}
عروض

جديد فريد الزاهي: حفريات في ثنائية الصورة والجسد

أشرف الحساني

19 فبراير 2018

تحفل الثقافة العربية المعاصرة، اليوم، بجملة من النقاد والباحثين المتتبعين للشأن الفني العربي ممارسة وكتابة، بمختلف ألوانه ومشاربه الفلسفية والتاريخية والأنثروبولوجية، بما في ذلك التي تناولت موضوع الفن العربي بالكثير من السطحية المهولة، إلا إذا استثنينا بعض الكتابات المهمة في مختلف الأقطار العربية، مثل المغاربيين موليم العروسي وشاكر لعيبي وفريد الزاهي وخزعل الماجدي وعفيف البهنسي ومحمد بن حمودة، وغيرهم من الباحثين والمفكرين الغربيين كطوني ماريني وبابلو دوبولو وناتالي إينيك، فهؤلاء اتسمت أعمالهم بخاصية التفكيك والاختراق، وبعضها الآخر بسمة التحليل والتنظير للفن العربي كالعمارة والتشكيل والنحت والفوتوغرافيا وغيرها من الفنون البصرية، التي حظيت بالنزر القليل من الدراسات العلمية الجادة مقارنة مع الفنون الأخرى، كالرواية أو الشعر أو القصة بالمفهوم الأرسطي للفن. ومردّ ذلك إلى مسألة الدعم والجوائز الوهمية، التي أصبحت تقدمها بعض المؤسسات الثقافية العربية لكل ما يدخل في عداد غير المرئي، إيماناً منها بالفهم الساذج أن الثقافة العربية هي ثقافة كلمة وليست ثقافة صورة، هذا فضلا عن مسألة تحريم الصورة وما رافقها من تصدع وويلات إبان العصر الوسيط من لدن الفقهاء وبعض علماء الدين، في النهي عن الصورة والتصوير عموما. بل إن بعضًا من الفقهاء المتشددين ذهب اجتهاده بعيدا إلى حد تحريمه للعب الأطفال التي تتخذ شكل صور، فقال "ومن عوائدهم الشنيعة شراؤهم لأولادهم يوم عاشوراء ونصف رمضان صورا محرمة من الصور القائمة بنفسها ولها ظل وليس بها نقص، وهذه الصور النظر إليها حرام، ولا تدخل الملائكة بيتا تكون فيه... وكذلك شراؤهم لما يصنع من الحلاوات على صور الحيوانات التي شاعت اليوم، ويدخلون ذلك دورهم ويجتمعون عليه، وذلك حرام بلا كلام"(1).

 إن مثل هذه النظرة العدائية للصورة، التي ظلت تلجم تقدّمها وتطوّرها عبر تاريخ الفن العربي الجريح، هي التي جعلت ثقافة المرئي تبقى مهمشة ومكبوتة وفي حكم اللامفكر فيه داخل الثقافة العربية مقارنة مع الثقافة الغربية، التي تنزلت فيها الصورة منزلة رفيعة ومرموقة منذ عصر النهضة في إيطاليا إلى اليوم، لما لها من سحر وفتنة جمالية وسلطة رمزية تم اتخاذها من الجانب الاتصالي أو التواصلي في فترة ما من تاريخ أوروبا كوسيلة لتمرير رسائل أيديولوجية.

ثنائية الصورة والجسد

وعلاقتها بالمتخيّل

في كتابه الأخير "من الصورة إلى البصري: وقائع وتحولات" الصادر عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء في طبعته الأولى سنة 2018 والذي تبلغ عدد صفحاته 383 صفحة، يواصل الباحث الأنثروبولوجي المغربي فريد الزاهي حفره الدؤوب، منذ عشرين سنة، عبر البحث في ثنائية الصورة والجسد في علاقتها بالمتخيل، لكن هذه المرة ليس من الجانب التنظيري الفلسفي، بل يعتمر قبّعة المؤرخ العارف بأسرار ودواليب وميكانزمات الفن العربي، عبر مساءلته وتفكيكه واختراقه لجملة من التجارب الفنية العربية الرائدة، وذلك عن طريق المنهج التفكيكي الذي ميز بعض أنماط المقاربة التاريخية، والذي كان قد تبناه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في مشروعه الفكري، وهو المنهج عينه الذي يرخي بظلاله على كتاب فريد الزاهي الأخير هذا.

