}
عروض

خمسون عاماً على أحداث أيار68:"نصف ثورة" أم ثورة ونصف؟

الصحبي العلاني

19 يناير 2018
بعد خمسة أشهر تقريبا، أو أقلّ من ذلك بقليل، يحلّ شهر مايو/أيار وتحلّ معه الذكرى الخمسون لاندلاع الأحداث الشهيرة التي عصفت بفرنسا ربيع سنة 1968. لم تنتظر دار "سوي" الباريسيّة للنشر موعد الحدث بل استبقت ذكرى الاحتفاء به فأصدرت في الأيام القليلة الماضية (4 يناير/كانون الثاني 2018) كتابا للباحثة لودفين بانتيني يمكن أن نُترجم عنوانه ترجمة حَرْفيّة على النحو التالي: "1968: ليالٍ عظيمةٌ في مطلع الفجر". وبحسب هذه الترجمة يبدو العنوان بسيطا، واضحا، ولكنّه في جزء منه على الأقلّ، وتحديدا في عبارة "اللّيالي العظيمة"، ينطوي على دلالات لا مناص من أن نعود إليها لاحقا لأنّها تختزل "إرثا ثوريّا" يرجعنا إلى أواخر القرن التاسع عشر. وهو إرث قوامه السعي الدائم إلى فتح أبواب الحريّة وتكريس العدالة والبحث عن نظام مختلف.

 

أحداث صاخبة، وجدل لا ينتهي!

في حياة الشعوب وفي تواريخ الأمم، هذه التي ترقى لدى بعضها إلى آلاف السنين وقد تعود بنا فيها الشواهد إلى ما قبل التاريخ، لا يمثّل نصف قرن من الزمان إلاّ لحظة وجيزة بل طرفة عين. ولهذا السّبب، فإنّ الدارسين لم ينفكّوا عن النظر إلى أحداث مايو/أيار 1968 وعن تحليلها وعن بيان دوافعها ومجرياتها ونتائجها وأبعادها لا باعتبارها مرحلة من مراحل الماضي، بل على أساس كونها جزءاً من تاريخ فرنسا المعاصر، وومضة من ومضات ماضيها القريب. وبشيء من التجوّز الذي تبيحه مقتضيات الدراسة الأكاديميّة، فإنّ البعض منهم ما زال يعالج نفس هذه الأحداث مقتنعا تمام الاقتناع بأنّها سبب من الأسباب التي يمكن أن تُفسّر لنا حالة فرنسا الراهنة، وكثيرا ممّا يجري اليوم أمام أعين الفرنسيّين، وعديدا من الوقائع التي تنقلها إليهم قنواتهم التلفزيونيّة على المباشر في مشاهد تُذكّرهم بهذا الذي جرى منذ خمسين عاما.

لسنا من القائلين بأنّ "التاريخ يعيد نفسه"، ولا ممّن يزعم بأنّه يسير على غير هدى؛ بل إنّنا أميل إلى الاعتقاد بأنّه أشبه ما يكون بالسلسلة ذات الحلقات التي تختلف إحداها عن الأخرى اختلافا قد يقلّ أو يعظم. ولكنّ ذلك الاختلاف -أيّا يكن مقداره ومهما تبلغ درجته ومداه- لا يعني أنّ كلّ حلقة مستقلّة بذاتها منفصلة عمّا سواها، فهي لو استقلّت لفقدت دلالتها في ذاتها نتيجة انقطاع صلتها بغيرها من الحلقات. فالحاضر يحيل دأبا على الماضي ويستدعيه (حتى وإن كان استدعاؤه له من أجل رفضه وتجاوزه)؛ والمستقبل لا يمكن أن يَـنْـبُـوَ عن المسارات التي ارتسمت ملامحها الكبرى، بَعْدُ، ومنذ زمن بعيد. وفي ما بين انفصال واتّصال، وفي ما بين ماضٍ تحقّق وحاضر يُعاش ومستقبل ذي ملامح غائمة تنتظر الانكشاف والتجسيد، تفعل القوى المجتمعيّة فعلها ماديّاً ورمزيّاً وتحرّك التاريخ وتتحرّك ضمن مساراته وإكراهاته وتتنازع توجيه دفّته بحسب ما تمليه مصالحها ورهاناتها.

