}
قراءات

الطريق إلى الشاعر عبد الكريم الطبال (1/2)

يحيى بن الوليد

7 فبراير 2018

ليس غريباً أن تتعدّد الطرق إلى القصيدة المعاصرة بالمغرب، طالما أن هذه القصيدة هي ذاتها "مفترق طرق" بالنظر إلى تعدّد أصواتها ولغاتها ومرجعياتها وجغرافياتها... إلخ. وفي هذا المنظور اهتدينا إلى "الطريق إلى عبد الكريم الطبال" عنواناً ومدخلاً لقراءة إحدى التجارب المتميّزة في الشعر المغربي المعاصر. ومن الجلي أن يذكّرنا المحور، بخصوص عبد الكريم الطبال ذاته (1931ــ)، بعنوان ديوانه الأوّل "الطريق إلى الإنسان" الذي طبعته له مطبعة كريماديس بتطوان عام 1971، إلا أن ذلك لا يفيد ألبتة أي نوع من"النكوص القرائي" تجاه هذا الشاعر الجليل الذي دأب ــ منذ ستينيات القرن المنصرم ــ على العيش "في الشعر وبالشعر وللشعر" بعيداً عن الادعاء والتسويق و"وهم الريّادة" كما نعتها الطبال نفسه. ثم إن تجربته الشعرية ــ المتواصلة حتى الآن ــ من النوع الذي يسمح بـ"قراءة طردية" وأخرى "عكسية"، وفي المنظور ذاته الذي يبدّد حديث البدايات والنهايات في آن. هذا بالإضافة إلى النظر إلى هذا الشعر في ضوء السياق الثقافي الذي أفرزه، ودون أيّ تقليل من شأن الذات المبدعة. ولا يمكن أن نعثر على هذه الخاصية إلا عند شعراء أمثال عبد الكريم الطبال وسواه ممّن يمثلون "علامات" محورية أو مركزية في خريطة الشعر المغربي المعاصر. ولا يمكن أن نردّ ذلك فقط إلى أعماله الشعرية ــ الكثيرة ــ التي حرص على نشرها على مدار زمني يزيد على نصف قرن من الزمن ــ وعلى ما يكشف عنه هذا المدار من فواصل ــ وإنما إلى السمة المخصوصة التي وسم بها الشعر المغربي بسبب "صوته المتفرّد" بين أصوات هذا الشعر. ومعنى ذلك أنه لا يمكن الحديث عن الشعر المغربي دون استحضار "صومعة" عبد الكريم الطبال. وهي خاصية تنطبق أيضاً على شعراء من مجايليه أمثال أحمد المجاطي (1936 ــ 1995) والخمار الكنوني (1941 ــ 1991) ومحمد السرغيني (1930 ــ)... إلخ.

 

والطبال كذلك، وقد يكون هذا هو الأهم، شاعر بنصوصه، وليس بحواراته (القليلة للمناسبة) وكتاباته النقدية المفتوحة التي لا تحيد عن دائرة "الشهادة" التي لا تحيد بدورها عن دائرة محبّة الشعر من منظور الإخلاص للأدب بوجه عام. وليس هناك ما يدافع عن الشاعر أفضل من شعره، ولا سيما إذا كان هذا الشعر مأهولاً بمقروئه المضمّخ بلحمه ودمه. ومن هذه الناحية يمكن القول بأن عبد الكريم الطبال راهن على تفرّغه ــ بالكلية ــ للشعر، طالما أن هذا الأخير قدره المحتوم وطريقه إلى ذاته الساعية إلى تعميق باحة التجربة ومعنى الإنسان وشرط الإبداع وصيغة الوجود. ومدخله الأساس إلى ذلك حرصه، على أرض القصيدة ذاتها، على مراكز دلالية هي قرينة ملاحقة "المنفلت" عبر نصوص هي في الأغلب الأعم قصيرة وكثيفة؛ غير أنها تسعى، وعبر القليل من الكلام، إلى قول الكثير من الأشياء في دنيا الإلهام أو البشارة كما يفضل الطبال تسميتها.

 

وقبل استخلاص أسس أو مستندات بنيان عبد الكريم الطبال، الذي هو قرين دلالة متسرّبة في نصوصه، لا بأس من التوقّف عند ما يمكن نعته بـ"القيمة التاريخية" التي ينطوي عليها شعره وخصوصاً في مرحلة ما قبل "البستان" (1988). غير أن القيمة التاريخية، هنا، بغير معناها القدحي... بحكم الالتباس الذي عادة ما تثيره مفردة التاريخ أو درس التاريخ في علائقه مع دوائر الأدب المشرعة على المحتمل والمنفلت والزئبقي. التاريخ الذي هو سرد لما هو "متحقّق" في مقابل الأدب الذي هوــ منذ شعرية أرسطو ــ  قول لما هو محتمل. إن ما نقصد إليه، هنا، هو أن عبد الكريم الطبال كان ــ جنباً إلى جنبٍ مع آخرين ــ مساهما في "تحديث" القصيدة المغربية عن طريق الارتقاء (الشاق) بها من الشكل العمودي إلى "الشكل الجديد" (باصطلاح المرحلة النقدية والثقافية)، الشكل الذي هو قرين تشكيل خطاب مغاير وقرين اجتراح "إرادة قول جديدة".

