}
عروض

''طبولٌ من حجر'' لعبد القادر وَسَّاط: فتنة الفنتازي

محمد أحمد بنيس

30 سبتمبر 2017

يستدرجنا الشاعر المغربي عبد القادر وساط في عمله ''طبول من حجر''، الصادر ضمن منشورات بيت الشعر في المغرب، إلى قارة لا تزال في طور الاستكشاف في الشعرية المغربية، ضمن رؤية ينسلُّ فيها الفانتازيُّ إلى أي شيء يمكن أن يخطر على البال؛ من الذاتي واليومي والهامشي إلى العابر للزمن، في صور وإيحاءات غير نمطية، تعكس عمق إحدى أهم التجارب الشعرية المغربية المعاصرة وأكثرها نضجا.

يُخلص الشاعرُ المألوفَ من دلالاته الرتيبة، فلا يتوانى عن تخصيب امتداداته الجمالية والدفع بها بعيدا في اتجاه مخيلة متوثبة وجامحة. هكذا تبدو الحياة وكأنها مستعدة لتدبَّ في كل شيء وتمنحَهُ معنى مغايرا. نقرأ في نص ''معرض'':

تجرد الرسام من ثيابه/ وانسلَّ مذهولا/ فصفق الزوار/ وبعد نصف ساعة/ أطل من لوحته الأولى/ وكسر الإطار.



تغيير أدوار

خلطٌ للأوراق، وتغييرٌ في الأدوار، وهدمٌ لما يفصل بين الذات الخالقة (المبدعة) والكون الذي تبدعه (اللوحة).

هل يمكن أن نتصور رجلا سكرانَ يقبض على رجل شرطة قرب حانة؟ بالطبع، لا. السلطةُ في كل مكان كما يقول ميشيل فوكو. لا يمكن للمواضعات البشرية، في أي زمان ومكان، أن تسمح بذلك. لكن وسَّاط يجعل ذلك ممكنا حين يقلب المعادلة ليربكنا بمشهد غرائبي لا يخلو من رغبة عميقة في التحرر من هذه المواضعات:

منتصف الليل.../ أفتح نافذتي الآن/ فأرى رجلا سكرانَ/ يلقي القبض على الشرطي الواقف/ قرب الحان/ لكني لا أحتجُّ/ ولا أسمع من يحتجُّ/ سوى كلب الجيران.

وفي نص ''تصريح'' يزيد الشاعر على ذلك بأسطرة الزمن والمكان اللذين تحدث فيهما الوقائع التي انتقاها من داخل المألوف: بماذا أصرح؟ / ليس هنالك يا سيدي/ ضمن أمتعتي/ ما يحتم ذلك، / لا شيء في حقيبة رامبو/ وخوذة أبولينير، / ومحبرة المتنبي/ وفرشاة دالي...

حِسٌّ سوريالي على قدر كبير من الوعي الجمالي والفني يدفع الشاعرَ لاجتذاب هؤلاء من أزمنتهم/ أمكنتهم المتباعدة، وإقناعهم بمرافقته في أسفاره التي لا تحتاج لتصاريح، والتوغل في مجاهل شعرية تكاد تكون بكرا في الشعر المغربي، عبر توظيف محكم للخبرة الحياتية والشعرية والجمالية. نقرأ في نص ''حلم'':

وأعلن ناطق في الفجر/ أن تذاكر السفر الأخير لأرخبيل الموت/ قد تُلغى/ وأن الجندَ سوف يداهمون الحان والمبغى/ وسوف يعلقون على الجدار/ بنادقَ الأسرى، ويغتصبون بعض الراقصات/ ويشربون الخمرَ في خوذات موتاهم..

بعض النصوص تبدو مرعبة وكابوسية لدرجة يخيل إلينا معها أننا غادرنا الحياة منذ أمد بعيد، ولسنا سوى ذرة غبار في هذا الكون، إلى أن يباغتنا الموتى في ليلة مقمرة برؤوسهم المائلة، وقد خرجوا للتو من قبورهم فرادى وجماعات، يتوسلون حياةً مفترضةً في دمائنا، لا موسيقى تثنيهم عنا.

نقرأ في '' لم تكن هناك موسيقى'':

كانوا يمشون حفاةً/ تحت ضوء القمر/ وكانت أسماؤهم منقوشة بالسكاكين/على ظهورهم العارية (..) ولم تكن هناك موسيقى تسليهم/ سوى نقيق الضفادع العملاقة/ وحفيف/ أجنحة/ الشياطين/ كانوا يمشون حفاة/ بينما تلمع/ أضواء المدينة/ في البعيد/ وكانوا يحلمون/ ببلوغ مقبرة آمنة/ كي/ يموتوا/ من/ جديد.