وليست أحداث مايو/أيار 1968 بخارجة عن هذا المنظور العام الذي تخضع له سائر الأحداث في شتّى الأمم ومختلف الأصقاع. وهذا ما يُفسّر اختلاف دارسي التاريخ في تقييمها بين قائل بأنّها شكّلت اللّحظة التي دشّن فيها المجتمع الفرنسيّ مرحلةَ ما بعد الحداثة ولحظةَ القطيعة مع كلّ أشكال التسلّط في صيغه المتعدّدة الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والاستهلاكيّة والامبرياليّة، من ناحية؛ وقائل بأنّها (بعيداً عن الصخب والعنف اللّذَيْن أحدثتهما في حينه) ليست إلاّ حركة قامت بها مجموعات من "البرجوازيّة الصغيرة" ومن "أبناء الذوات" الذين صار يحلو لهم أن يتسمَّوْا بـ"جيل ثمانية وستّين" بحثا منهم عن الشهرة والتكريس الإعلامي والاعتراف الجماهيريّ، من ناحية أخرى.

وبين قائل بأنّ الأمر يتعلّق بـ"ثورة ونصف" ينبغي الثناء عليها، وقائل بأنّه لا يعدو أن يكون "نصف ثورة" من الضروريّ أن لا تُحمَّل ما لا تحتمل، أقدمت الباحثة لودفين بانتيني على عمل علميّ لا مناص من الاعتراف بأنّه غير مسبوق، أو يكاد!

                                                        

عمل جديد بأدوات مستعارة!

ولعلّ من أبرز ما قام عليه هذا العمل سعي صاحبته إلى تجاوز شتّى "الأحكام" المتداولة حول أحداث مايو/أيار 1968.

وخلافا لما يمكن أن يتبادر إلى ظنّ الكثيرين، فإنّ المقصود بـ"التجاوز" -في هذا المقام- ليس التحلّل من "أحكام الممجّدين" أو من "أحكام المهجّنين"، (وهي في الغالب أحكام "ما بعديّة" لاحقة على الحدث، بل طارئة عليه).

وليس المقصود بـ"التجاوز" أيضا أن يأخذ المؤرّخ الحيطة من الرواية "الرسميّة" التي غالبا ما يسارع النظام القائم إلى صياغتها ونشرها في الإبّان في مسعى منه إلى ملاحقة الأحداث وتطويقها والسيطرة عليها (نظير حرصه على ملاحقة المحتجّين وتطويقهم ومحاولته السيطرة عليهم!).

وليس المقصود بـ"التجاوز" كذلك أن يحترز المؤرّخ من "الرواية المقابلة"، أي "الرواية غير الرسميّة" (أو بالأحرى "الروايات غير الرسميّة" بصيغة الجمع)، وهي غالباً ما تكون متعدّدة بتعدّد مناهضي السلطة القائمة ومختلفة باختلافهم رغم أنّ أصحابها يصرّون على تقديمها –كلّ بحسب موقعه من الأحداث ودرجة إسهامه فيها ووعيه بها- في صيغة "الشهادة" الميدانيّة التي تنقل للمتابعين "الحقيقة"، "كلّ الحقيقة"، و"لا شيء غير الحقيقة".

في دراستها لأحداث مايو/أيار 1968، لم تقصد لودفين بانتيني بـ"التجاوز" شيئا من هذا الذي استعرضناه ولا طرفاً من ذاك. وليس من الغريب أن تسلك في كتابها مسلكا قائما على الحذر المفرط وأن تُبدي حرصا فائقا على تجاوز ما بين يديها من المعطيات. فقد صار من المألوف في تقاليد المدرسة التاريخيّة الفرنسيّة (ومنذ زمن بعيد يرقى إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر) أن ينأى الدارس بنفسه عن الوقوع في "ورطة الروايات" البعيدة عن الحدث أو المزامنة له؛ كما أضحى من العاديّ في عرف مدرسة "الحوليّات" الشهيرة (هذه التي قامت على أنقاض سابقتها) أن تتمّ مقاربة أيّ مسألة تاريخيّة مقاربة جامعة لا يتمّ الاقتصار فيها على الجانب السياسيّ وحده بل يتمّ إفساح المجال لما ظلّ مُهملاً مقصيّا تحت وطأة القول بـ"عبقريّة" صانعي التاريخ وموجّهيه.

