}
قراءات

مسلمون ضد الحداثة: تحولات العلاقة مع الذات والآخر

حسام أبو حامد

18 مارس 2018
أقنع تقي الدين الشامي، المعروف بالراصد، السلطانَ العثماني مراد الثالث، ببناء مرصد إسطنبول في عام 1850، من أجل تصحيح التقويمات الفلكية العائدة إلى أولوج بك. وما إن أنجزت المهمة حتى دمّرت البحرية التركية المرصد، بأمر السلطان وبتحريض من مفتي السلطنة، شمس الدين قاضي زاده. وسواء كانت حجة الهدم أخطاء فلكية، تسببت في خسارة معركة، أو أن المرصد بات نذير شؤم على السلطنة، أو مزعزع قناعات دينية، فإن تدميره سيعكس تلك الذهنية المتوجسة من الحداثة والرافضة للتحديث، حتى إن شاعر البلاط، علاء الدين منصور، لم يتردد في الثناء على هدم صرح علمي كلف السلطنة عشرة آلاف قطعة ذهبية.

الغرب ملهماً

اعتمدت السلطنة العثمانية التي طبعت الإسلام بطابعها الخاص في أوجها، على إدارة بيروقراطية وعقلانية لمؤسسات متطورة نسبياً مع قدر من التجديد الثقافي. لكن ذلك اصطدم، في النهاية، بسقف الروح المحافظة والاقتصاد التقليدي، القائم على بقايا نظام الخراج الإسلامي، وفائض الإنتاج الزراعي.

زعزعت صدمة الحداثة لامبالاة العالم الإسلامي الذي بدأ يتعرف الطابع الاقتصادي والسياسي والحقوقي للغرب، مع ردود فعلٍ كثيرة. ومنذ سبعينيات القرن التاسع عشر، ستبدو أوروبا ملهمة، ليس لقادة سياسيين فقط، مثل محمد علي في مصر، بل أيضاً، لمفكرين مثل رفاعة الطهطاوي الذي امتدح الباريسيين الذين يحبون معرفة أصل الأشياء والبرهنة عليها، من دون أن يبقوا حبيسي التراث.

وتحت تأثير هذا الإلهام، سيطرح عصر النهضة سؤاله المحوري: لماذا تقدمت أوروبا وتخلف المسلمون؟ ومعه أيضاً، سيبدأ الصراع بين العلمانية والدين، بين التراث والحداثة.

الغرب في مرآة الشرق

في كتابه "المسلمون والحداثة الأوروبية"* يذهب خالد زيادة إلى أن نظرة الأوروبيين إلى المسلمين كانت موضوعاً لعدد كبير من البحوث التي كتبها أوروبيون وغير أوروبيين، أما نظرة المسلمين إلى شعوب أوروبا وتبدلها من الماضي إلى الحاضر فلم يتناولهما باحث عربي أو مسلم من قبل.

وإذا كانت البحوث التي عالجت نظرة الأوروبيين إلى المسلمين تتبع خطاً بات معروفاً لا تخلو من حشرية معرفية علمية، فإنه ليس من ترسيمة بيانية تسمح للباحث تعقباً منهجياً لنظرة المسلمين إلى أوروبا، والآخر غير المسلم، في داخل أسوار مؤسسة علمية واضحة المعالم.

كان التعريف بأوروبا إسلامياً من اختصاص الجغرافيين، لكن لم يهتم الجغرافي بالحديث عن القوى السياسية والدول، وجمع مادته بدون عناء تمحيصها أو تركيبها. وكانت المعلومات التي جُمعت عن مناطق مختلفة ضئيلة مقارنة بما عرضوه من معلومات عن بلاد الإسلام.

لم تشكل المسيحية الأوروبية في القرون الوسطى أي بعد من أبعاد تشكل الهوية الإسلامية، ولم ينظر المسلمون إلى أوروبا وشعوبها نظرة واحدة. ويذهب زيادة إلى أن صعود أوروبا في مرحلة لاحقة لم يؤثر في حث المسلمين على تبديل نظرتهم، أما الوقائع الجديدة فلم تكن تجد من يصوغها  ابتداء من عصر المماليك وما تلاه. ويتفق مع مونتغمري واط أنه ليس صحيحاً أن المسلمين بدّلوا نظرتهم إلى أوروبا بعد الحرب الصليبية، بل حافظوا على تصورهم السابق، وعلى شعورهم بتفوقهم الذاتي.