تماس مع "الآخر"

في نص ''الجندي'' يعبر بنا الشاعر إلى منطقة جديدة في المنجز الشعري المغربي المعاصر، تشتبك فيها الفيزياء بالخيال واللاوعي والأسطورة والسينما. يتعلق الأمر بالسفر عبر الزمن، وتعقبِ ذلك الجانب المظلم من حياة البشرية. يعود أحد الجنود القتلى، بعد خمسة وثلاثين عاما، إلى الخندق الذي لقي فيه مصرعه، ويبدأ بالحفر ليجد أخيرا هيكله العظمي، فيخرجه من قبره ويشرع ''الاثنان'' في الرقص في مشهد دراماتيكي مُروع.

هذا النص، الذي نجده على الغلاف الخلفي للعمل، يضعنا بشكل لا إرادي، على حدود التماس مع القصة الشهيرة لبورخيس '' الآخر''، حيث يلتقي بورخيس العجوز ببورخيس الشاب الذي كانه في ما مضى. وإذا كان لقاؤهما قد جرى وَهُما على قيد الحياة، في زمانين ومكانين مختلفين، فإن لقاءَ الجندي بنفسه (هيكله العظمي في المستقبل) في نص وسّاط يجري على الحدود الملتبسة بين الحياة والموت. فالهيكلُ ينهض من القبر لملاقاة الجندي الشاب الذي كانه في الماضي، فيلتحم ''الاثنان''، بشكل لا يخطر على البال، داخل أرجاءِ ذاتٍ تحمل توتراتها الكبرى بعيدا عن معادلة الحياة والموت. يجد قارئُ نص ''الجندي'' نفسه في مواجهة أسئلة حارقة تخص تحولات الزمن في علاقته بالحياة والموت وما بينهما. فمشكلة الزمن لا تنتهي بالموت كما نعتقد، بل تأخذ تبدياتٍ أخرى لا تقل رعبا عن تلك التي نعايشها في حياتنا.

في ذات السياق، يُنعش هذا النص ذاكرتنا السينمائية، فيجعلنا نستحضر الربرتوار السينمائي العالمي المتعلق بأفلام السفر في الزمن (مشهد البطل في فيلم The Jacket، حين يسافر إلى المستقبل، الذي يصادف سنة 2007، ويقف على قبره ويتطلع إلى ''حياته'' وقد لخصتها الشاهدة: جاك ستورك: ''ولد سنة 1964- توفي سنة 1993''). لا يكتفي الجندي العائد، في النص، بالوقوف على قبره كما ''جاك ستورك''، بطل الفيلم المذكور، بل يدلف إلى قبره ويُخرج هيكله العظمي، ويشرع في مراقصة ''نفسه'' تحت المطر وعلى إيقاع الريح. وبذلك تفتح عودته المرعبةُ أفقا آخر في علاقته المأساوية بالزمن.

في نص ''انتظار'' يدفع الشاعرُ بموضوعة ''السفر في الزمن'' في اتجاه آخر، يسمح للذات بأن تطل علينا من جسدين أو أكثر، دونما اعتبار لمواضعات الزمن والوجود والموت:

أصيخ السمع كالمرتاب/ لوقع خطى/ وراء الباب/ سأنظرُ ربما كانت/ خطاي أنا/ لعلي عائد للتو من سهرٍ/ مع الأصحاب/ سأسأل صاحب الدكان/ تُراني عدتُ قبل الآن/ ولم أعثر/ على العنوان؟ أم أني نمتُ طول الليل/ قرب سلالم الجيران؟ سأسألُ بائع الصحف المقابل/ هل رآني صدفة/ في صفحة الوفيات/ حيث الموت بالمجان؟

 لو ابتسمت قليلاً!

انشغالُ الشاعر بتذرير الزمن وتخليصه من دلالاته المألوفة يهدم الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، ويفتح دروبا لا نهائيةً أمام هذه الذات للانزياح كما في نص '' لو ابتسمتْ لي قليلا''، حين يستدرج الشاعرُ القارئَ إلى قصيدته، موهما إياه بوقائع تحدث أثناء عبوره أحد الشوارع، قبل أن يكتشف هذا القارئُ أن الأمر يتعلق فقط بتخيلات راودت الشاعر أو ربما حدثت له في زمن آخر.

تتبدى أيضا الرغبةُ في تطويع الزمن والالتفاف عليه في توظيف رمزية الحانة، باعتبارها المكان الذي يتحرر فيه الإنسان، وينطلق ''مُحلقا'' في بحث مضنٍ عن الخلاص؛ خلاص يجعل موتى عمياناً ينادمون أحياءً في حانات المساء والجنون والسراب والسَّحَر: في حانة السحَر/ موتى بلا ثياب/ يُخفون خلف الباب/ حقائب السفر.