ولأنّ لودفين بانتيني ليست سليلة المدرسة التاريخيّة الفرنسيّة، ولا حفيدة من حفدة مدرسة الحوليّات، بل هي ممّن يصحّ تسميتهم بـ"المؤرّخين الجدد"، فقد كانت دراستها لأحداث مايو/أيار 1968 خلاصة تأليفيّة للمدرستيْن سابقتَيْ الذكر وتطويراً لهما، في ذات الحين. دليلنا على ذلك أنّها ورثت من الأولى (أي من المدرسة التاريخيّة) الشغف بالوثيقة والتعويل عليها في كتابة التاريخ؛ وأنّها ورثت من الثانية (أي مدرسة "الحوليّات") الرؤية الجامعة التي نظرت من خلالها إلى الحدث التاريخيّ على أساس كونه كلاّ لا يتجزّأ تنصهر ضمنه شتّى العناصر وتتفاعل في نطاقه مختلف المستويات ويسهم فيه سائر الأفراد بعيدا عن منطق "البطولة" وعن مقولة "السيادة" (في معناهما القديم).  

ولكنّنا في اللّحظة التي نعترف فيها للودفين بانتيني بأنّ عملها الذي خصّصته لدراسة أحداث مايو/أيار 1968 يبوّئها لأن تُعَدَّ من بين "مؤرّخي فرنسا الجدد" لا مناص لنا من التنبيه إلى أنّها لا تنفرد بقصب السّبق في هذا السياق ولا تستأثر به؛ بل إنّ الفضل في ابتداع المنهج الذي سارت عليه يعود في الحقيقة إلى مؤرّخ إيطاليّ الجنسيّة صاغ رؤية مخصوصة في دراسته للثورة الفرنسيّة (1789)، ونعني بذلك المؤرّخ هايم بورستين صاحب كتاب "ثوّار- من أجل أنتروبولوجيا سياسيّة للثورة الفرنسيّة" (2013).

 

"بطل أخوك، دون إكراه"!

لا يتّسع المجال لاستعراض كافّة المضامين التي وردت في كتاب هايم بورستين عن الثورة الفرنسيّة بالرغم ممّا تنطوي عليه من قيمة وطرافة. لكن، ومراعاةً منّا للمقام، سنكتفي بالإشارة إلى أهمّ الأسس المنهجيّة المعتمدة فيه وهي نفس الأسس التي استعارتها لودفين بانتيني وسارت على هديها في سياق تناولها لأحداث مايو/أيار 1968. وتتلخّص هذه الأسس في النقاط التالية:

- أنّ الدراسات التاريخيّة لا ينبغي أن تتخلّى عن مفهوم "البطل" (Protagoniste) ولا أن تقصيه من حقلها؛ فالتاريخ لا يصنعه إلاّ "الأبطال"، ولكنّهم "أبطال" من نوع آخر غير الذي ألفناه وغير ذاك الذي روّجت له الكتابات التاريخيّة القديمة السائدة.

- أنّ مقولة "البطولة" لا يمكن أن تُحصر في شخص بعينه ولا أن تُقصر على فرد دون سواه ولا سيّما أولئك الذين دأبت المدوّنات التاريخيّة القديمة على تقديمهم لنا على أساس كونهم "أشخاصا استثنائيّين" ذوي "عبقريّة" لا نظير لها.

- أنّ "البطولة" (من منظور الأنتروبولوجيا السياسيّة) صفة من الضروريّ أن تُعمّم على الجميع دون أدنى تمييز. وبهذا المعنى، فإنّ من الممكن لأيّ شخصٍ، ذكراً كان أو أنثى، "عاميّا" كان أو من "الخاصّة"، أن "يتحلّى بصفات البطل". يكفي أن يستدعي منه الحدث الراهن الذي يعيشه أو يواجهه شكلا من أشكال الالتزام حتى يجد نفسه منخرطا في الفعل السياسي (بالمعنى الأكثر عموميّة للكلمة) دونما حاجة إلى أن تكون لديه "العدّة" التي يزعم البعض أنّها ضروريّة من أجل "ممارسة السياسة".

- أنّ الحدث التاريخيّ، في سياق هذه "البطولة المعمّمة" ينشأ من قدرة البطل/الفرد على الفعل ومن شعوره بأنّ فعله البطوليّ فعلٌ مشروع يتيح له أن يدافع عن مطالبه وأن يصوغ مشاريعه.

وخلاصة هذه المبادئ التي صاغها هايم بورستين مقولةٌ جامعةٌ مفادها أنّ التجربة الفرديّة، تجربة البطل (في معناه الجديد)، هي تجربة تاريخ بصدد التحقّق.

