}
عروض

القصيدة المصرية الفرانكفونية في استعادةٍ جديدة: أنطولوجيا "الحُب"

طارق إمام

16 مارس 2018

ظل الأدب المصري المكتوب بالفرنسية أشبه بطفل لقيط، يثمن البعضُ طليعيته واجتراحه، ويدعم الكثيرون اغترابه وانزواءه وكأنه نغمة نشاز انتهت بالتئام أغلب عازفيها بموطن اللغة التي كتبوا بها، ليصبحوا فرنسيين لم تتبق من مصريتهم سوى الأسماء العربية. استقبلت المقبرة الباريسية جثامين جورج حنين وجويس منصور وألبير قصيري وإدمون جابس وغيرهم، فيما اكتفت القاهرة بدورها كمهد منسي. وربما جاء النزوع القومي لمصر الناصرية منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين لينسحب على نقاد الأدب، الذين استبعدوا، عن قصدٍ أو جهل، ذلك التيار المجدد من متن التجربة الأدبية المصرية ملتفتين لـ"العروبة"، وكأنه كان صرخة مبتسرة في البرية. أضف إلى ذلك الطبقة الاجتماعية التي انتمى لها أغلب هؤلاء "البورجوازيين"، والتي أُخمدت أحقيتها في الوجود بسبب خطاب يوليو الذي بحث عن أصواتٍ فنية نابعة من الطبقة التي نهض ليجعلها العمود الفقري لمشروعيته.

"منذ نحو ثلاثين عاماً، حرصتُ على ترجمة مختارات من أعمال جورج حنين وجويس منصور وآخرين، وكان الهاجس الكامن وراء هذا المشروع هو إعادة إدراج الأدب الفرانكفوني المصري في تاريخ الأدب المصري الحديث، بعد أن كان المؤرخون والنقاد التقليديون قد استبعدوه، إما بسبب الجهل أو نتيجة لتحيزات إيديولوجية رجعية شتى". هكذا يستدعي المترجم المصري بشير السباعي بدء تجربته مع ترجمة الأدب المصري المكتوب بالفرنسية، بينما يقدم للقارئ العربي كتاباً جديداً موضوعه مجدداً ذلك الأدب عبر ترجمات جديدة لقصائد ونصوص نثرية. يضم "أغنية الغريب/ أصوات فرانكفونية مصرية"، والذي صدر مؤخراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، ترجمات جديدة لنصوص أربعة من أبرز الكتاب المصريين الذين كتبوا بالفرنسية، هُم أحمد راسم، فولاذ يكن، إدمون جابس، وألبير قصيري.

في مقدمته، ينكأ السباعي أسئلةً لم تندمل، حول أهمية التجربة الفرانكفونية المصرية، وموقعها ليس فقط من الأدب المصري الحديث، بل من الأدب العالمي: "كان السؤال الأهم عن مكانة الأدب المصري المكتوب بالفرنسية في المجمل الإبداعي المصري الحديث، ما دفعني إلى الحديث عن صوفية محمد خيري ورومانتيكية أحمد راسم وفولاذ يكن وسوريالية جورج حنين وجويس منصور، إلخ. ظهر جلياً أن الأدب المصري المكتوب بالفرنسية ليس شاغلاً لمؤرخي هذا الأدب من الفرنسيين وحدهم، أمثال مارك كوبير ودانييل لانسون، الذين بذلوا جهوداً عظيمة في تعريف القارئ الفرنسي بإسهامات كتّابنا الفرانكفون".

"الحب" كاختبارٍ جمالي

بقراءة المختارات المُمثِّلة للشعراء الأربعة، تتضح الزاوية الأبرز التي اختارها السباعي ليقدم عبرها النصوص، وهي "الحب" كموضوع شعري. يبقى الحُب موضوعاً شعرياً كاشفاً إلى أبعد حد، حيث تُبرز التراوحات في تناوله، الفروق الدقيقة بين شاعرٍ وآخر مع تناول موضوع شائع بل وربما مبذول، ما يجلو التصور الجمالي والوجودي الخاص لكل شاعر، وخاصةً أن أهم ما عانت منه لافتة "الأدب الفرانكفوني المصري" لدى التلقي هو ذلك التعميم الذي وُسم به أصحابها بحيث طغى التوصيف العمومي على الخصوصيات الفردية والتيارات الجمالية المتراوحة، مع ندرة المهتمين المعمقين لذلك التيار الذي نشط خاصةً خلال الثلث الأول من القرن العشرين.