تمثل تجربة عبد القادر وساط تحولا في موضوعة الموت في الشعر المغربي، فهي تتجاوز الموت كإحالة على الخيبة والفقد والغياب واللاجدوى، وبالوسع القول إنها تُعيدُ تركيب هذه المعاني في دلالاتها المختلفة، لتعطيها وجها جديدا وتدفع بها في اتجاهات شتى. يستدعي الشاعرُ الموت ويستضيفه داخل تفاصيل الحياة اليومية دون أن يُسبب ذلك أي ارتجاج في جهة ما. يقول في نص '' حيث لا شيء يحدث'':

يُريد أن يغادر السرير/ قبل انطفاء عقب السيجارة الأخير(...) يريد أن يقفز في الفجر من الشباك/ قبل وصول صحف الصباح للأكشاك/ لكنه ممددٌ/ منذ مساء الأحد الماضي/ على محفة باردة هناك/ في قاعة التشريح.

يدفع الشاعر بالموت إلى مَشغل أحلامه، فيعيد تخييلها من خلال العناصر الصاعدة من ظلمة اللاوعي، ويغدو الموت والحياة طفلين يلهوان عند الجسر الذي يفصل الوجود عن العدم. لا يبدو الموت مفارقا بعد أن جرده الشاعرُ من ِقناعه المرعب، ورمى به في معترك اليومي والمألوف، ما دام بوسعنا أن نتخيل ملائكةً يصلحون الأطباق الهوائية، ومُدرسا يُطل على أشخاص عراة هاربين من الجحيم. نقرأ في نص ''العاصفة'':

كانت هناك أعشاشٌ أخرى كثيرةٌ/ تُحلق/ فوق سطوح المنازل/ بينما الملائكة منهمكون/ في إصلاح الأطباق الهوائية/ لنقل وقائع العالم السفلي/ كان الحارس الليلي يئن من الألم/ في عرزاله الخشبي/ بعد معركة البارحة/ مع غيلان الغابات المجاورة/ أما الراقصة المتقاعدة فكانت ميتة في سريرها/ منذ زمن طويل (..) وفي المدينة نفق سحري/ من يجتزه يكتشف/ المعنى الحقيقي للسعادة/ في الطرف الأقصى من الشارع/ كان المُدرس الأصم الأبكم/ يرى من نافذة الفصل الفارغ/ أشخاصا عراة/ هاربين من الجحيم.

ويقول في نص ''شائعات'':

مثل كل ليلة/ يتساءل الحارسُ الليليُّ/ عن السر الكامن/ وراء حزن السيارات/ المركونة في الشارع.

حين تختفي الحدود بين الواقع والحلم، فإن أي شيء يمكن أن يحدث بعيدا عن سلطة الزمن والمكان وقوانين الحركة. يبتدعُ الشاعر فيزياءه الخاصة، فيفتح العالم على مسارات مجهولة، تلتحم فيها الأزمنة والأمكنة والأرواح والوجوه والحواس، وتأخذ المعاني والمواضعات المألوفة طريقها في اتجاه الجحيم. وتتحول الذاكرة بين عشية وضحاها إلى علبة فارغة، ويَسعد الموتى، كما الأحياءُ، بالمطر، وتُحال الطبيعة على المعاش. نقرأ في نص '' في المستشفى'': وفي زمنٍ قديمٍ/ قبل أن أدخل المستشفى/ كنت أَمُرُّ يوميا فوق الجسر/ فأسمع الأسماك تقهقه في أعماق النهر/ لكنهم اعتقلوني، ذات يوم، وأنا آخذ صورا بالأبيض والأسود/ للشعراء الهاربين من كتب الأدب القديمة.

ونقرأ في أحد نصوص الهايكو:

هل بلغكِ الخبر أيتها النوارس؟ / جارنا الأحدبُ/ أحال البحر على المعاش.

ينتقل الشاعر من صورة لأخرى مثقلا بخسائره، يفاوض الأشباح على رقعة مظلمة بين الوجود والعدم، يعبر الجسور ويتوغل في دروب خياله، يلتقط بحسِّ الخالق، ما يشاء، ويلقي به في مختبره الذي يمتد على مساحة تغطي أزمنة بعيدة جدا. يُذكرنا بأفلام رعب معلومة من خلال صورٍ وإيحاءات تُوَلِّدُ فينا مشاعر تقترب من تلك التي تولدها هذه الأفلام:

أرقبُ الفناجين/ وهي تتقافز/ حول جبيني/ وأرى الكرسي الخشبي الأبيض/ يرتفع ببطء/ نحو السقف.

حرص عبد القادر وساط في هذا العمل على تنويع مصادر عالمه الفانتازي الضاج بالغرابة، فلم يقتصر على ما يقع خارج نطاق الطبيعة وما تواضعت عليه الخبرة البشرية (الخارق)، بل بحث عن مصادر أخرى داخل ما هو مألوف، في رؤية ترى في الحلم والخيال واللاوعي والممكن عناصر ممكنة لإعادة تشكيل الواقع وإدراكه بشكل مختلف.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.