}
قراءات

"خوف الكائنات" لياسر الزيات: آلهة المعاني المغدورة

طارق إمام

1 أبريل 2018

فقط في الواقع الافتراضي بوسعنا أن نصبح آلهة، ذلك أن خفة الصورة لا تُمكِّن فقط من امتلاك "نسخة" من العالم، لكن، وبالقوة نفسها، تجعل بوسع "الفرد" أن ينتجها، ففي الواقع الافتراضي يخلق الفرد إلهه، ويُميته. يتبنى ياسر الزيات (مصر) في قصيدته "خوف الكائنات" (دار المتوسط، ميلانو) ذاتًا أقرب لإله مغدور، أو مطرود من الفردوس الذي صنعه هو بالذات. إله يجرب تموقعه في النسبي وقد امتلك، بالكاد، نسخته الخاصة من العالم، فأصبح أحد المتعاطين معه، كمتلقٍ، بعد أن كان منتِجه الوحيد. بالتالي نحن أمام الموجودات وهي تُحاكَى كتصوّرات يكفي تبنيها ليتحول التصور لواقع: "وضعتُ خيطًا على الطاولة، وسميتُه النهر، وكسرتُ كأسًا، وسميتُها الطريق، نفختُ في التراب، فكان صباح".

يقلب "خوف الكائنات" معطى بديهيًا يقضي بأن الأسماء تلي الموجودات، حيث تهبُ يدُ الثقافة "الدال" للموجود الطبيعي بتحويله لعلامة إيذانًا بمغادرته موقعه كموجود طبيعي إلى معطى ثقافي، ومن ثمّ، قيمي. المدلولات هنا تخلق دوالها وليس العكس، وكأننا أمام عملية "إعادة تدوير" للعالم.  كأننا أمام قصة خلقٍ جديدة، تُشيد هذه المرة كواقعٍ افتراضي، ببساطة، على طاولة: "صعودًا وهبوطًا، التحمت السماءُ بالأرض، والبحر باليابسة، وصارت الحياة شجرة، والشجرة صارت طاولة. وعلى الطاولة وُضعت الكائنات كلها جنبًا إلى جنب، فسال الدمُ على يدي، وكان انفجار، وكان صمتٌ يلد الكون، ويميته". 

إنها معارضة شعرية، تمتح من المعجم نفسه في النهوض بخطابها اللغوي، لكن ليصبح أفقها هذه المرة "الفرد" كتمثيلٍ للنسبي بعد أن كان "الإله" كذات شمولية تختصر جميع الذوات وتحيل، بداهةً، للمطلق.

الذات بوصفها كلمة

يتبنى "خوف الكائنات" منطقًا شعريًا مفاده أن الوجود غير موجود إلا في الوعي، في اتصالٍ فلسفي بالمثالي الذي ينفي عن الوجود نهوضه المستقل عن الوعي الإنساني به، وحيث العالم محض فكرة، هي المهد والمقبرة معًا: "في الفكرة تولد الكائنات، وتموت". من ثم، فلا وجود لأي ذات إلا بوصفها "كلمة": "آويتك بين الكلمات حتى صرتِ كلمة، كانت في البدء، ولم يكن قبلها كلمات".

اتصالٌ مباشر بقصة التكوين التي تُمثل فيها الكلمة البدء، غير أن معارضة قصة الخلق "ما بعد الحداثية" تفترض اتصالًا بالصورة وقد صارت علامة شمولية تبتلع اللغة الطبيعية. هنا، ثمة أسطورة برج بابل وقد صارت ميثولوجيا بخفة الصورة، بالتالي فإن الشتات القادم مادته الصورة، وكأن الصورة نفسها منذورة للعزلات التي سبقتها إليها اللغة، لينشأ السؤال: ماذا لو أصبحت الصورة تعبيرًا ضيقًا عن "الهوية" يحل محل اللسان، من حيث نشأت كموجود "إمبريالي" إن جاز التعبير؟ "لن ينجو أحد من غضبة الأشجار، والغابة نفسها عاجزة عن إيقاف الزمن. بلا صوت، بلا حركة، يمضي كل شيء إلى مصيره. الذئاب تفكر في الشعر، بوصفه الراعي، والشعر يقفز من قطار إلى قطار، وينزف من رأس إلى رأس. لو أنه بدأ من الموت، لأدرك أن الطريق جثة غير قابلة للفناء، ولو بدأ من الحب، سينهار كبرج في حكاية قديمة". أليس هو مأزق اللغة (بوصف الشعر هو النشاط اللغوي الأرقى) وهي تبحث لنفسها عن موطئ قدم في "صورة العالم" وهي آخذة في التقوّض؟

