}
عروض

"ربيع قرطبة".. أو السلطة كمضاد للإنساني

حسن طارق

1 فبراير 2018
سلطان على فراش الموت، يقدم لكاتب اصطفاه لذلك - بكل سرية - خلاصات حياة طويلة من الحكم والدسائس، السؤدد والانكسارات، المجد والخيانات.

يفعل ذلك بعيدا عن منطق الحكاية الرسمية التي سجل كتبة الدولة تاريخها "المجيد" الذي لا يأبه للظلال والعتمات ولا ينتبه لخبايا النفوس وتفاصيل المغامرات الإنسانية للسلطة.

تلك هي رواية "ربيع قرطبة"، حيث يعود الكاتب المغربي حسن أوريد إلى الأندلس، ليس لاقتفاء شروخ الهوية المرتحلة بين الضفتين، كما فعل قبلا في "الموريسكي"، ولكن لكي يدخل المطبخ السري للسلطة، ولكي يبحر في عوالمها ودهاليزها وسحرها.

كيف تحول السلطة الحاكم إلى كتلة بشرية منزوعة الأحاسيس؟

يطالعنا هذا السؤال طويلا، ونحن في ضيافة بني أمية، على عهد الخليفة الحكم بن عبد الرحمن بن هشام، الملقب بالمستنصر بالله. (302 - 366 هـ / 915 - 976 م).

لعبة السرد، تقوم هنا على حكي الحكم خليفة المسلمين لمجريات حياته داخل القصر، أميرا ثم سلطانا، لكن هذا الحكي يتحول في الواقع إلى انسلاخ متأخر من الدثار الثقيل للسلطان (ص10)، ومحاولة لاسترجاع قليل من إنسانيته المفقودة. الحكي والبوح يصبح محاكمة للسلطة التي لا تقوم إلا على اقتلاع  الحاكم من طبيعته الفطرية.

يقف عبد الله أخ الأمير الحكم، أمام والده الخليفة عبد الرحمن، وقد انكشف ارتباطه بدعوة للتشيع، مستعطفا رحمته، فيجيبه أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر، قائلا: "سبق السيف العذل. محدثك ليس أباك، وأنت لم تثر ضد أبيك، ولكن على الخليفة. ومن واجب الخليفة أن يحمي أمور الخلافة، ويقمع من يريد بها سوءا". (ص88)

ماذا يفعل بعدها عبدالرحمن الناصر؟ يترجل عن مجلسه ويمسك بابنه عبد الله ويذبحه بيده من الوريد إلى الوريد، يصنع ذلك دون أن يرف له جفن، حتى إذا أنهى فعلته صاح "تلك أضحيتي للعيد، فليقم كل واحد لأضحيته.."، وكان ذلك يعني أن يقبل كل واحد من رجالات دولة بني أمية على نحر ذبيحته من المتمردين. كل ذلك كان تحت الأعين الشاخصة لولي العهد الحكم بن عبد الرحمن، في تمرين جديد على تأهيله لأمور الدولة الجلل، تمرين اقتضى أن يذبح أبوه أخاه أمام عينيه دفاعا عن الدولة!

بعد نهاية حفل الدم لبس الجميع ما يليق بيوم العيد، وتوجهوا للجامع الكبير للصلاة ومباركة الأضحى السعيد للخليفة عبد الرحمن الناصر ثامن الحكام الأمويين وأول خليفة على قرطبة.

"الحكم بن عبد الرحمن" وقد أصبح خليفة المسلمين المستنصر بالله، سيستوعب الدرس كاملا، لذلك سيسر لخادمه "جوذر"، في بعض استرجاعاته، قائلاً: "هي الدولة، أنا من لا يقوى على قتل ذبابة، أمرت بحز رؤوس، وألقيت بأقوام في أتون الهلاك. تيتم أطفال، وترملت نساء، وثكلت أمهات، بسبب قرار قررته، وسياسة انتهجتها. ولكني لست من كان يأمر، بل الخليفة". (ص 11) قبل أن يصبح الحكم خليفة، كان عليه المرور باختبارات قاسية، في السياسة والحياة.

ومع كل تمرين في تسلق مدارج السلطة، يشعرنا الراوي بأن "خليفة المسلمين" يتخلى - مكرها - شيئا فشيئا عن إنسانيته، ويتجرد من طبيعته، وتتصدع دواخله، كما لو أن أعضاءه تتعرض للبتر واحدا تلو الآخر.

كان عليه أن يعي أن السلطة تقتضي بالضرورة مسارا من التخلي التصاعدي عن إنسانية الحاكم.  ذلك أن "السلطان يحول بين المرء ونفسه، فما بالك بغيره". (ص 109)

في البداية كان عليه أن يعيش بلا طفولة، بعد أن طلب منه الخليفة وهو ابن ست سنوات، أن يترأس مراسم إقامة الحد على المتمردين الذين قتلوا أخته زينب أمام عينيه. ليكتشف فيما بعد بأنه عندما بكى أخته بحرقة، كان يبكي في الحقيقة طفولته التي بترها السياف مع رؤوس المتمردين التي حُزّت أمامه، في الساحة الكبرى لقرطبة. 

ثم كان عليه، بعد ذلك، في بدايات الشباب أن يدفن مشاعر الحب، بعد أن يدعوه الخليفة إلى ترأس حفلة خطوبة أخيه عبد المالك من حبيبته هند، ليعرف فيما بعد بأن عبدالرحمن الناصر يريده لأمر جسيم لا يستقيم فيه حب ولا هوى!

عندما يستعرض الحكم بن عبد الرحمن حكايته مع السلطة، يعترف للفتى البربري "زيري" الذي آمنه على عصارة تجربته وروح شهادته، أن ما صاغ شخصيته هو ما عاشه من فجائع بمناسبة التمرد الذي ذهبت ضحيته أخته، فضلا عن صدود هند عنه، فالحدثان قتلا داخله على التوالي كلا من الطفولة والحلم، فيما تكفلت علاقته بأقرانه وخاصة القوطي "باشكوال" بمحو أي أثر للوفاء أو الصداقة. 

لذلك يستخلص على لسان السارد، أن الله يختص السلاطين لجليل الأمر، لكنه لا يفعل إلا بعد أن ينزع منهم ما هو جميل في الحياة (ص48).

"ربيع قرطبة" رواية ممتعة تستدعي التاريخ وتعيد بناء بياضاته بالخيال، لكنها تنجح في طرح أسئلة مزمنة حول السلطة، أسئلة تظل عابرة للأزمان والحقب. 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.