ولعلّ من أهمّ النتائج التي ترتّبت على هذه النظرة أنّ مفهوم "الفواعل" أضحى أكثر اتّساعا. فهو لا يقتصر على أهل السياسة، ولا ينحصر في "الخاصّة" ممّن ألفنا تواتر أسمائهم في سرديّات التاريخ... لقد أضحى الكلّ أبطالاً ولكن بمعايير أخرى مغايرة تستدعي من دارس التاريخ أن يعيد النظر في المعطيات التي بين يديه وأن يقرأها من كافّة الزوايا الممكنة والمتاحة. وذلك ما بادرت  لودفين بانتيني إلى القيام به من خلال عودتها إلى كامل الأرشيف المتعلّق بأحداث مايو/أيار 1968، وهو أرشيف مجهول في قسم كبير منه. وانطلاقا من هذا الكمّ الهائل الذي اشتغلت عليه استطاعت أن تخلص إلى جملة من النتائج أهمّها:

-         أنّ الرواية المتداولة للأحداث والقائلة بأنّها وقعت عبر ثلاث مراحل: مرحلة أولى استُهلّت باحتجاجات الطلبة، أعقبتها ثانية تميّزت بمشاركة العمّال والموظّفين وبإضرابهم العامّ، واختتمت بثالثة استرجع فيها النظام قبضته على الأوضاع؛ مثل هذه الرواية تختزل ما جرى اختزالا مُخلاّ وتصوّر الأحداث تصويراً أقرب إلى "الكليشيهات" التي من الضروري التخلّص منها.

-         أن وثائق أرشيف البوليس ومحاضر الإيقافات وسماعات الشهود تفيد منذ يوم 3 مايو/أيار 1968 (أي في مرحلة مبكّرة من الأحداث وقبل ارتفاع نسقها وتعاظم حدّتها) بأنّ المساهمين كانوا من أوساط مهنيّة مختلفة ومن مراتب اجتماعيّة متعدّدة ومن شرائح عمريّة متباينة.

-         أنّ الفاعلين في الأحداث (أو "الأبطال" بالمعنى الذي حدّده هايم بورستين واعتمدته لودفين بانتيني) كانوا يشاركون -كلّ من موقعه وحسب دوره ووظيفته وموقفه ممّا يجري- في حركة شاملة لم تقتصر على العاصمة باريس وحدها (خلافاً للروايات الأكثر تداولا). فالمتظاهرون والمضروبون والطلبة والعمال والمزارعون والموظّفون والمثقّفون ورجال الدين والمهاجرون إلى فرنسا من بلدان أجنبيّة وأصحاب المهن الصغرى ورجال الأمن والمخبرون ورجال السياسة والمواطنون "العاديون" الذين عارضوا ما يجري... كلّ هؤلاء ساهموا بطريقة أو بأخرى في "خلخلة السائد" سواء عبر الدعوة إلى تغييره أو من خلال الإصرار على بقائه واستمراره. ولم تَخْلُ "أفعالهم البطوليّة" تلك من لحظات التردّد وخيبات الانتظار. وهذا ما أضفى على الأحداث طابعا مُلهما وقيمة أقرب إلى الرمز المتجدّد في ذكراه كما في قراءة المؤرّخين له.

 

وعن هذا الإلهام وعن هذه الرمزيّة عبّر عنوان الكتاب كما اختارته صاحبته لودفين بانتيني. صحيح أنّه يبدو في الظاهر عنوانا بسيطا واضحا مباشرا ولا سيما في عبارة "اللّيالي العظيمة"؛ ولكنّه يعود بنا إلى تاريخ نزعم أنّه مجهول، ونعني بذلك تاريخ الحركات الاجتماعيّة السريّة في فرنسا. ومن بينها حركة "العصابة السوداء" التي نشطت في ما بين سنتي 1882 و1884 وكان أفرادها من عملة المناجم يبشّرون بما سَمَّوْهُ "اللّيالي العظيمة" في إشارة منهم إلى أنّ فجرا ما سيُشرق ليحمل معه اضطرابا فجائيا راديكاليّا عميقا عنيفا يعصف بالوضع الاجتماعيّ القائم ويخلّص العمّال، عبيد العصر الحديث، من عبوديّتهم ويفتح أمامهم باب الحريّة. هل حقّقت أحداث مايو/أيار 68 بعضا من هذا الذي الحُلم، حلم الانعتاق؟ أم إنّها وقعت دونه ولم تَـرْقَ إليه؟ جواب ذلك في كتب أخرى لا شكّ أنّها ستظهر طيلة هذه السنة. ويكفينا من مايو/أيار 68 أهمّ شعار من شعاراته المُلهمة: "كونوا واقعيّين... أطلبوا المستحيل"!

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.