تحولات النظرة إلى الآخر

يبدو زيادة متفقاً مع برنارد لويس على أن أوروبا الغربية لم تثر اهتمام المسلمين لأنها لم تكن قادرة على أن تقدم لهم شيئاً، حين كانوا في مرحلة الأخذ والتفاعل، وحين أصبح لأوروبا ما تقدمه، في مطلع نهضتها، كان المسلمون والعرب عاجزين عن الأخذ.

احتقر المسلمون الفرنجة ومن جاورهم لكن لم تنطو تلك النظرة على شيء من العداء، إذ إن بروز تلك النظرة مشروط بإدراك أمرين: حقيقة القوى السياسية في الغرب اللاتيني، ومدى ما تشكله من خطر على وجود الإسلام. لم يصبح إدراك هذين الأمرين واقعاً قبل القرن الخامس عشر.

وفي الوقت الذي بدأنا فيه نلمح تبدل النظرة الإسلامية لأوروبا، بدأ الأوروبيون بإدراك واقع قوة المسلمين، والتحرر من تأثيرهم العلمي والثقافي، وانقلب الإعجاب السابق لكل ما هو عربي نفوراً واشمئزازاً. ولم يمض وقت طويل حتى انقلب احتقار المسلمين للأوروبيين، واشمئزازهم منهم، إلى إعجاب.

التجربة العثمانية

إذا كانت الفكرة الشائعة أن العرب اكتشفوا الحداثة مع حملة نابليون على مصر 1798، كما تقول العبارة الشهيرة "استيقظ الشرق على مدافع بونابارت"، فإن المؤلف يذهب إلى أن المسلمين، وتحديداً العثمانيين، اكتشفوا المدنية قبل ذلك بقرن. والمفارقة أن ذلك حدث نتيجة هزيمة عسكرية ألّمت بالإمبراطورية العثمانية، شكلت مفصلاً في علاقة المسلمين بأوروبا.

انتهت محاولات الإصلاح التي قام بها عثمان الثاني إلى مقتله على يد الانكشارية عام 1623، وأظهرت هزيمة كارلوفيتز 1699 عجز الانكشارية وصحة توقعات المفكرين العثمانيين المطالبين بتدارك الانحدار والتدهور، وظهر اتجاه الانفتاح على أوروبا.

شكلت مشروعات السلطان سليم الثالث الإصلاحية انقلاباً على النظام القديم، ورغم النهاية العنيفة لتجربته، بمقتله بعد التحريض عليه من قبل أعداء الحداثة، فإن إجراءاته في مجال العسكرية والمالية والإدارة، وتوطيد العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأوروبية مثلت عهداً لم تعد ممكنة بعده العودة إلى الوراء. إذ تكرس في عهده الصراع بين القديم والجديد وفتحت النوافذ أمام رياح التغير والمفاهيم الجديدة، وخطت الدولة العثمانية خطوة كبيرة، على الرغم من الانتكاسة، نحو التحديث الذي تتابع فصولاً في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى عصر التنظيمات، وإعلان الدستور، ثم الغاء السلطنة وإعلان الجمهورية.

أدخلت الثورة الفرنسية تطورا جديدا في صورة أوروبا عند المسلمين، فإضافة إلى فكرة أوروبا المتقدمة، دخلت فكرة جديدة تتعلق بالنظام السياسي، مفادها بأن هذا النظام يقوم على مبدأ الحرية الذي لم يكن معروفا من قبل لدى المسلمين.

تطورت الحركة الدستورية ما بين 1876 و1908، وانتهى الأمر بإعلان الدستور الذي قلص صلاحيات السلطان، وأكدت هذه الحركة نفسها في مصر وتونس وإيران، لكن بتوتر أقل مما شهدته تركيا التي قادها مصطفى كمال إلى الانفصال عن التاريخ الإسلامي، والانضمام إلى الأنموذج الأوروبي، مما ترك جدلا خارج حدود تركيا.

يحاول زيادة تنظيم المادة المتعلقة بنظرة المسلمين إلى أوروبا في الأدبيات الإسلامية، من خلال عينات وفقا لتطورها الزمني، عبر قائمة طويلة تبدأ من رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، وتنتهي بعبد الله العروي وهشام جعيط، ليركز على النظرة المعاصرة، محاولا أن يستشرف منها آفاق المستقبل، لتجاوز ثقل الماضي والنظرة الموروثة، لاسيما مع استمرار قناعة تتفاوت في العمق واليقين تقول إن موقف أوروبا والغرب من المسلمين امتداد لموقف قديم عنوانه العداء، يتمثل في الحروب الصليبية المستمرة منذ ألف عام، تلك الحروب التي أهملتها ذاكرة المسلمين قبل أن يعودوا ويستذكروها في العصر الحديث.