اختار السباعي نماذج تختبر ذلك الملمح مرة بعد أخرى، كاشفةً في الحقيقة عن التراوحات الرؤيوية في تجربة أربعة من أبرز المصريين الذين كتبوا بالفرنسية، بمن فيهم ألبير قصيري، الذي يُقدَّم في هذا الكتاب كشاعر.

يقدم أحمد راسم (1895 _ 1958)، تجربة الحب ملتبساً بصوفية تصل العلاقة الدنيوية بالإلهي والطبيعي. بدءاً من قصيدة "دعاء" التي تمثل مناجاة مباشرة: "إلهي، يا من تعلم ثقل الكلمات/ أدعوك أن تجعل كل قصائدي أغنيات حب/ مطرزة بالصمت كأفئدة اليتامى/ لأنه لم يبق فيّ/ غير سر الكلمات/ المتلاطمة حتى الضنى./ أدعوك أن يتسنى لي مثلما تسنى للشاعر تاو تسين/ أن أتمتم بأغنيات على عود بلا وتر/ لا يفهمها سوى حبيبتي/ مثلما تفهم نظرتي/ حين تستقر خجلى/ على عري/ يديها الأنثويتين". لا تعدم قصيدة الحب عند راسم شكل "الومضة الشعرية"، التي تنهض مباشرةً على المفارقة، عبر أقل عددٍ من الدوال الممكنة، مثل قصيدة "لماذا": "سألتكِ ابتسامة/ فمنحتِني كل نفسك/ وحين سألتكِ لماذا/ جاوبتِني بابتسامة". تسم "الرومانتيكية" تجربة راسم، كما أسلف السباعي، وهي الرومانتيكية ذات العمق الصوفي، التي تساوي بين الحب الإنساني والحب الإلهي، كواحدة من الأدبيات الرومانسية المكرسة: "حين يتركز عليّ بهاء عينيك/ أشعر بأن كل شعاع حزمة حية/ وهيهات أن أكون في أي وقت آخر أكثر قرباً من الله". يقترب راسم من الحسي، لكنه أيضاً يصله بالطبيعي كانعكاس للمطلق، ويصل منه للحب الإلهي، كاشفاً عن النص الشعري الصوفي كأحد روافده الأساسية. متناصاً مع إحدى لوحات محمود سعيد (وكان استدعاء نصٍ تشكيلي لمعارضةٍ شعرية عملاً شديد الطليعية في ذلك الوقت) يقدم راسم قصيدة "المرأة ذات العينين الخضراوين": "صورة ذراعيها تثب فيَّ كغزالة/ في الحلم، شددت على ذهب أذنيها/ تنسمتُ أزهار فستانها/ وأصابعي تحرس عذوبة أفنانها./ أشعر بأن رضاب ثغرها/ سوف يشفيني/ نظرتها تصلني كنسمة رقيقة/ تستخلص من الأزهار أريجها المتموج". في هذه القصيدة يُحيل راسم المجرد/ اللوني إلى متجسد/ حسي، كأنه يرد الفن للطبيعة في عملية عكسية لأحد أدوار الفن المتعارفة.

حتى التجربة الإسبانية في المتن الشعري لراسم، تجد لنفسها تمثيلاً في قصائد الحب، عبر قصائد مثل "ماروخا القرطبية"، "كونشيتا"، "أغنيات إسبانية لا تُنسى"، تستلهم العصب نفسه، مع توظيف للشيفرات الثقافية، بحيث ترُدُّ المشهد لسياقه الثقافي، متصلاً أيضاً بالطاقة الغريزية في وحشيتها: "ليس ما يأسرنا خطوط وجهك، ولا خطوط جسدكِ الغادر المثير/ بل اللهب الذي يضيء/ نظرتك العطشى للدم../ الماتادور يدفع الثور الضخم إلى الجنون ويوقظ فيه وحشية إنسانية، إذ يلوح له بوشاحه الأحمر الذي يشبه منديل عرس../ حمرة شفتيكِ تثير أعصابي الخشنة وتُحرِّك فيّ شهوة ضارية../ فترفقي يا امرأة".

