل في صنف سرد الفتيان. كما قد تمنع محكمةٌ عملًا مّا وتلغي محكمة أخرى، في البلد نفسه، القرار نفسه، مثلما حدث مع رواية "الغداء العاري" لوليام بوروز.

من بين الأشياء الثابتة في الأنظمة والإيديولوجيات القمعية أنها تراقب كل شيء، وتجنّد كل أجهزتها حتى لا يفلت من غربالها أي شيء. لكن ما ظلت تخاف من انفلاته هو ما ظل ينفلت منها. سنقترب هنا من هذه الظاهرة المليئة بالمتناقضات، وأحد أوجه هذا التناقض أن العمل الذي تمنعه الحكومات يعود ليُطبع ويُنشر ويُقرأ على نطاق واسع.

-2-

ظلّت دراسة الحقائق الأدبية والسياسية، ومنذ زمن طويل، محلّ اهتمامي في الدراسات الجامعية وفي التأليف الحرّ. ومنذ يومين فقط عثرت بالصدفة في إحدى المكتبات على النسخة الفرنسية من رواية "حديث في صقلية" للروائي والمترجم الإيطالي إيليو فيتوريني. وهي مثال جيّد للعداء التقليدي بين السلطة والأدب، للتناقض التناحري بين القمع والحرية، للتاريخ الذي دفع الطرفين اللذين يلعبان أدوارًا متناقضة: الفاشية والكاتب الحر. ولذلك سأتّخذها نموذجًا للكتاب الممنوع، لأن سيرة الكاتب المثيرة للاهتمام، والطابع الأسلوبي والفكري لروايته يقدّمان كلّيات نابضة عن طموح البشر في التعبير ورفض الفاشية، عن عمل الأدب من أجل إعادة الصلة مع الجذور المقطوعة للإنسان في ظل الأنظمة الشمولية الساعية إلى نشر التغريب والانفصال.

يمتلك إيليو فيتوريني بطاقة تعريف أدبية ملفتة، فبالإضافة إلى أنه روائي، فهو مترجم نقل إلى اللغة الإيطالية أعمالا للروائي البريطاني د. هـ. لورانس، ولفوكنر وهمنغواي، إضافة إلى تقلّده مهمة إدارة سلاسل لدى دور نشر عديدة. كما عمل منسّقًا، إلى جانب إيتالو كالفينو، في المجلة الأدبية "مينابو". ويُعتبر، أيضًا، مؤسّس الواقعية الجديدة في إيطاليا. وفي سنة 1941 اكتسب شهرة واسعة بفضل روايته "حديث في صقلية". فبوركت هذه الرواية التي نبّهت إلى ضرورة حماية الناس من أعدائهم، وبورك قراؤها الذين ثابروا على قراءتها مسلسلة في مجلة "فلورانتين ليتيراتورا"، التي كانت توزع ما يقارب ألف نسخة، لذلك لم تستطع الرقابة الفاشية معرفة محتوى موادها. وذلك دفع صحافيا من سويسرا لأن يكتب، في إحدى صحف "زوريخ"، أن الفاشية الإيطالية ليبرالية ومتسامحة لأنها سمحت بنشر كتاب مثل "حديث في صقلية". لكن الحقيقة عكس ذلك. فما كان وراء نشر هذه الرواية هو الجهل وغياب اليقظة. لكن الجهاز الرسمي للفاتيكان، "لوبسيرفاتور رومانو"، هو الذي أعلن سنة 1942 أن "حديث في صقلية" رواية لاأخلاقية ومعادية للوطن، ما جعل مصادرتها أمرًا محتّمًا. حينها كانت الرواية قد بلغت طبعتها الثالثة. وهو مصير مشابه لرواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا" التي شرعت صحيفة "الأهرام" في نشرها متسلسلة سنة 1959، ثم توقّفت عن نشرها في العام نفسه بسبب الاعتراض عليها من جهات دينية، وتحديدا الأزهر، ما اضطر محفوظ إلى نشرها خارج مصر عن دار الآداب اللبنانية.

-3-

مارست معظم دول العالم الرقابة على الكتب، وأصدرت في حقها قرارات المنع بناء على أحكام قضائية. فالاتحاد السوفييتي وأميركا منعا رواية جورج أورويل "1984"، ولم يُسمح لها بالتداول إلا في 1990. والصين منعت سنة 1931 رواية "أليس في بلاد العجائب"، ومبرر منعها كان في غاية الغرابة: لا يحق للروائي تصوير حيوانات تتحدّث وتتصرّف بطريقة الآدميين. ومنعت ولاية كوينزلاند الأسترالية من هم أقل من سنّ الثامنة عشرة من قراءة رواية "أميركان سايكو" لبريت إيستون إليس. وفي سنة 1957 منعت النرويج رواية "أغنية الياقوت الأحمر" لأغنار ميكله، لمحتواها الجنسي الصريح، ورفع الحظر عنها سنة 1958. ومنعت الرقابة السعودية رواية "مدن الملح" (خماسية روائية) لعبد الرحمن منيف، لطرحها فكرة أن المدن السعودية مدن طارئة لأنها لم تنشأ عن تراكم تاريخي، ومنعت "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر بتهمة التطاول على الله، و"بنات الرياض" لرجاء عالم، بتهمة تشويه صورة المجتمع السعودي، و"فئران أمي حصة" للكويتي سعود السنعوسي، لأنها عالجت التحولات السياسية في الكويت، خصوصًا خلال الحرب مع العراق، و"حكاية وهابية" للروائي السعودي عبد الله المفلح، لأنها طرحت سؤال: هل يستطيع الإنسان تخيّل حياته دون دين؟

تضمن الرواية شيوع الأفكار التي تتناولها بفضل لغتها وسردها ورواتها وشخصياتها المؤثّرة في الناس. فالقُرّاء لا يملّون من سماع حكاية سارد يروي لهم حكايات مشتركة مع حسّهم العام وشقائهم المشترك. تصبح الحكاية أكثر حيوية ودرامية من الأفكار المباشرة. كما تساهم النبرات والأصوات المختلفة في الرواية في إيصال كل شيء ببساطة تثير حنق الرقيب. كما تكثّف الكلمات من ظلالها والصور من مرونتها. ونتيجة ذلك تبزغ من عمق السرد قوة إيحائية سحرية، ومن هنا يبدأ الإنسان في تعلّم دروس بسيطة ومفيدة كانت من قبل غاية في التعقيد. وإن ذلك لنصر مشهود للشخصيات واللغة والسرد، وقبل ذلك للمؤلّف الذي يشكل ظلًّا من ظلال حكايته. إن ذلك ما يبرّر القبض على الرواية وترك مؤلفها في الهواء الطلق.

يشعر سيلفيسترو، بطل رواية "حديث في صقلية"، بخوف كبير من ضياع الجنس البشري، وهو رعب مجرّد في البداية. وبعد توصله برسالة من والده يخبره فيها بأنه ترك البيت والتحق بامرأة أخرى، ويشجعه فيها على زيارته، وإرسال بطاقات بريدية كل سنة، يقرر زيارة صقلية مدينة طفولته على متن القطار. وطيلة هذا السفر يرى هول المجازر المرتكبة في حق الناس. هذه هي بؤرة الرواية التي تستمر على مدى 175 صفحة في سرد ووصف أنواع الرعب التي تلحق بالشعب في ظل الفاشية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.