أوروبا تعيد صياغة العالم

يضع زيادة يده على مفارقة مفادها بأنه بينما كانت السلطنة العثمانية تحاصر أوروبا (حصار فيينا الأول 1529) كانت أوروبا المحاصرة تنطلق قوة حديثة تتجاوز حدودها البحرية. ولم يستطع العثمانيون، وهم يحاصرون أوروبا في رقعتها الجغرافية الطبيعية، الحد من تمدد أوروبا واجتياحها للعالم. وفي سبيل إعادة صوغ العوالم الحضارية القديمة والمعاصرة، والسيطرة عليها عسكريا واقتصاديا وثقافيا، ابتدعت أوروبا علمين: الأنثروبولوجيا والاستشراق، فكانا أداتي معرفة وسيطرة، وحصيلة لتمدد أوروبا في العالم.

لم يحدث في تاريخ الحضارات أن تجشمت حضارة مسيطرة عناء دراسة الأمم التي استعمرتها. تميزت أوروبا بالحشرية والعقلانية على السواء، وكانت هذه العقلانية مثيرة لإعجاب النحب التي تلقت تربية أوروبية، وأثارت اعتراضات الفئات الأكثر تمسكا بتراثها، وتقاليدها التي اهتزت بعنف.

الإصلاحية الإسلامية

في أواسط القرن التاسع عشر، أخذت أفكار الحرية والوطن تنفذ إلى جيل من المتعلمين، في الوقت الذي سعى فيه إداريون إلى تحديث مؤسسات الدولة والتعليم والقضاء، في الفترة التي عرفت باسم حقبة التنظيمات العثمانية، التي تتزامن مع ما عرف باسم عصر النهضة العربية.

ارتبطت تجربة النهضة في مصر بإرادة العاهل، فكانت نهضة ابتدعتها السلطة التي تؤسس الجيش، وتبني المدارس، وتنشئ الصحف، وتفرض أنماط العمران، وتشجع الفنون. وعموما لم يطرح فكر النهضة مسألة الابتعاد عن الدين، بل ظهر الإسلام تحديثيا متسامحا، متوافقا مع تعليم المرأة، مستوعبا مفهوم الوطن، مقيدا سلطة العاهل، منفتحا على القيم الإنسانية.

كان السلطان عبد الحميد الثاني أول من استخدم الإسلام استخداما سياسيا بحتا، من أجل مواجهة أوروبا. مساعيه في استنهاض الرابطة الإسلامية قلصت نفوذ المؤسسة الدينية، ومنعت بروز حركة تجديد للتفكير الإسلامي في عاصمة الدولة العثمانية، وأدت الرقابة العثمانية إلى هروب من يفكرون في تحديث الإسلام الى مصر، وأصبحت القاهرة عاصمة دينية للعالم الإسلامي عوضا عن إسطنبول. وهناك، ستتبلور الإصلاحية الإسلامية على يد محمد عبده ورشيد رضا.

على خلاف رجل النهضة، تحرر الإصلاحي من التبعية لأي مؤسسة رسمية دينية كانت أو حكومية، وبثّت الإصلاحية روحاً عصرية في الإسلام مع بداية القرن العشرين، وحتى خمسينياته، وحققت خطوات بارزة في نشر ثقافة إسلامية معتدلة ومنفتحة، تتطلع إلى مواكبة الإسلام للعصر.

العروبة بين الإصلاحية والأيديولوجيا

غيّرت ثورات بداية القرن وجه العالم العثماني العربي، وطوت صفحة السلطنة دون أن تحقق واحدة من هذه الثورات أهدافها كاملة. مع ذلك أسهمت الثورات في ظهور قوى مجتمعية صاعدة، وأسهمت في تجاوز الماضي، وإطلاق أفكار جديدة.

تحولت تركيا إلى العلمانية، واختارت مصر الليبرالية في ظل الملكية، وتحول المشرق نحو العروبة الإصلاحية السابقة لعصر الأيديولوجيات، التي شكلت التيار العريض لمناهضة الاستعمار، لكنها لم تستطع الصمود أمام طغيان التيارات الراديكالية، القومية والاشتراكية، ولا التيار الإسلامي الذي نشأ في كنف الإصلاحية وانقلب عليها.