 هذه الضرورة المعرفية والتاريخية الصرفة هي التي جعلت من باحث أنثروبولوجي كبير بحجم فريد الزاهي يتخلى عن تأملاته الفكرية التي بدأها في كتابه "الصورة والجسد والمقدس في الإسلام"، ثم في كتابه الآخر "النص والجسد والتأويل" الذي اعتبره كتابا تأمليا يتمم السابق، وينصاع بشكل كلي للمقاربة التاريخية، التي تهدف إلى توثيق وأرشفة التجارب الفنية العربية، قبل تفكيك أسسها المعرفية والحضارية التي تنهل منها ومقوماتها الجمالية المتبدّية والخفية وتشكلاتها الاستيهامية التي تنضح بها. هذه الضرورة البحثية نابعة بالأساس من شح وندرة الكتابات الجمالية والدراسات التنظيرية والتاريخية للفن العربي، فعلى الرغم من تجاوز تاريخ الفن العربي القرنَ من الزمن "لا نجد في المكتبات إلا القليل من المراجع الدسمة التي تؤرخ لهذا الفن واتجاهاته وتجاربه الفذة. وما يوجد من مراجع تختلط فيها الأسماء بالأمكنة وتطغى فيها المعرفة ببلد على آخر وتضج بالمغالطات التاريخية... بيد أن مؤرخي الفن في العالم العربي، على قلّتهم، وأعني بهم أيضا أولئك الذين تكوّنوا في المدارس الغربية ويحملون شهاداتها، ظلوا أبعد ما يكونون عن الاهتمام بتاريخ فنهم، فتراهم لا يزالون مرتبطين بتكوينهم، مشدودين إلى دقائق الحركات الفنية والتيارات الجمالية في أوروبا ولا يفقهون شيئا، أو في أحسن الأحوال، لا يدركون إلا ما صادفوه في شرنقة الفن العربي"(2).

يستهل فريد الزاهي القسم الأول من كتابه- "الصورة والحداثة البصرية"- بجملة من المواضيع النظرية التي ترتكز على موضوعة مخصوصة هي الصورة، إذ عمد إلى الحفر  في علاقة المغاربة بالصورة، خاصة الصورة الفوتوغرافية، وذلك من خلال بعض النصوص الإثنوغرافية المؤسسة لكل من إدمون دوتي وشارل دوفوكو. وقد اعتبر الباحث أن للصورة الفوتوغرافية طابعا توثيقيا يُعنى بشكل كبير بالتشخيص، كما هو الشأن عند بوجندار الذي عمل على التأريخ بالصورة، وهذه الأخيرة بمثابة شهادة أو وثيقة document يمكن التأريخ بها، مثل صور بوجندار  لحاشية السلطان وموظفيه الكبار، وأيضا صورة زيارة الرئيس الفرنسي، لتتنزل الصورة منزلة رفيعة في ثمانينيات القرن الماضي، مع ثلة من الفنانين الفوتوغرافيين الذين أقاموا معارضهم الفوتوغرافية الأولى كداود أولاد السيد والتهامي الناضر وأحمد بنسماعيل وعبد الرزاق بن شعبان، ليتوج ذلك بتأسيس الجمعية المغربية للفن الفوتوغرافي إبان التسعينيات.