يحفل "خوف الكائنات" برغبةٍ يائسة في إعادة تشييد وجود مادته الأنقاض. هكذا ستتأسس "خوف الكائنات" على المطلق وهو يتجسد في ذوات ومن أجل ذلك، فإن الذوات الممكنة هنا هي نفسها الموجودات الغفل والمعاني المجردة (كأن الارتداد لما قبل الثقافة هو نفسه الارتداد لما قبل الصورة العابرة للغة، نحو الصورة التي لا تتشكل سوى بمرورها باللغة): المحبة والشفقة والكراهية، الرياح والغيوم، النار والشجر، الهواء والمطر والفصول. العالم، نفسه، ذلك الكُلي المطلق، هو أحد الذوات الشاعرة في "خوف الكائنات".

هذه هي "شخوص" خوف الكائنات: آلهة صغيرة للمعاني، تُعارض الميثولوجيا الإغريقية، مع فارق جوهري، أننا هنا أمام آلهة مهزومة أمام مخلوقيها. إنه "خوف الكائنات" الذي يعقب أيضًا المسخ الأوفيدي الإغريقي كهامشٍ يجادل الجذر العميق لميثيولوجاه. يبدأ العالم هنا وقد انتهى التحوُّل وتجمَّد الزمن في صفرية يُبئرها الشعر متصلًا بسرديتها، بحيث لا تكف الحكاية عن التلويح، وبحيث يُشكِّل كل مقطع أسطورةً صغيرة في عالمٍ فقد السيطرة على موجوداته فاكتفى بالتسليم.

إننا نقرأ العالم، أو نعتقد أننا نقاربه، كلٌ من موقعه، لكن كيف يمكن للعالم أن يقرأنا؟ كيف يمكن للكُلِي أن يقارب الجزئي، الذي هو فضلًا عن كل شيء، إحدى ذراته؟

 يتأسس "خوف الكائنات" على حركتين متقاطعتين، تتبادلان الأدوار عبر صوتين: ذات تقارب الوجود دون أن تكون شريكة في مشهده، كأنه "إرثها" الجاهز، وذات تقرأ الوجود كأنا متورطة، تعيه بالمضارع فيما يتخلق هنا والآن. بين الذات المُشاهِدة والذات المتورطة تتشكل بنية القصائد في طريقين أيضًا: سرديةٌ لا تخفى على المتلقي، تكاد توقظ الحكاية في كامل سرديتها لتبعثها من الشعر، متقاطعةً مع فعل استبطان يرُد المشهد السردي إلى عنصره الشعري. ربما تبرر هذه البنية التراوح الملحوظ في مساحات المقاطع الشعرية التي ينفرد كل منها بصفحة، دون أن نغفل أن النص كله يهمل التقطيع الشعري المألوف للسطور الشعرية، مقابل اتصالٍ يسم عامةً النص السردي.