ما يميز القومية العربية من العروبة الإصلاحية، هو تأثرها بالمذاهب الفكرية الغربية، فهي نتاج التحولات الاجتماعية في حقبة الانتداب، وانخراط أبناء الفئات الوسطى، والفئات الاجتماعية الدنيا في الحياة السياسية، وأبناء الطوائف الذين وجدوا فيها سبيلا للانخراط في الحياة السياسية على أمل بلوغ السلطة من خلال الثورة والانقلاب. ومن حيث هي فكرة شمولية، انبنت على مقارعة المؤامرة الخارجية، فعدم تحقق الأمة ناجم عن الأعداء في الخارج، يشهد على ذلك زرع الاستعمار للكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية.

نفت القومية العربية التنوعات داخل الأمة وأنكرت وجود أقليات إثنية خصوصاً، وعلى الرغم من مظاهر التغريب التي كانت تزداد في الحياة اليومية في المدن العربية، فإن الخطاب القومي البعثي والناصري، استدخل بعداً دينياً، يرى في الغرب صليبية متجددة.

هزم المشروع القومي، بجناحيه البعثي والناصري، في حرب عام 1967، وكان ذلك تكريساً لفشله في تحقيق التنمية الشاملة.

المجتمع البديل

كان تأسيس حركة "الإخوان المسلمين" 1928 رد فعل غير مسبوق على اجتياح الغرب للعالم الإسلامي، والجواب عن إخفاق الإصلاحية الإسلامية في إيجاد إطارها التنظيمي.

شق الإسلام الأصولي طريقه، جاعلاً من العداء للغرب قضيته، ليس الغرب بوصفه سياسة واستعماراً بل الغرب بقيمه وأفكاره وأحلامه، ودعا إلى إقامة المجتمع المسلم، ما قاده إلى ممارسة السياسة. وبالإضافة إلى يوتوبيا الخلافة، لم تعد الشريعة أحكاما تختص بالفرد والشخص المسلم، بل هي تعبير عن هوية ثقافية، ونظام للدنيا، وبديل من أنظمة الشرق والغرب.

كانت الأصولية ظاهرة اجتماعية بقدر ما هي ظاهرة أيديولوجية، إذ عبّرت الحركات الإسلامية عن ضيق من احتكار الطبقات الاجتماعية العليا للمناصب في السياسة، والوظائف في الإدارة، وإمساكها بالاقتصاد، وهي التي مثلت قيم أوروبا زمن الاستعمار الفرنسي والإنكليزي. وخلافا للتيارات الأيديولوجية السياسية التي تبنت أفكار الغرب، نسجت الأصولية الإسلامية خطابا معاديا لقيم الحداثة.

بات الانتساب إلى الحركات الإسلامية لا مجرد انتساب إلى معتقد وتنظيم، بل نمط عيش في مجتمع بديل عن المجتمع القائم الذي تسوده قيم الغرب.

الإخفاق

يرى زيادة أن فوز "الإخوان المسلمين" في مصر، بعد ثورة عام 2011، كان ثأرا تاريخيا بعد ما يزيد عن ثمانية عقود من المحن والنفي والاضطهاد. لكن سنة من حكم الإخوان أثبتت أنهم لم يمتلكوا رؤية لمشكلات مصر، لا سيما الاقتصادية، ولا برنامجا للحكم سوى سياسة التمكين، بزرع عناصرهم في مؤسسات الدولة. وجاء إخفاقهم بالدرجة الأولى من خشية غالبية المصريين من "أخونة" الدولة والمجتمع، لتشكل إزاحتهم عن السلطة منعطفا في حاضر الحركات الإسلامية ومستقبلها، ستترك آثارا في التنظيمات ذات الجذور الإسلامية.

إن تجارب الحركات الإسلامية وعثراتها بعد 2011 تؤذن برؤية المنعطف الذي سيدفعهم إلى الاختيار بين العزلة والانشقاق، أو الاندماج في الحركة السياسة وشرطها الأول القبول بالتعددية.

رفعت الحركات الأصولية "شعار الإسلام هو الحل"، لكنها عجزت عن تقديم البديل الاقتصادي والسياسي، لتخوض معركتها في الميدان الوحيد الباقي، وهو التمسك بالتقاليد والسنن، والأخلاق المتمحورة خصوصاً حول جسد المرأة.

