}
عروض

أحجية القراءة: نعيش لنقرأ أم نقرأ لنعيش؟

 

في ما بين سنة 1975 وسنة 2001، أي طيلة ربع قرن بالتمام والكمال، ظلّ حوالي مليونَيْ متابع من متابعي القناة الفرنسيّة الثانية أوفياء لموعد أسبوعيّ يتسمّرون فيه كلّ ليلة جمعة أمام أجهزة التلفزيون. لم تؤلّف قلوبهم المقابلات الرياضيّة ولا جدل البرامج السياسيّة ولا حلقات المسلسلات الدراميّة بل وحّد بينهم عشق الكتاب ومتعة القراءة. وما كان لعشق كهذا أن يستمرّ ولا لمتعة مثل تلك أن تدوم لولا شخص اسمه برنار بيفو، فهو الذي نجح من خلال برنامج Apostrophe ("فاصلة عليا"، 1975-1990) ثمّ برنامج Bouillon de culture ("طبخة ثقافيّة"، 1991-2001) في جعل الكتاب طعاماً لكلّ فم. ولو كان من المقبول اليوم أن نتحدّث عن آلهة مثلما كان الشأن لدى الإغريق فلن نجد خيراً من برنار بيفو رمزاً للمطالعة والقراءة.

عن حياته مع الورق ومسيرته الطويلة في معاشرة الكتب أصدر برنار بيفو مؤخّراً، بالاشتراك مع ابنته سيسيل، عملا تحت عنوان "Lire" ("قراءة" أو "مطالعة"). وهو عمل حرصت دار فلاماريون الباريسيّة للنشر على أن تجعل منه تحفة فنيّة تحفظ بها، من خلال الصور والوثائق والنصوص، جزءاً من الذاكرة الثقافيّة الفرنسيّة، ذاكرة الأجداد ينقلها الآباء إلى الأحفاد.

 

كتاب منتظر، ومفاجأة غير متوقّعة!

"كثيراً ما طُلب منّي أن أصنّف كتاباً عن المطالعة أَعْرِضُ فيه طريقتي، ولطائفي، وميولاتي، وأقدّم نصائح عسى أن تستحثّ حالتي الناسَ على القراءة. وقد كنت أجيب [من يطلب منّي ذلك] بأنّني لن أُقنِع إلا المُقتنعين، بما أنّهم سيكونون فعلاً بصدد مطالعة الكتاب الذي كنت سأصنّفه لهم".

بهذه الفقرة يستهلّ برنار بيفو عمله في ما يُشبه الاعتذار عن ذنب لم يرتكبه، ذنب تأخُّرِه في تصنيف عمل لطالما انتظره منه متابعوه وهم الذين يرون في شخصه أنموذجاً يُحتذى ومثالاً يُتّبع. وقد يستغرب مَنْ ليس لهم إلمام بما سبق بثّه على القناة الفرنسيّة الثانية طيلة فترة 1975-2001 من أن تكون لبرنار بيفو مثل هذه المكانة وأن يكون سقف انتظارات متابعيه عالياً إلى هذا الحدّ. ولكنّ الأمر في الحقيقة ليس بالمستبعد إطلاقا. ففي برنامج "فاصلة عليا" هذا الذي اشتمل من 1975 إلى 1990 على 724 حلقة، كان برنار بيفو يقدّم الجديد الذي تُصدره دُورُ النشر الفرنسيّة أسبوعيّاً بمعدّل أربعة إلى خمسة كتب في الحصّة الواحدة، فيستدعي المؤلّفين ليعرض أعمالهم أمام الجمهور العريض ويُعرّف بها ويناقش مضامينها وما جاء فيها. ويكفي أن نقوم بعمليّة حسابيّة بسيطة لنفهم السرّ ونعلم أنّ الرجل قد قرأ ما يناهز 3620 كتابا طيلة خمس عشرة سنة، بمعدّل 241 أثراً كلّ عام.

كذا كان الأمر مع برنامجه الأوّل "فاصلة عليا"، أمّا برنامجه الآخر "طبخة ثقافيّة"، هذا الذي تواصل من 1991 إلى 2001 وأُنجزت منه حوالي 250 حصّة طيلة عشر سنوات، فقد شهد تراجعا طفيفا في الاهتمام بالكتاب بسبب رغبة برنار بيفو في الانفتاح على مجالات إبداعيّة أخرى كالمسرح والسينما والموسيقى والفنون البصريّة. ولكنّ هذا التراجع الطفيف لم يمنع الرجل من مواصلة المهمّة التي كرّس لها حياته، مهمّة التعريف بما يصدر في نطاق الثقافة الفرنسيّة من آثار وما يخرج عن مؤسّساتها من إبداعات.

بلغة الأرقام وبمنطق الإحصائيّات فإنّ القرائن كلّها تلتقي لتؤكّد أنّ برنار بيفو يمثّل حقّا ذاكرة الكتاب الفرنسيّ. ولكنّ هذا النجم التلفزيّ/الرمز الثقافيّ الذي طالما انتظر الملايين من متابعيه كتابا يحمل توقيعه يكشف لهم فيه أسرار عشقه للورق وولعه بحبر المطابع فاجأ الجميع بما لم يكن متوقّعاً منه.