إيقاظ السردي وإخماده

يمكن ملاحظة هذه البنية المراوحة بين استنطاق السردي وإخماده، بدءًا من المقطعين الأوَّلين، واللذين يمكن أن ينسحب قانونهما على الإيقاع الأشمل للنص. يبدأ النص بمطاردة، تأسيسٍ يطل عبره "المحكي" ملتفتًا دون مواربة لسرديته: "ذات يوم، جلس الحبُّ على العتبة، وكان فقيرًا وشاحبًا ومتعبًا. وفكَّر أن بإمكانه أن يسرق البيت، لكن البيت انتبه إلى الغريب الجائع، فانتفض كأنه أم، وصرخ بأشباحه كلها. كان الحب جبانًا، وخائفًا من أشباح البيت، فأخرج خوفه من جيبه، وصنع منه كلبًا، ليحميه. ولكنه كان بخيلًا، فلم يُرِد أن يُطعم الكلب، وكان خبيثًا، فأراد أن يخادعه، وأدرك الكلب أن للحب نوايا سيئة، فجعل من نفسه بيتًا، وعوى. كان الحب يجري، والبيت يصرخ، والكلب يعوي، والأشباح تتخبط في الجدران. في المقابل، كان العالم يجلس وحيدًا، متكورًا على نفسه. كان يعرف أن النهاية تولد من هذه المطاردة".

من "ذات يوم"، التي تؤسس لـ"سارد كلي" يمسك بأهداب حكاية استعادية، إذا ما استعرنا لغة التنظير السردي، لحضور الذات الشاعرة بضمير المتكلم، وهي تجادل المشهد "البانورامي" بتجريدٍ كامل: "على الجبل، رأيتُ نسرًا يحلم بفريسة. كان نائمًا كطفل، وجناحاه كانا نائمين". من هذه البنية يتخلق الدال الأول، والأكثر هيمنة في النص: "المطاردة"، ومنها أيضًا يتخلق ارتباك السؤال الشعري للذات الشاعرة: أيهما هو العالم، أهو الصورة التي تبتلعنا ورغم ذلك تُمكِّننا من التعامل بأمان مع عالم ليس سوى نصٍ مرئي؟ أم أن ما ندعوه العالم هو، فحسب، ذلك النص التجريبي الذي نخوضه معرضين للألم وذاهبين للفناء؟ تذيب الذات الشاعرة هذه الثنائية بالإعلاء من شأن ارتباكها عوضًا عن تحويله لمرثية، بجمعها بين جوهر الذات الإنسانية والذي يمثله السؤال وعصب الذات الإلهية متمثلًا في القدرة على الخلق: "كنتِ فكرة وحيدة في العدم، فأوجدتكِ من ضحكتي. من الصوت جئتِ، وكان الكون صامتًا، وكان ساكنًا، فجعلتكِ رياحي، وولدتكِ، فأوجدت بمولدك الموسيقى. ولكنك تجلسين الآن وحيدة تحت الشجرة، تبكين، كأن حنينًا يأكلك إلى الرائحة الأولى للكون. وخفتُ أن ألمسك، فتحترقي، خفت أن أقبلك، فيختلط المخلوق بالخالق".

على ثقل العالم المطروح، وغرقه في جديته، إلا أنه إجمالًا يمثل "بارودي" لقصة الخلق، ولكافة الميثولوجيات التي تجعل من الفرد إلهًا أو تُقرب الإله من نسبية الفرد. هنا، "بارودي" يستعير لغة سالفة في غير موضع لكي يزيح التصور التوراتي للعالم من الثقل للخفة، كأن اللغة أداة البناء والهدم معًا. يتحول العالم من جدارية تيهٍ واسعة في لقطة بانورامية، إلى لقطةٍ نهائيةٍ مقربةٍ لوجه الوحدة، الوحدة التي تجسدها المرأة بالذات، ذلك الشريك المصنوع من مادة الأنا ليصبح نفسه "الآخر" الأكثر انفصامًا.

تهرب الكائنات في النهاية، تغادر رأس صانعها لتصبح، بدءًا من الآن، كافرةً به ومشككة في وجوده: "ورأيتُ رأسي تنشق فتهرب منها الكائنات، وتصرخ. وتركتُ ضلوعي تسيل، لتنجو، وقطعتُ يدي، لكي أُنقذ الزمن من الدوران". الإله هو من يبحث عن الهرب، ويأمل فيمن يمد له طوق نجاته، لكن كيف، وقد أصبح واحدًا من الكائنات التي خلقها؟ بالأحرى، صار الكلمة المفقودة في المعجم الذي اخترعه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.