}
عروض

الشبكات الإنسانيّة: نحو تاريخ لمفهوم التقدّم

شكري المبخوت

8 يونيو 2018

لعلم التاريخ فتنته وسحره. فهو الذي يصنع سرديّاتنا الحديثة وأساطيرنا وحقائقنا التي نعيش بها أوهامنا القوميّة ونصنع من خلالها معاني وجودنا. لكنّ هذه السرديّات الوطنيّة الضيّقة على أهمّيتها في تفسير سياقات تطوّر الإنسان في بيئته ليست قادرة على أن ترينا الجوهريّ أي الإنسانيّ المشترك والمتنوّع في آن واحد بعيدا عن أوهام كلّ قوم عن أنفسهم خصوصا بعد أن تطوّرت تقنيات كتابة التاريخ حتّى أصبح يتّهم بالمركزيّة الغربيّة.

بيد أنّ تحوّلا أساسيّا برز مع الاهتمام بالتاريخ الكونيّ الإنسانيّ القائم على النظر في صيغ الائتلاف والتماثل بين المجتمعات والثقافات وصيغ التنوّع والاختلاف. وهذه السرديّة الكونيّة تكشف حقائق وأنماطا وخطاطات مثيرة للانتباه قادرة على تفسير التحوّلات الأساسيّة في الحياة البشريّة.

ومن أبرز هذه الأعمال كتاب "الشبكة الإنسانيّة، نظرة محلّقة على التاريخ العالمي" الذي وضعه جون روبرت مكنيل ووليام هاردي مكنيل (الابن وأبوه) وصدر في سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة (العدد 458، مارس 2018) في ترجمة جيّدة لمصطفى قاسم.

الشبكات الإنسانيّة

أطرف ما في هذا الكتاب أنّه يصهر معطيات معروفة لدى المختصّين داخل مفهوم صار مألوفا لدى الناس بفضل انتشار الثقافة الرقميّة وهو مفهوم الشبكة (الواب). وعلى قدر بساطة هذا المفهوم الذي يعرّفه المؤلّفان بأنّه "مجموعة من الارتباطات تجمع البشر معا ويمكن أن تتّخذ أشكالا كثيرة" (ص 20)، فإنّ اتّخاذه منطلقا للوصل بين المعطيات كفيل بتقديم نظرة شاملة مفيدة عن تحوّلات البشريّة وصيغ تفاعلها، تعاونا وصراعا، لتأسيس وجودها وتطويره وكتابة تاريخها المشترك وصنع معانيها ورموزها.

فكلّ أشكال الاتصال بين الناس من علاقات القرابة وطقوس العبادة إلى التبادل الاقتصادي والحروب وحتّى انتقال الأوبئة والأمراض إنّما هي لبنات في نسج هذه الشبكة. وما تزال الإنسانيّة إلى اليوم تطوّر هذه الشبكات منذ أن ظهرت اللغة لتبادل المعلومات رغم أنّ عدد الناس كان قليلا قبل اثنتي عشرة ألف سنة لمّا ظهرت الزراعة لتحقّق للإنسان ضربا من الاستقرار وإن في سياق محلّي أو إقليمي دون أن تلغي الشبكة الأولى.

ولكنّ ظهور المدن قبل ستة آلاف سنة في سومر القديمة أوجد شبكات حضريّة تفاعلت مع الشبكات الزراعيّة. وظلّت تحكم نسيج الشبكات وتفكّكها قبل أن تتشكّل قبل نحو ألف عام الشبكة العالميّة التي أدمجت شبكات صغرى داخلها ثمّ كانت الملاحة العالميّة عبر المحيطات خطوة أخرى في إدماج هذه الشبكات قبل خمسمائة عام.

وكان اكتشاف الكهرباء ولا سيّما اختراع التلغراف قبل ما يفوق القرن والنصف خطوة عملاقة في توحيد الشبكة العالميّة على نحو سريع جدّا ومكثّف.

والمهمّ من هذا، دون الدخول في التفاصيل الكثيرة، أنّ الشبكات في ما فهمنا من المؤلّفين مفهوم قوامه كل ضروب الاتصال والتفاعل داخل التاريخ الإنسانيّ فهي جملة من الحقائق التاريخيّة التي تكوّن مادّتها أداة نظريّة لبنينة الوقائع والأحداث وتفسير التحوّلات والانتقالات المختلفة وأنماط التماثل والتغاير في مختلف التجارب الإنسانيّة. ومن هنا تتأتّى خصوبة هذا المفهوم.


تكلفة التقدّم  

يخلو مفهوم الشبكة من أيّ حكم إيجابي أو سلبيّ فهي حاضنة للصراع والتنافس اللذين يولّدان القوّة والحروب والهيمنة والتفاوت الاجتماعي بموجب تقسيم العمل مثلا ولكنّها حاضنة في الآن نفسه لوجوه التعاون والتضامن بين البشر لحلّ المشكلات التي تعترضهم. فالثابت نزعة الشبكات المحلّيّة أو الإقليميّة أو الكونيّة إلى التوسّع بحسب قاعدة الإدماج. لكنّ ثمن هذا الإدماج يكون أحيانا باهظا فكلّما قوي التبادل الاقتصادي مثلا قوي التفاوت الطبقيّ والفقر وكلّما تطوّرت مهارات الإنسان في القتال وتجويد الأسلحة نزعت القوات المختصّة في السلاح إلى توجيهها لمن كان من المفروض حمايتهم وكلّما تعرّضت المجموعات البشريّة في المدن إلى الأمراض والأوبئة قويت لدى الناجين مناعتهم.

