}
عروض

عين القصيدة: مناهل السهوي ترصد مشاهد التراجيديا السوريّة

عماد الدين موسى

30 ديسمبر 2018

تكادُ مُفردات "الخراب" اليوميّ لا تفارق مؤلّفات الكُتّاب السوريين، شِعرًا وقصةً وروايةً، حيثُ تغدو جليًّا لعبة المفارقات الحياتيّة، وانتصار الشرّ على الخيرِ في زمن الكارثة، بالإضافة إلى ثنائيّات أخرى عديدة، فنجد الموت مقابل الحياة، الكره مقابل الحبّ، الحزن مقابل السعادة، الألم مقابل الأمل، والضعف مقابل القوّة. ثمّة واقع جديد ترافقه تجارب إبداعيّة جديدة، تُحاول أن تأتلف معه، على الرغم من النفور الشديد. لعلّها غربة السوريّ، الذي طالما وجدَ نفسهُ في دوّامة عنفٍ طال أمده.

في مجموعتها الشِعريّة الأولى "ثلاثون دقيقة في حافلة مفخخة"، الصادرة حديثًا عن منشورات المتوسط/ سلسلة براءات (ميلانو 2018)، ترصد الشاعرة السورية مناهل السهوي ما يجري من حولها من مشاهد تراجيديّة، وذلك من خلال عدسة القصيدة، حيثُ الإلمام بأدقّ التفاصيل وبمنتهى البساطة والشفافيّة.

ثمّة لغة بالغة القسوة وهشّة، عدا عن أنّها حميمة ومؤلمة في الآنِ معًا، تسيطر على أجواء جُلّ القصائد: "أفكّر بفتاةٍ انتحرتْ قريبًا من سكني/ منتصف الليل/ رآها شابٌّ كان يدخّن عند نافذة غرفته/ صرخَ بها كثيرًا بألّا تفعل،/ وكادَ أن يقع هو الآخر/ أفكّرُ بالذين لا يصرخُ أحدٌ لإيقافهم/ قبل سقوطهمْ". تصاعد النبرة التعبيرية، في المقطع السابق، في بناء جُمَلٍ موجزة ومكثّفة، جعل من العبارات أكثر ربطًا وتجانسًا داخل بُنية القصيدة الواحدة. 

الموت بوصفهِ كائنًا أليفًا

تنتمي قصيدة مناهل السهوي، من الناحية الأسلوبيّة، إلى الحساسيّة الشِعريّة الجديدة، سواء من جهة خصوصيّة وفرادة أسلوبها في التعبير عن معطيات الواقع المرير أو من حيثُ الإمكانيّة الخاصّة في تطويع العباراتِ، وذلك بتحويل الواقع ذاك إلى نصّ شِعري ثري. ثمة مُفردات عديدةٌ، نجدها هنا أو هناك، تلبسها الشاعرة رداءً جديدًا، لتبدو شديدة السلاسة وغاية في الإدهاش: "أيّها الموتُ الوديع/ في سريرٍ دافئ/ بين يدي رجلٍ عطوف/ أيّها الموتُ الصباحي الطويل/ امنحني اشتهاءك/ لأمنحكَ أقدامًا حيّة/ قل لي أحبُّكَ/ لنبدأ بقبلة مثلًا/ ربما يكون هذا الرحيل أقلَّ قسوة".

تنحاز القصيدة السابقة، كما جُل قصائد المجموعة، إلى الوقوف وجهًا لوجه أمام "الموت" بوصفهِ كائنًا أليفًا، أو هكذا يبدو. ثمّة خطاب نقي وحذر، يُقدّم ببساطة وعفويّة، بعيدًا عن التعقيد والتناقض، إضافةً للعامل البصري أو ما يسمّى بالجانب التأمّلي لوصف المشاهد المُلتقطة. 

مشاهد حيّة من روزنامة الحرب

مجموعة "ثلاثون دقيقة في حافلة مفخخة"، والتي جاءت في مئة وثماني صفحات من القطع المتوسط، هي الإصدار الثاني للشاعرة مناهل السهوي بعد عملها المسرحي "بطارية لمصباح اليد" (2017)، وفيها "يتصاعدُ المنحى الدرامي لسيرة حربٍ كتبت لتسخر من الموت، بعيدًا عن المرثيات الجاهزة، ولها بعد ذلك أن تُضاعف جرعات الحياة في جسدٍ ممزَّق، ومدن محترقة، وحبٍّ يرمِّمُ ما تصدَّع منه جرَّاء القذائف والخسارات والاغتراب تحت سماء تحتلُّها سحب سوداء".

قصائدٌ - مشاهدٌ حيّة من روزنامة الحرب، تتوغّل في الحدث الأكثر بشاعةً ووجعًا وغرابةً، كما أنها بعبارةٍ أخرى، أكثر دقّةً، تُعرّي وبمهارةٍ شهوة القتل، حيثُ تضعنا وجهًا لوجه أمام الوحش الكائن في داخلنا، لتؤكّد وبوضوحٍ تامّ أنّ الامتحان لا بدّ منه وإن تأخّر قليلًا أو كثيرًا، إنّهُ الحنينُ أو الرغبة الدفينة في العودة إلى إنسانيّتنا المفقودة واستعادتها على أكمل وجه، شئنا أم أبينا: "هناك حربٌ تدورُ في مكانٍ ما/ أُمّي قالتْ إنها في المطبخ/ أبي تمدَّد على الكنبة/ أخي ذهبَ ليُطِلَّ من الشّبّاك/ وأنا أمسكتُ المُسدَّس/ وأطلقتُ النَّار على رأسي".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.