ولم يبق الباحث حبيس نشأة الفوتوغرافيا في المغرب، بل عمل على تشريح حضور الصورة داخل الخطاب الإثنوغرافي عند الرحالة إدمون دوتي، باعتبار الصورة هنا مقطعا حكائيا مكونا للخطاب الإثنوغرافي، مشيرا بذلك إلى الصعوبات والويلات التي اعترضت دوتي وهو يختلس بعضا من الصور للمغاربة، من بينها الصورة التي أخذها دوتي ليهودية في الملاح، إحدى القرى بالأطلس الكبير. يقول دوتي في ذلك "ما إن دخل الملاح حتى أحاطت به نساؤه يرغبن في رؤية النصراني... وبسرعة كبرى أخذت لإحداهن ذات قوام أخّاذ. فلا يجب أن يفكر المرء في أن يطلب منهن اتخاذ وضعية ثابتة لأخذ الصورة، وما إن رأت الأخريات العدسة تلمع حتى هربن وعرجن على كل البيوت. كن يصرخن بأنني أمارس السحر". ويعلق الزاهي ببلاغة على هذه العلاقة المباشرة التي تنسج بين الصورة والحواس بقوله "هذا التواطؤ بين العين الجسدية والعين الفوتوغرافية هو الذي يكشف عن التباس الصورة وقدرتها على مداراة الفكر، بل مداورته. إنها تنتج فكرا آخر يمكن تسميته بفكر اللحظي والمباشر والحاضر حضورا مباشرا للوعي"(3).

ثم انتقل بعدها الباحث للحديث عن الهوية الثقافية أو الذاكرة البصرية في الفنون التشكيلية المغاربية، ويعني بها هنا "ذلك الرصيد الهائل التاريخي والمتحول، ذا الطابع المشترك، الذي يختزنه بصريا الفنان والذي يجد موطنه الفعلي في البنية الثقافية، سواء في جوانبها العالمة أو الشعبية"، كالرموز والأشكال التجريدية التي تمتح أبعادها الثقافية والفنية والجمالية من ذخائر التراث العربي الإسلامي أو الغربي أو المحلي بشكل خاص، وذلك في مقابل مجموعة من الفنانين التشكيليين الذين لم تستهوهم الذاكرة البصرية المحملة بتاريخهم الفني والجمالي، عاملين على الانكفاء على مادتهم الفنية، مجترحين لتجاربهم الفنية أبعادا جمالية تخترق البعد المحلي والعربي لتعانق فضاء أرحب يُدعى الكونية universelle.

رياح جديدة

تعتبر الحروفية إحدى أهم هذه المسالك الفنية الجديدة التي عمل الفنان العربي، منذ ستينيات القرن المنصرم، مع جماعة البعد الواحد في العراق على اجتراح وبلورة أفق ومعالم تجربة تشكيلية لها خصوصياتها التي تمتح جماليتها من كل ما هو عربي "خالص"، منتقلا بذلك إلى الحديث عن مفهوم "الفن المتعدد" الذي يستوحي ملامحه من المفكر عبد الكبير الخطيبي.

ويرى الزاهي أنه بالرغم من المشاكل والصعوبات التي تعتور وتعترض سير وتقدم متابعة جديد الحركة التشكيلية العربية اليوم أمام هذا التشويش الذي يمارسه الإنترنت، فإن هناك "رياحا جديدة صارت تهب على هذه الحركة منذ مطلع الألفية الجديدة. وهي نفحات تجديدية لا تمس فقط الممارسة الفنية في حد ذاتها، وإنما تطاول بشكل أو بآخر مجمل المكونات التي تدور في فلك الممارسة الفنية، والتي تشكل بصورة أو بأخرى قنوات وسائطية لها". غير أن هذه المتابعة من طرف المجمعين والصحافيين والنقاد لا تكاد تخلو من بعض المطبات والمزالق في الحكم على بعض الأعمال الفنية، من ثم فإن قيمة العمل الفني كما نعاينها في بعض الدول الغربية كفرنسا وأميركا وإسبانيا تحدد من طرف الناقد الفني باعتباره شخصا ذا معرفة جمالية وفنية اكتسبها عبر بحثه وحفرياته المتواصلة في تاريخ فنون العالم، ثم بوصفه شخصا متملكا لحيثيات وميكانزمات العمل الفني بكل مقوماته وما يدور في فلكه من مواد وتقنيات. أما في وطننا العربي، فإن قيمة العمل الفني تحدد من طرف المجمعين وأصحاب دور العرض، فترى الفنانين العرب يلهثون وراء أسماء دور العرض الراقية (ليس الرقي هنا بمعناه الفكري)، متهافتين على شهرة مصطنعة، وما سيجنونه من صور تافهة لأعمالهم المنتشرة كالجراد على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.