من العنف إلى السخرية

عاش فولاذ يكن حياةً ليست بالطويلة، فقد رحل في السادسة والأربعين من العمر (1901 _ 1947)، غير أنه يظل أحد أبرز الأصوات المصرية الفرانكفونية. في مقاربته للحب، يتصل يكن مباشرةً بالطبيعي، بنبرةٍ رومانسية لا تخطئها عين: "حالمةً، تراقبين المشهد الطبيعي الرحب/ الذي تتراءى وجوهه المتباينة في عينيك،/ وإذ تجتازُ النسمةُ أوراق الشجر المخضوضرة/ تَطبع قبلتها المديدة على ذهب شعرك./ أخال أنني أرى فيكِ، يا ذات الحُسن الذابل الفخور، فنظرتُكِ تعرف جيداً إبداء ذلك/ شعاعاً شمسياً هادئاً وحيداً،/ بحيث إن النهار، إذ يرحلُ، ينسى جرَّه وراءه!". بخلاف قرينه راسم، لا يذهب يكن للقوة الميتافيزيقية التي يمثلها الوجود الإلهي كجزء من المشهد أو كمرجعيةٍ محرِّكةٍ للطبيعي نفسه، بل تبقى الطبيعة عنده هي الإله المطلق والمحرك الوحيد الذي يلتبس بالحب ويفعل فيه. كذلك يرقب يكن علاقة الموضوع الشعري بنصه، مخففاً من حدة الإيهام بمراوحةٍ بين الذات الشاعرة المتورطة والشاعر الذي يرقبها فيما يدرك أنها جزءٌ من نصِّه: "ربما، في أيامٍ زاهية أكثر، وأكثر صفاءً،/ تصوغ مشاعري القديمةُ القصيدةَ/ التي سيكونُ حُبِّي الأولُ أجملَ أبياتها".

من جانبه يبدو شاعر كإدمون جابس أشد مجافاة للغة العاطفية، وحرصاً على التلاعب بالتكرارات الشعرية واحتفاءً بالعبارات القصيرة الخاطفة، مع ارتداد سريع للأنا بحيث تصبح هي بطل النص الذي موضوعه "الآخر"، دون الغرق في حضوره أو الرغبة في الاتحاد به: "الفتاةُ/ ذات القبعة المبرقشة/ من هي؟ أنا لا أعرفها/ تغرزُ، ضاحكةً، يديها/ في عيون النائمين./ عاشقةٌ للأغاني/ جدُّ شرسة بالفعل/ من هي؟ أنا لا أعرفها/ وهي أيضاً تجهلني/ لأن عينيَّ، المُغرمتين بنفسيهما/ تلتهمان نفسيهما عند هبوط الليل". يذهب جابس لسؤال الانفصام في الحب بديلاً عن الاتحاد، ليؤكد، بحسٍ وجودي، استحالة اللقاء، مع حسٍ ساخر وعدمي: "كانت واقفةً/ بإزاء الشجرة./ كانت عاريةً./ كانت فرج الشجرة./ انتظرت الرجل/ فمن عشقهما/ سيولدُ العالم./ كانت شاحبةً./ كانت المحبة./ وبثَّها الرجل/ اسم إخوته./ كانت ميتةً/ ولم يكُف الرجل عن الكلام". إنه الحس الساخر العدمي نفسه الذي يلتقطه ألبير قصيري، الذي اشتهر كروائي أكثر منه كشاعر، وهو يساوي حسياً بين الجوع للعاطفة والجوع للطعام منتصراً للَّذة الحسية الأشد ابتذالاً، ومحولاً الميتافيزيقي إلى جزء من الاستهلاكي في قطيعةٍ عنيفة مع النص الغنائي، بحيث يحلم القلب، الدال الرئيس للحب كمدلول، بالحساء: "ما أبعد المرء عن تحرقات المشاعر والأحلام والأوهام،/ فالمثل الأعلى آنئذٍ هو الخبز المؤرَّج،/ ولا يعود المرءُ راغباً في البصق على البورجوازيين العابسين/ ولا في التحرش بمؤخرات بناتهم الفاتنات/...../ ودون أن ينخدع بعد بالحسناوات المستحيلات/ يحلم القلب الذي صرعته رغبةٌ متضورة/ بالنكهة المحبوبة لحساءٍ ملائكي".

ربما ساهمت وحدة الموضوع الشعري في الوقوف مجدداً على التراوحات، الضرورية، بين أربعة من أبرز الشعراء المصريين الفرانكفونيين، مانحةً "أغنية الغريب" قيمته كإسهام جديد يتوقف، ولو للحظةٍ خاطفة بحجم الكتاب الصغير، أمام تيارٍ طليعي ما يزال ينتظر الكثير من الجهد كي لا يعيش للأبد طفلاً يتيماً للنص المصري.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.