بين ثورتين

تجاوزت ثورات 2011 الشعارات الأيديولوجية كلها، وانشغل المتظاهرون بالحرية المفقودة، والكرامة المهدورة، قبل أي شيء آخر، وبالمقارنة بين ثورات مطلع القرن العشرين وثورات عام 2011 يخلص زيادة إلى أن ثمة اختلافات أساسية.

عبرت ثورات مطلع القرن العشرين عن النزوع إلى الحياة الدستورية، والتحرر من العثمانية باسم العروبة، ما حفّز التضامن الوطني، وكانت أوروبا مصدرا للأفكار الكبرى من القومية إلى الاشتراكية إلى الليبرالية. التحرر اليوم ليس من الاستعمار وإنما من أنظمة أحادية ولم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب، فلا تحرك ثورات العالم العربي اليوم الأفكار الكبرى، وإنما قضايا العيش والكرامة والعدالة الاجتماعية، باعتبارها حقائق إنسانية شاملة.

أتت ثورات مطلع القرن العشرين في ظل تراجع دور الدين في الحياة العامة، لكن ثورات 2011 أتاحت الفرصة أمام الحركات الإسلامية أن تتصدر المشهد، ما أعاق مسعى الثورات إلى إزاحة الأحادية من الحكم، وتأسيس الدولة على مبادئ الديمقراطية وتداول السلطة.

كان دور الأفكار حاسماً في ثورات مطلع القرن العشرين، ممثلاً بنخب فكرية وقانونية، صاغت الدساتير، وأدى المثقفون أدواراً بارزة في صوغ بنى الدولة ومؤسساتها وتأسيس الأحزاب. في 2001، لا دور للمثقف ولا للمؤسسات الثقافية، ولا للأحزاب، سوى بقايا أحزاب الخمسينيات والستينيات، ما مكن حركات الإسلام السياسي الكامنة أن تتصدر واجهة الأحداث، وملأت الأفكار الدينية الفراغ الذي خلفه أفول عصر الأيديولوجيات والأفكار.

الثورة: فرص النهضة والإصلاح

احتاجت كل ثورات العصر الحديث سنوات أو عقودا قبل تحقيق الاستقرار، وأثارتها النزاعات الأهلية الإثنية والدينية، وتعاقبت سلطات تعبر عن صراعات بين الأطراف الثائرة ذات التطلعات العقائدية المختلفة، فضلاً عن استدعاء التدخلات الأجنبية.

يؤكد زيادة أننا إزاء ثورات عميقة، فهي ليست انقلابا، ولا استبدال سلطة بأخرى. لكن لا يقاس المدى الزمني للثورات بالوقائع وحسب، وإنما بقدر ما تنتجه الحوادث والوقائع من أفكار تعبّر عن قوى اجتماعية وتيارات سياسية.

يحتاج العرب إلى أفكار تتلاءم مع العصر الذي يعيشه العالم، والمستقبل الذي ينتظرهم. أفكار تتجاوز القومية والإسلامية ومع ذلك تستعيد التراث الذي ظهر بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، تلك المرحلة التي شهدت ولادة ليبرالية عربية مختلفة برواد الإصلاح والنهضة، بما تعنيه الأخيرة من انفتاح على المدنية الحديثة، وما يعنيه الأول من مطابقة الإسلام مع الإنسانيات والحقوق والقوانين.

إن ولادة فكر عربي جديد يتجاوز الأيديولوجيات المعادية للغرب، ويتحرّر من نظرية المؤامرة على العرب والمسلمين، لن يتحقق في برهة من الزمن، وربما يستغرق جيلاً من التحولات.

___________________________________

* من تأليف خالد زيادة صدر بطبعته الأولى (بيروت، تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات). يتضمن الكتاب ثلاثة أعمال للمؤلف سبق نشرها وهي: كتاب "اكتشاف التقدم الأوروبي" طبع في عام 1981 في بيروت، ثم في القاهرة عام 2010 تحت "عنوان المسلمون والحداثة الأوروبية" ـ كتاب "تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا" (بيروت  2010 والقاهرة 2015) ـ كتاب "لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب" (بيروت 2013 والقاهرة 2015). المحور الناظم لهذه الأعمال هو رصد التحولات في نظرة المسلمين والعرب إلى أوروبا.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.