 

وحتى إن كان الارتقاء سالف الذكر يسعى إلى الاستجابة إلى"أفق ثقافي" مغاير فإنه كان مشدودا إلى"سياق ثقافي" هيمنت داخله ــ وبأشكال سافرة ــ "التقليدانية" (Traditionalisme) بالاصطلاح الجامع للمفكر المغربي عبد الله العروي. ومعنى ذلك أن "التحديث" (تحديث القصيدة) كان في التاريخ أو أنه كان ينوس بين الثقافة والتاريخ؛ ومن هنا منشأ القيمة التاريخية سالفة الذكر في ناصيتها الكاشفة عن مزالق البدايات وصعوبات التداول.  وعلى طريق هذا المنشأ تتوجّب الإشارة إلى أسماء شعراء آخرين ساهموا بدورهم في تحديث القصيدة بالمغرب لم نذكرهم من قبل من أمثال أحمد الجوماري (1939 ــ 1995) ومحمد الميموني (1936 ــ 2017) وأحمد صبري (1939ــ)... وضمن ما كان ينعت ــ تبعاً لقاموس الآلة النقدية للسبعينيات الساخنة ــ بـ"الجيل الأوسط": أي ذلك الجيل الذي كان يتوسّط جيل علال الفاسي (1910 ــ 1974) ومحمد بن إبراهيم (1900 ــ 1954) وعبد القادر حسن (1915 ــ 1996)... وجيل السبعينيات نفسه الذي كان يطلق عليه ــ وقتذاك ــ "الشعراء الشباب". وقد كشف الجيل الأوسط ــ أو جيل الستينيات ــ عن أفق مغاير لا صلة له بأفق من سبقهم ممّن تأثروا بالحركة الوطنية والفكر السلفي والتحوّلات الاجتماعية التي رافق سنوات الاستعمار... وغير ذلك من الأشكال التي أثمرت ــ على صعيد الأدب ــ نوعا من "الأدب الإصلاحي"، ولا صلة له ــ في الوقت نفسه ــ بأفق الجيل اللاحق الذي كان مشدودا إلى ثنائيات تقاطبية في مقدّمها ثنائية "الشهادة والاستشهاد" التي كان الراحل عبد الله راجع (1948 ــ 19990) قد استند إليها في دراسة "منجز" هذا الجيل في أطروحته "القصيدة المغربية ــ بنية الشهادة والاستشهاد" (1987 ــ 1988).

 

وليس من شك في أن المسألة الأجيالية تطرح التباسات عديدة، بل إن هناك ــ وبخاصة من الشعراء ــ من يرفضها. ومهما كان من خلاف فمفهوم "الجيل" لا يخلو من رؤى وتصوّرات... حتى لا نحصره في مجرد إجراء نقدي تمييزي وتبسيطي يقوم على التشديد على يمكن نعته بسطوة الزمن التاريخي الكرونولوجي. أجل إن عبد الكريم الطبال "عابر للأجيال" كما قال عنه الناقد نجيب العوفي في مقال "راهب الشعر المغربي" بجريدة الاتحاد الاشتراكي" (ملحق "فكر وإبداع"، الجمعة 1 أبريل 2005)، غير أن ذلك لا يعفي من ربطه بجيله وإلا فإننا سنسوّي بينه وبين شاعر أو شاعرة لاحقة مثل الزهرة المنصوري على الرغم من أن هذه الأخيرة ــ مقارنة مع مجايليها ــ  تبدو أقرب من الطبال حتى وإن كان يظهر أنها لم تنشر منذ زمان.

 

وتجدر الإشارة إلى أن العبور إلى "الشكل الجديد" لم يتحققّ بسهولة داخل فضاء القصيدة المغربية. إن ما حصل في عراق أواخر الأربعينيات لن يجد ترجمة أو امتدادا له ــ في المغرب الثقافي ــ إلا في سنوات الستين. وقد لعبت مجلة "الآداب" البيروتية دورا كبيرا في هذا السياق، خصوصا وأن المجلة عرفت بمدّها القومي "المتفائل" بل إنها تأسّست في سياقه (1953). وللحق لم يكن عبد الكريم الطبال خارج مياه هذه الانعطافة منذ عمله الأوّل "الطريق إلى الإنسان" الذي كشف عن تطلّع نحو الحرية وعن رغبة في الانعتاق من القهر والعنف والاستلاب والخيبات. هذا وإن كان قد وجد صعوبة في التحرّر ــ ولن يتحرّر مطلقا ــ من الرومانسية التي سحرته من قبل وأسرته بالتالي في أبراجها العاجية. وقد سادت هذه الأخيرة، في المغرب، وبنوع من "التلوّن" الناجم عن السياق الثقافي، منذ سنوات الأربعين وعلى وجه التحديد بعد الحرب العالمية الثانية (وهي فترة متأخّرة نسبياً مقارنة مع ما حصل في المشرق) ومع شعراء مثل عبد المجيد بن جلون (1918 ــ 1981) وإدريس الجاي (1924 ــ 1978) وعبد الكريم بن ثابت (1915 ــ 1961)... إلخ. موازاة مع كتابات نقدية في الموضوع نفسه لكلّ من عبد السلام العلوي وإدريس الجاي (1923 ــ 1978). وكان من الجلي أن يدرك لهيب الرومانسية جيل الستينيات على نحو ما نجد عند مصطفى المعداوي (1937 ــ 1961) وأحمد المجاطي ومحمد السرغيني أو محمد نسيم السرغيني كما كان يلقب في عز الامتداد الرومانسي... ولم لم يتحرّر منها إلا القلة القليلة من أسماء هذا الجيل وفي مقدّمها محمد الهواري (1940 ــ 2003) صاحب ديوان الغضب والثورة "صامدون" (1963).

