}
عروض

الدولة الحديثة في كتاب "تونس العثمانية"

لطفي عيسى

14 أكتوبر 2017

 

 صدرت عن دار "تبر الزمان" التونسية الطبعة الثانية من كتاب "تونس العثمانية بناء الدولة والمجال"، وينخرط هذا الإصدار ضمن مشروع معلن هدفه تقديم قراءة متوازنة لمختلف المراحل والأحداث التي مرّ بها تاريخ التونسيين بوصفهم "أبطالاً للتاريخ وصنّاعاً ومنتجين له".

ويتضمن الكتاب في طبعته الجديدة 249 صفحة، وينقسم إلى أربعة أبواب وعشرة فصول تمحورت حول إشكالية أساسية هي إنجاز مقاربة سياقية لميلاد الدولة الترابية الممركزة في البلاد التونسية وتطوّرها على امتداد الفترة الحديثة، مع إفراد الفصل العاشر والأخير للتعرض لانتفاضة "علي بن غذاهم" التي اندلعت سنة 1864 والتي طاولت في بدايتها، تماما مثل تلك التي حصلت سنة 2011 مناطق الوسط الغربي التونسي.

يصدر هذا الجهد المعرفي عن فرضيّة مُؤيدها البرهنة على أن ما عاينته مؤسسة الدولة الترابية تدرّجا خلال الفترة الفاصلة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر من تحولات فارقة، لم ينتج عن عملية زرع خارجي لمؤسسة الدولة الحديثة، بقدر ما ترتّب على تحولات عميقة عاينها المشهدان الاقتصادي والاجتماعي التونسي، أفضت في الأخير إلى إكساب مشروع الدولة المراقبة لمجالها الجغرافي المسيطرة على عمرانها جذورا محليّة عميقة. ويحدّد المؤلف الفارق بين الدولة المخزنية الحفصيّة ورصيفتها الحديثة، مشدّدا على أن النجاح في خطة المركزة وتوسّع الأنشطة الزراعية خاصة بعد ضمور مردود التجارة الصحراوية وانتقال حركة التجارة العالمية من المتوسط إلى المحيط الأطلسي، فضلا عن بروز فئة "البلديّة" (أو حضر المدن) المؤازرة لمجهود دولة البايات والمستفيدة منه على حساب منْظوري القبائل، هو ما شكّل على الحقيقة واقدا لبروز الدولة الحديثة المنسلخة عن دولة المخزن الحفصي المتّسمة بـ"تجميع الجموع"، في حين أعطت الدولة الجديدة مدلولا ترابيا للسيادة وأكسبت الالتزامات الضريبية طابعا فرديّا.

غاص المؤلف لتوضيح هذه الفكرة المنارة في التفاصيل التاريخية لأمد زمني طويل غطى الفترة الممتدة بين منعرج القرن السادس عشر، ذاك الذي عاين تحوّلا جذريا للدورة الاقتصادية العالمية، وثورة بن غذاهم التي شكّلت من جانبها منعرجا خطيرا تمثّل في الدفع باتجاه مراجعة القرارات المتصلة بتنظيم المسطرة الضريبية ووضع حد نهائي لرواسب الدولة المخزنية التقليدية التي احتكمت لمنطق المنازل الاجتماعية، وما ترتب على ذلك من توسّع في الإعفاءات والامتيازات.

مجال البلدان مجال "العربان"

أخضع عبد الحميد هنية المقاربة الاجتماعية لنتائج عملية تفحّص دقيقة للمنظومة الضريبية، فتبيّن له أن التعارض بين ما وسمته مدونة الإتحاف بمجال "البلدان" و"الحواضر" ومجال "العربان أو النواجع" في القرن التاسع عشر، حاضر بجلاء في نظام الدولة الضريبي المعتمِد على التفريق بين "البلْدي"(الحضري) و"العرْبي" (البدوي)  بإثقال كاهل هذا الأخير قياسا لما فرض عمليا على الأول، في حين لم يعكس واقع النمو الذي عاينته حواضر إفريقية خلال المرحلة الوسيطة المتأخرة علاقة اقتصادية موصولة بفائض إنتاج الأنشطة الزراعية، ولم يعاين الأداء الضريبي تمييزا لسكان الحواضر على سكان البوادي، لذلك يخلُص المؤلف إلى أن ذلك التفاضل المتعارض مع منطق المسطرة الضريبية هو وليد الفترة الحديثة دون سواها.

