}
عروض

المتخيل بديلاً عن الحرب في رواية عبد السلام الشبلي

ضاهر عيطة

6 يونيو 2018
في بيت وسط دمشق، دمرته قذيفة هاون، تسكن الفتاة "حب" وبيت آخر محاصر، يقع في منطقة يسيطر عليها تنظيم "داعش"، يقطنه الشاب "ملاك" تدور معظم أحداث رواية "هوامش الحب والحرب" لـ"عبد السلام الشبلي" ومن خلال هذين البيتين، كأنما يتم تلخيص عموم الفضاء السوري، لنلمح أثر العزلة والوحدة، وقد صبغ خلفية أحداث الرواية، فيحاول "الشبلي"، والحرب تؤدي معزوفتها الأبدية المبشرة بالخراب والدمار، أن يأتي بشخصيات مغرقة بشفافيتها، تبحث عن مسار حياة مغاير عن تلك المسارات التي يفرضها الواقع. ليحمل شخصياته دلالات ومعاني تفترق عن تلك المستغرقة في مقامرة الحرب، انطلاقًا من الأسماء التي سميت بها، مرورًا بإفراطها العاطفي والوجداني، وكأن المؤلف شاء أن ينأى، وتحديدًا مع شخصية "حب" و"ملاك" عن الكراهية التي تنتجها الحرب، بمنحهما صفات وملامح لا تتطابق مع ما تعيشه الشخصيات الأخرى، بل لربما تنتميان إلى عوالم المتخيل أكثر من العالم الواقعي.

لذلك أوجد لهما فضاءً خاصاً، مغايراً عن الفضاء الذي انقطعت فيه أدوات التواصل بين الأطراف المتحاربة، ليحل محله تواصل من نوع مختلف، مركزه شاشة زرقاء تغدو هي الفضاء البديل، ومن خلالها تولد فيه علاقة حميمية. فقدت "حب" والديها بعد أن قتلتهما قذيفة أحالت بيتهم إلى خراب، كذلك فقدت صديقتها "رؤى" التي كانت تسكن معهما في نفس البناء، وبينما كانت "حب" في حالة تواصل دائم، وجامح مع شابها "ملاك" المجهول بالنسبة إليها، من خلال الشاشة الزرقاء، نراها حينما التقت بشقيقها في بيروت، وأرغمت على التواصل معه، تشعر بوطأة هذا التواصل، ويتبين لها مقدار زيفه، ففي الحرب تفقد العلاقات الإنسانية مضامينها السابقة، لتحل محلها مضامين ومعانٍ جديدة، تجعل من التواصل مع الآخرين أمرًا شبه مستحيل، إذ ما من آخر يبقى على ما هو عليه، فإما أن تنتزعه الحرب عن الوجود، أو تشوه روحه. كما هو حال الأمكنة. ويبقى العالم الافتراضي هو الفضاء الأرحم والأكثر تألقًا، وعليه لا يعود لحضور الشخصيات المادي ذلك الأثر الذي كان لها من قبل، فلا حضور "حب" ولا صفاتها، هي من جعلت " ملاك" يغرم بها، ولا صفات وحضور "ملاك" هما ما جعل " حب" تغرم به، إنما حلت معانٍ ومفردات مختلفة، تجلت بالرسائل الفسبوكية، والتي غدت هي الشرارة التي أشعلت لهيب الغرام بينهما، وبذلك ما عادت ملامح الآخرين، ولا حضورهم المادي، يشكلون مرآة عاكسة للذات الإنسانية، إنما مفاتيح الكيبورت والشاشة والنقطة الخضراء، باتت هي المصدر الأساسي لإدراك الشخصيات لوجودها ومعناه. تفعل العلاقة الغرامية الناشئة بين"حب" و"ملاك" عبر الشاشة الزرقاء، فعل السحر، فترمم ما كان قد تخرب وتكسر داخل النفوس والأمكنة، فتحيل البيت المهدم إلى مكان حميمي، تجد فيه "حب" جنتها، في حين يغدو البيت الذي يسكنه شقيقها في بيروت، باهتًا، شبيهًا بصاحبه الذي خدعها، وتشعر في كنفه، وكأنها تعيش في سجن يطبق على روحها وأنفاسها.

وخلافًا للمألوف أيضًا، لاتستكشف "حب" جسدها، وتفتح أنوثتها، من خلال علاقتها بكائن بشري، إنما يحدث هذا مع جدار غرفتها الذي يغدو بديلًا عن الكائن الإنساني، واضعًا "الشبلي" الجدار الأصم، في زمن الحرب، مقابل الإنسان، مانحًا الأول وظيفة، وقيمة لم يسبق وأن امتلكهما من قبل، معريًا سلوك الإنسان الذي لا يكاد يجيد مهنة أكثر من امتهان الحرب والقتل.

وكي يتاح لـ "حب" مواصلة العيش في ظل هذه المآسي، لا تجد من خلاص لها إلا في الحب عبر العالم الافتراضي، وهي التي لم تكن من قبل تؤمن بأن الفضاء الأزرق، قادر على خلق علاقة على هذا القدر من الحميمية، لكنها تكتشف أخيرًا أن العالم الواقعي هو من بات العجز ينخره، خلافًا للعالم الافتراضي. حيث تكاد تصبح النقطة الخضراء، وكأنها تجسد الآخر تجسيدًا كاملًا، إذ يتم ترقب انقشاعها، تمامًا كمن يترقب مجيء الحبيب. هذا التضاد بين المفاهيم والمعاني والوظائف، ليس إلا محاولة لانتشال الشخصيات من متاهات العبث واللامعنى. وأكثر ما يتضح انقطاعها عن واقعها المادي، في السياق الروائي، حينما تسافر "حب" إلى بيروت، فهناك نراها هاربة من الناس، مستغرقة في تأمل البحر، ترسم صورة حبيبها "ملاك" الذي بالكاد تعرف ملامحه، فوق الأمواج.

مجمل أحداث الرواية تكاد تشي، إلى أن شرط استمرار العلاقات الحميمية بات مرهونًا في ظل أجواء الحرب، بالعالم الافتراضي، وكل ما سيأتي عن العالم الواقعي، ليس إلا محبطًا وقاتلًا، فخروج "ملاك" عن إطار الشاشة الزرقاء، حين تعرضه للخطف من قبل العصابات الداعشية، كان بمثابة طعنة في صميم هذه العلاقة، وتكرر هذا مع "حب"حينما خدعها شقيقها واحتجزها في بيروت، ولعل ذلك كان بمثابة تمهيد للمصائر التي ستؤول إليها الشخصيات في نهاية الرواية، عندما التقت "حب" مع "ملاك" على أرض الواقع، إذ ما إن يجتمعا في مركب يجوب البحر، حتى تتم الفاجعة بغرق "ملاك" حتى دون أن يتاح لأي منهما تبادل ولو كلمة واحدة. بالعموم، استطاع الشبلي من خلال لغة السرد والوصف، أن يخلق في روايته فضاء يختلف عن الفضاء الواقعي، وإن كان مولودًا من رحمه، لكنه يتمرد عليه، ويلفظه بالمطلق، وإن كان الروائي ساراماغو قد قال ذات مرة "لن يستطيع الحاسوب أبدًا تسجيل آثار دمعة على رسالة حب" يمكن القول: إن الشبلي في روايته استطاع أن يوحي لنا بأثر تلك الدمعة على الحاسوب إلى حد كبير.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.