 

وقد كان للرومانسية تغلغل أقوى في شعر عبد الكريم الطبال خصوصاً في بدايات التشكّل الأولى. وقد حصل له ذلك في عزّ استهلال تكوينه الديني في جامعة القرويين بفاس خلال السنوات الأولى من عقد الخمسينيات. والمؤكد أن مدينة تطوان التي عاد إليها ــ لمتابعة التحصيل المعرفي بمعهد مولاي المهدي الشهير وقتذاك ــ سيكون لها تأثيرها الأقوى. فهذه المدينة كانت،على مدار الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، مركزا سياسيا وثقافيا في المنطقة الخليفية في فترة الاستعمار (1912 ــ 1956). وعلى المستوى الأدبي/ الثقافي كانت أشبه بـ"بيروت مصغّرة" (كما تمّ توصيفها) نتيجة تعدّد مكتباتها العمومية ونتيجة الحركية الثقافية الرومانسية التي سادتها بفعل التأثير البالغ الذي لعبته مجلات (محلية) على مستوى تجذير "المذهب الرومانسي" الذي كان في تلك الفترة لا يزال يحافظ على وهجه "الإنسانوي" المتميّز. "كانت تطوان بالنسبة لي عاصمة الثقافة وعكاظ الشعر" كما قال الطبال في حوار معه.

 

و نجد بين هذه المجلات ــ التي سعت إلى الانخراط في "صرخة الحداثة" ــ مجلة "السلام" التي تأسست عام 1933 والتي صاغت ــ منذ عددها الأول ــ افتتاحية أشبه بـ"بيان" في الحداثة كما قال الشاعر والباحث محمد بنيس. وكما نجد "الأنيس" (1946) و"الأنوار" (1946 و1955) و"المغرب الجديد" (1963)... دون أن نتغافل عن دور مجلة لافتة حتى وإن كانت قد تأسّست في العرائش (1947) فسرعان ما امتد تأثيرها إلى تطوان وساهمت ــ من ثمّ ــ في خلق نوع من الحوار بين الشعر الإسباني والمغربي. ونقصد، هنا، مجلة "المعتمد" (1947 ــ 1954) التي كانت تديرها الشاعرة طرينداد سانتيش ميركادير، وكان يترأس تحريرها خاثينطو لوبيث كورخي، وأما محمد الصباغ فكان يترأس قسمها العربي؛ هذا بالإضافة إلى مجلة "كتامة" (1953) التي سعت إلى مواصلة مسار مجلة "المعتمد". وكما أسّس عبد الكريم الطبال نفسه، صحبة مجموعة من الأصوات الأخرى، مجلة "شراع" التي استمر نشاطها لعامين (1963 ــ 1965). وقد أولت جميع هذه المجلات أولوية للشعر وفي إطار من الثقافة ودورها على مستوى أحلام التحديث والتغيير في سياق محور "الثقافة والمجتمع".

 

ففي هذا السياق الأدبي/الثقافي سيتفتّح وعي عبد الكريم الطبال من جديد. ولذلك سنقرأ أول قصيدة له "أحلام" بمجلة "الأنيس" (العدد 61، فبراير 1952)، وليس غريبا أن ينشر الطبال في هذه المجلة التي عرفت بمناصرة "الشعراء الشباب". وكما أن التأثير الإسباني لم ينحصر في الإطار الثقافي فحسب، وإنما امتد إلى مجال السلوك اليومي أيضا. وقصيدة "شفتاك" ــ المنشورة في المجلة نفسها (غشت 1954) وبعد ذلك (؟) في ديوان "الأشياء المنكسرة" (1974) ــ والمهداة إلى فتاة إسبانية ــ جديرة بأن تعكس هذا التمازج الثقافي والاجتماعي. وكتاب محمد الميموني "في الشعر المغربي" (1999)، وفي الجانب المكرّس للطبال، وبخاصة في نبشه في نصوص هذا الأخير المنسية، يفيد في إضاءة بدايات الطبال الرومانسية المشدودة ــ وقتذاك ــ إلى "حداثة الشعر في تطوان" أخذا بعنوان إحدى مقالات محمد بنيس المتضمنة في كتابه "كتابة المحو" (1994).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.