بعد ذلك عرّج الباحث على الحديث عن ما سماه "الحساسية الجديدة" في الفنون التشكيلية، وإن كان من الصعب أحيانا الحديث عن حساسية جديدة، خصوصا في التشكيل المغربي، نظرا لعدم وجود ملامح تشكيلية مغربية تشي ببعض من المغايرة والاختلاف وتنأى بنفسها عن التكرار والاجترار الذي طبع بعض الأعمال الشابة، مقارنة مع بعض التجارب الفنية الرائدة التي أرست دعائم الحداثة الفنية، والتي عمد الباحث ببراعته المعهودة إلى مقاربتها في الأقسام الثلاثة الأخيرة، كأحمد الشرقاوي، محمد المليحي، فؤاد بلامين، التيباري كنتور، رائد سعادة، هيمت محمد علي، وغيرهم من الفنانين التشكيليين الذين تفرّدوا في المشهد الفني العربي المعاصر، إضافة إلى جملة من الموضوعات المرتبطة بالصورة كمفهوم الفن التعبيري، ومأزق المعرفة في النقد التشكيلي، وصولا إلى المظاهر الجمالية للزخرفة في المغرب بين الوحدة والتعدد.

أما القسم الثاني- "الفن العربي الحديث: أسئلة الصورة والتصور"، والقسم الثالث- "برازخ الحداثة والمعاصرة في الفن العربي"، ثم القسم الرابع- "رحلة المعنى المفتوح في الفن العربي المعاصر"، فهي عبارة عن قراءات في تجارب فنية عربية ممن يرى فيها الباحث أنها تجارب متفردة ورائدة في المشهد الفني والجمالي العربي والحقيقة كذلك، وإن كنت حقا لا أتفق معه حول بعض التجارب المغربية التي تريد أن تنسب نفسها إلى الفن المعاصر، خاصة تلك التجارب التي يمكن اعتبارها مجرد أعمال يدوية بعيدة كل البعد عن الفن المعاصر .

محاولة استنطاق

المكبوت والمنسي

تتميز لعبة الكتابة عند فريد الزاهي في هذا الكتاب بما سبق لي أن سميته بخاصية الاختراق والحفر بعيدا في تخوم التجربة الفنية، محاولا استنطاق المكبوت والمنسي واللامفكر فيه داخل العمل الفني، عبر عنصر أو عتبة أولى في القراءة هي التأويل. هذا العنصر الأخير يشكل الحجر الأساس الذي ينبني عليه المشروع الفكري والجمالي عند الزاهي، إلى جانب مفهومي الصورة والجسد والمتخيل.

كثيرة ومتنوعة هي الكتب التي تستحق منا أن نطالعها لهذا المؤلف الذي ازداد ارتباطا وحميمية بما يكتبه يوما بعد يوم، ليس كناقد فني متعب أو باحث أكاديمي غير عميق، بل كمفكر خابر الكتابة الفنية والأنثروبولوجية لسنوات طويلة عند عبد الكبير الخطيبي، فاستطاع أن يجترح لنفسه مشروعا فكريا منذ 20 سنة خلت داخل الجسد المتشظي للثقافة العربية الحديثة منها والمعاصرة. لذلك لا يتملكني الشك والعجب حين يقول لي ببسمته المعهودة: "نحن أبناء لعبد الكبير الخطيبي، فأنا ابنه وأنت حفيده".

هوامش 

1- محمد بن عبد الله المؤقت المراكشي، الرحلة المراكشية، مطبعة دار الرشاد الحديثة، الجزء الثاني، ص 87.

2- فريد الزاهي، فتنة الحواس: كتابات عن الفن العربي المعاصر، دار توبقال، الطبعة الأولى2017، ص 13.

3- راجع كتاب فريد الزاهي، من الصورة إلى البصري: وقائع وتحولات، دار توبقال، الطبعة الأولى 2018، ص 33.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.