ولا نعني بالمفاجأة هنا إقدامه على إشراك ابنته سيسيل بيفو في تأليف الكتاب، فذلك أمر سنعود إلى بيان أسبابه لاحقا، ولكنّ المفاجأة الأكبر تتلخّص في تعمّده مراوغة قرّائه الشغوفين من خلال تنبيهه لهم بضرورة تجنّب الاقتداء به والسير على نهجه. حجّته في ذلك أنّ علاقته بالكتاب علاقة مهنيّة، فهـو -مثلما يقول عن نفسه- "قارئ محترف يتقاضى أجرا على المطالعة. وتجربتـ[ـه] مع الكتب لا تشبه البتّة الطريقة التي تفسح وفقها الغالبيّة العظمى من القرّاء مكاناً ما للمطالعة في حياتها".

 

المطالعة: الاحتراف والهواية... والهويّة!

ليس من الغريب أن يعمد برنار بيفو إلى مثل هذه الإستراتيجيّة في تخييب أفق انتظار قرّائه وفي التشويش على توقّعاتهم فذلك جزء من أسلوبه، وما كانت حصص البثّ المباشر لبرنامجيْه التلفزيّيْن "فاصلة عليا" و"طبخة ثقافيّة" مشوّقة لجمهور متابعيها محبّبة إلى نفوسهم لولا أنّها ظلّت تحتفظ بنكهة خاصّة قائمة على العفويّة والبساطة والمفاجأة اللّطيفة بعيداً عن أيّ تعالم مصطنع أو استعراض للعضلات الفكريّة والثقافيّة. وهو إذ يستهلّ أولى صفحات كتابه بتنبيه قرّائه إلى أنّه "مُطالع محترف مأجور"، لا يهدف إلى التباهي بمكانة مخصوصة ينفرد بها دونهم، ولا إلى تزهيدهم في السير على نهجه، ولكنّ غاية ما يسعى إليه أن ينزع أمام أعينهم ذلك القناع الذي ظلّ يرتديه طيلة ربع قرن من الظهور على شاشة التلفاز. وهو قناع صار من الضروريّ أن يُنزع حتّى يتّضح للجميع أنّ ثمّة فرقاً جوهريّا في علاقة برنار بيفو بالكتاب، من ناحية، وعلاقة سائر القرّاء به، من ناحية أخرى.

وليس هذا الفرق الذي نقصد فرقا في الكمّ ولا في العدد، بل إنّ الأمر متّصل اتّصالا وثيقا بالسياقات والوظائف. فبرنار بيفو لا يطالع رغبة منه في تحقيق متعة، وهو لا يقرأ تحقيقاً لفائدة معرفيّة عاجلة أو آجلة، ولكنّه "مجبر على ذلك" -مثلما يقول- من أجل "تمديد قراءته بحوار يُجريه مع المؤلّف أو بمقال نقدي" يكتبه. وأمام اختلاف السياقات والوظائف أقرّ برنار بيفو بأنّ على "الجمهور أن ينتظر من تجربة شخص هاوٍ للمطالعة أكثر ممّا ينتظره من تجربة عدّاء ماراثونيّ محترف فيها". وتأسيساً على هذا الموقف الذي تمّ فيه التمييز بين "مطالعة الاحتراف" و"مطالعة الهواية"، أفسح برنار بيفو المجال لقلم آخر اختار أن يشاركه صفحات أثره، ونعني بذلك ابنته الصغرى سيسيل. وقد قدّمها على أساس كونها "قارئة هاوية" لم تنقطع يوما عن المطالعة وعن الغوص في النصوص الروائيّة بالرغم من "أنّ عليها أن تقسم وقتها –شأنُها في ذلك شأنُ نساء عديدات- بين حياتها المهنيّة بصفتها صحفيّة، وحياتها الأسريّة أُمّاً لثلاثة أبناء أحدهم مصاب بالتوحّد".

وعبر تداخل الصوتَيْن، صوت الأب الذي كانت القراءة حرفته ومصدر رزقه، وصوت البنت التي ظلّت المطالعة عشقها ومنبع متعتها، تشكّلت صفحات الكتاب التي ناهزت المائتَيْن وتوزّعت على واحد وعشرين قسماً بالإضافة إلى تصدير وملاحق تخلّلتها جميعاً صورٌ ووثائق بعضها نادرٌ وبعضها معروف ولكنّها قُدّمت جميعاً في أسلوب حرّ بعيد عن التلقين والوعظ والإرشاد.

 

القراءة في شتى أحوالها!