ولم يكن تكوين الشبكات أوّل الأمر مسألة قصديّة ولكن مع تطوّر الإنسانيّة ظهرت أشكال من الشبكات المقصودة من قبيل المعابد والجيوش وقطاع الطرق... إلخ ولجميعها قادة هم الذين سعوا إلى توسيع الشبكات للتمتع بتدفّق السلع والخدمات ويستغلّون في ذلك الأتباع الذين يخشون العقوبات أو يحرّكهم الطمع في نيل الجوائز. وأدّى هذا إلى صراع الشبكات الأقوى مع الشبكات التي تشكّلت خارج المدن فظلّت عاجزة عن حماية ممتلكاتها ومعتقداتها وحياة الأفراد فيها.

ولكن من العوامل الحاسمة عبر التاريخ في تطوّر الشبكات هو تيسير النقل والاتصال. وهو ما يلمس في تطوّر الكتابة فالطباعة فالإنترنت بقدر ما يلمس في خفض تكلفة النقل بالسفن الشراعيّة فالعجلات فالسكك الحديديّة فالطائرات. فبقدر الضغط على تكلفة نقل المعلومة أو السلعة تنمو الشبكات وتتوسّع بفضل السرعة والسهولة.

غير أنّ هذه الحركة الهائلة للتقدّم سرعان ما قضت على شبكات أخرى أقدم وأشدّ عجزا عن حماية نفسها لأسباب متعدّدة من قبيل عدم اختراع العجلة أو الكتابة مثلا. فكان مصيرها العزلة أي الحياة خارج الشبكة. لكنّ الاندماج لم يكن دائما شرطا في تاريخ تشكلّ الشبكات العالميّة. من ذلك ما لاحظه المؤلّفان من أنّ سبعة مجتمعات على البسيطة اخترعت الزراعة منذ اثني عشر ألفا وخمسة آلاف عام بصفة مستقلّة ربّما استجابة لمشاكل متماثلة. 

والناظر في الشبكات التي تشكّلت عبر التاريخ وصولا إلى الشبكة العالميّة الحاليّة التي توحّد أكثر من ستّة مليارات من البشر يرى بيسر أنّنا لم نصل إلى هذا الوضع إلا بعد استنزاف كبير لطاقات الأرض ومواردها بحيث كان الحفاظ على النوع البشري على حساب البيئة التي يعيش فيها. ومأتى ذلك كثافة الارتباطات والتبادلات التقنيّة والعلميّة والغذائيّة والماليّة والمعلوماتيّة. وهو ما أدّى إلى مرحلة جديدة أصبح فيها البشر يحوّلون البيئة من الناحية الجيولوجيّة والكيميائيّة والبيولوجيّة لكوكبنا. وهي حركة قويّة لا أحد يستطيع أن يحدّد مسارها النهائيّ ومستقبلها. فالثابت أنّها مليئة بالمخاوف والدمار بقدر ما هي مليئة بالآمال والتطلّعات.


وجه التقدّم وقفاه

لا شكّ أنّ الإنسانيّة استطاعت بالشبكات التي أوجدتها عبر تاريخها الطويل أن تسيطر على الكون لتكون سيّدته وتمكّن الإنسان من الصحّة ليعيش أطول والتعليم ليتبادل المعلومات على نحو أحسن ويعي ذاته والوفرة ليتمتّع بوجوده على الأرض. فالحياة اليوم أرقى على جميع المستويات. غير أنّ منطق الشبكات نفسه هو الذي أفضى إلى جملة من المشكلات التي لم تجد لها البشريّة حلولا مثل الفقر والتفاوت الاجتماعيّ والأسلحة الفتّاكة وتدمير البيئة.

ولكنّ أبرز المشكلات حسب جون روبرت مكنيل (في إحدى خاتمتي الكتاب) تكمن في أمرين أساسيّين هما النموّ المذهل للمعلومات بشكل لا يمكّن من تمييز الغثّ من السمين فيه وهدر الطاقة بشكل مذهل ممّا يستدعي من البشريّة البحث عن مصادر طاقيّة أخرى بما أن الشمس ستمدنا بالطاقة لبضعة مليارات أخرى من السنين ولم يعد من الممكن الاكتفاء بطاقة تقوم على حرق الوقود وما ينجرّ عن ذلك من دمار بيئيّ.

وقد رأى وليام هاردي مكنيل في خاتمة الكتاب أنّ تاريخ البشريّة هو بالقدر نفسه تاريخ الكوارث البيئيّة والبيولوجيّة والاجتماعيّة والسياسيّة ويقع وراءها استهلاك مفرط للطاقة بما يجعل الإنسان يشعر بعدم الأمان لا بخصوص تدفّق الغذاء والطاقة فحسب بل بخصوص تدفّق المعاني والرموز والآمال أيضا. فكيف سيتصرّف البشر مع الكوارث السياسيّة والعسكريّة والبيئيّة في المستقبل خصوصا أنّ حركة التمدّن افتقدت ما كان يمدّها به الريف من غذاء وقوّة عمل بعد أن اتّجهت الأرياف أكثر فأكثر نحو التمدّن؟

لذلك على الإنسانيّة أن تعيد التفكير في وجودها المشترك معتبرة بحركة تقدّمها الهائلة في كثير من التواضع خصوصا بعد أن صارت تتحكّم في البيئة حولها وتؤثّر فيها بعد أن ظلّت لقرون متأثّرة بها.

وعلى هذا يكون كتاب "الشبكات الإنسانيّة" بمدخله الطريف إلى تطوّر التاريخ الإنسانيّ إعادةَ بناء لماضي البشريّة المشترك وتفكيرا في المستقبل في آن واحد أمّا التفاصيل في الكتاب فمثيرة ومذهلة أحيانا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.