لم يتوقّف برنار بيفو وابنته سيسيل عند مظهر واحد من مظاهر علاقتهما بالكتاب، بل إنّهما حاولا -كلّ على طريقته ومن موقعه: موقع الاحتراف أو موقع الهواية- تصوير الجزء المجهول من حياتهما الشخصيّة التي شكّلت الأوراق مادّتها والحبر طَعمها. أمّا الأب، فقد كان يقضي ما بين عشر ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة يوميّا في المطالعة؛ وهذا ما جعله محبوسا في بيته منقطعاً عن العالم لا يؤمّ المسارح ولا قاعات السينما، وحتّى إن خرج لتناول الغداء مع أحد الأصدقاء فإنّه سرعان ما يعود لتدارك ما فاته من مواعيد قراءته التي كان نسقها يُجبره على الفراغ من كتاب واحد يوميّا حتى يؤثّث برنامج حصصه التلفزيونيّة.

ولكنّ انقطاع برنار بيفو الأب عن العالم وبقاءه رهين محبسه في البيت لا يعني بالنسبة إلى سيسيل بيفو البنت مشاركته الأسرة حياتها. فبالرغم من حضوره الجسديّ المتواصل طيلة عقود في شقّته العائليّة بباريس، وبالرغم من محدوديّة حركته بين مكتبته الخاصّة وغرفة الجلوس وغرفة الطعام، فإنّ حضوره كان غياباً كلّه. فهو عند جلوسه إلى المائدة مع أفراد العائلة يظلّ هائما في عالم الكتاب الذي فرغ من مطالعته، متحفّزا للدخول في عالم الكتاب الموالي الذي عليه أن يقرأه، متهيّئا لإعداد الحصّة الجديدة من برنامجه.

وقد كان لهذه الحياة التي وصفتها سيسيل بيفو من الداخل وَقْعان مختلفان عليها وعلى أبيها. أمّا الأبُ، فلم يُخفِ أسفه على ما فات وهو الذي كان بإمكانه أن يُخصّص وقتاً أكثر للعائلة دون أن يُلحق ذلك ضيما على برامجه التلفزيونيّة الناجحة. ولعلّ من أطرف ما جاء في شهادة برنار بيفو عن هذه المرحلة من حياته في سياق علاقته بالكتب أنّه لم يلتزم يوماً بتلك النصيحة التي كثيرا ما تتكرّر على المسامع والتي تتمّ فيها دعوة الآباء والأمّهات إلى قراءة ما تيسّر من الصفحات على أبنائهم وبناتهم قبل النوم! وأمّا البنت، فرغم إقرارها بوطأة المفارقة الناجمة عن حضور الأب الجسديّ وغيابه الفعليّ، فإنّها لم تخرج عن منطق المثل العربيّ الشهير: "كلّ فتاة بأبيها مغرمة"! ذلك لأنّ اللّقب العائليّ الذي كانت تحمله منحها حظوة وامتيازا لم يُمنحا لغيرها من أبناء جيلها. وسرعان ما وجدت في الكتب ملاذا لا من مفارقة الأب وحده، بل أيضا من مفارقة الأمّ أيضا. وقد كانت أمّها صحافيّة لا غنى لها، هي الأخرى، عن الأوراق وعن حبر المطابع.

وفي هذا الإطار العائليّ المخصوص الذي كانت المطالعة فيه ميزة ومتعة تشكّلت طقوس القراءة ونواميسها وأخذت البنت عن أبيها وعن أمّها عادة العودة إلى القواميس لفكّ مغالق النصوص والنفاذ إلى معانيها الأُوَل والثواني، واكتسبت من خلال ذلك كلّه ملامح شخصيّة لا يمكن أن توجد إلاّ لدى المقبلين على القراءة. وهي ملامح لخّصها برنار بيفو في قوله: "إنّ الأشخاص الذين يطالعون أشخاصٌ أكثر انفتاحاً، إنّهم آسرون أكثر من غيرهم، وهم أفضل تسلّحا في حياتهم من أولئك الذين يزدرون الكتب". وليست هذه الصفات ممّا ينقطع به المرء عن الآخرين بل هي نهج في الحياة نتعلّم بمقتضاه كيف نزور المكتبات، وكيف نختار أفضل الإصدارات، ومتى نقرأ وأين، وكيف نرتّب ما نشتريه من آثار في رفوفنا الخاصّة، وكيف نقدّم الكتاب هديّة لمن نحبّهم، وكيف نُحبّب أبناءنا في المطالعة...

 

في كتاب برنار بيفو، بصوته وصوت ابنته سيسيل، بهذين الصوتَيْن المتقاطعَيْن المتمازجَيْن، المتباعدَيْن المتماوجَيْن، يمكننا أن نتعلّم الكثير عن عشق الكتب. وبعيدا عن الوصفات الجاهزة والروشتّات التي لا تنفع أحداً يمكننا أن نحلّ أحجية العنوان وأن نقول مطمئنّين: لا يهمّ إن كنّا نعيش لنقرأ، أو إن كنّا نقرأ لنعيش... بل الأهمّ أن نقتنع بأنّ الكتاب هو حياتنا الأخرى التي لا تضاهيها حياة!

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.