حاول الكاتب التعمّق في سمك النسيج الاجتماعي من خلال رصد مميزات ما نعته بـ"التركيبة الـمَدِينِيَّة" والمجالات الخاضعة لتأثيرها مقارنة بالمجموعات القبلية والريفية. فقد احتلت الحواضر أنفع المجالات وأفضلها، حيث احتشد السكان منذ أقدم العصور على الساحلين الشرقي والشمالي للبلاد، بينما لعبت حواضر الدواخل دور محطّات الخزن والتموين على خطوط التجارة القوافلية وطريق الحج. وساهم مجتمع المدن في ربط البلاد بالدورة الاقتصادية المتوسطية محتكرا فوائض المبادلات التجارية، اعتبارا لتوفره على أفضلية تقنية (التعامل النقدي والتقنيات العسكرية والإدارية المتطوّرة). كما ضم مجتمع الحواضر نخبة وافدة مثلها الأتراك والأندلسيون والأعاجم من بين أسرى القرصنة ويهود "القرنة" القادمين من "ليفورن" الإيطالية.

تمكّنت هذه الأوساط بعد ضمور موارد تجارة القوافل من التوغّل في دواخل البلاد وأريافها بغرض الاستفادة، وذلك عبر توسيع ممتلكاتها الزراعية وتملّك مجال "الموات" ومراقبة عمليات الإحياء على المساحات القابلة للاستصلاح من تطوير ريعها العقاري، فاتسّع بذلك المجال المراقب من طرف حُضر مدينة تونس مع حلول القرن الثامن عشر ليشمل أراضي الحوضين الأسفل والأوسط لوادي مَجْرَدَة. وتكوّن منذ منتصف القرن التاسع عشر، وعبر الحصول على العديد من الامتيازات الضريبية (الإعفاء من الأداء الشخصي وتخفيض الأداء على المساحات الزراعية ما وسمه عبد الحميد هنية بـ"مجال الرْعِيّة" الذي شرّع لحصول المنتسبين إلى المجال الحضري على امتيازات سياسية وضريبة لم يحض بها غيرهم.

تُوّجت مختلف هذه التحولات التي شملت البنية العقارية وفقا لما أكده المؤلف، باتّسام الواقع الحضري بهرمية صارخة أكّدت سيطرة مدينة تونس على باقي المجالات الداخلية، بدوية كانت أم حضرية. وهي وضعية فارقة تاريخيا لم يُكتب لها الاتساق إلا خلال الفترة الحديثة، فقد اتّصف واقع الحواضر على الدوام بانفراد كل مدينة كبرى بخصوصياتها أو"أرْطَالها" (الفقهية والقضائية والثقافية) على حد منطوق المثل الشعبي.

ترتب على هذا الوضع بروز لافت لما وسمه المؤلف بـ"الفئات الأَعْيَانِيَّة"، تلك التي تمركزت بقلب المدينة وتآلفت عبر شبكة علاقات مصلحيّة مع "بلْدِيتها" أو حضّرها، وذلك من خلال تشغيل نظام معقّد لتبادل المنافع سمح للوافدين الجدد في الأخير بالاستقرار بمركز المدينة وامتلاك رِبَاعِها وأصول الزياتين الواقعة بفحوصها القريبة فضلا عن مواراة موتاهم بمدافنها، الشيء الذي سحب على جميعهم صفة الانتساب الكامل لحضّرها مقارنة بجمهور "البرَّانِيَّة" (أو الغرباء) أولئك الذين لم يستوطنوا في الغالب الأعم إلا مجال أرْباضها.

شدّد المؤلف في المقابل وبخصوص مجتمع البوادي على أن التوزيع الجغرافي للمجموعات القبلية قد فرّق بين الجبالية (أي سكان الشمال الغربي وسلسلة الظهرية) ومجموعات الوسط (كأولاد سعيد وجلاص والمثاليث والسواسي والمهاذبة ونفات) والقبائل الرحل الصحراوية (كغريب وأولاد يعقوب وبني زيد وورغمة)، مشيرا إلى طبيعة الحَرَاك الذي لازم هذه التجمعات والذي جعل من انتشارها الذي عكسته دفاتر الدولة لأواخر القرن السابع عشر حقيقة مرحليّة لا يصح تعميمها على الفترة التي سبقتها، معتبرا أن كل حفر في التطوّرات التي عاينتها تلك التجمّعات لا ينبغي أن يقنع بالإيديولوجية التي صدرت عن متقاسم خطابها، بل يحسُن مقاربة واقعها الدقيق طوال الفترة الحديثة من خلال التركيز على التحولات التي طالت الخليّة الأسرية والعلاقة بالمْلْكيّة باتجاه التوسّع في عملية التفريد وتراجع استقلال المؤسسات "الجماعويّة" من خلال تعقّد المصالح المالية بين جهاز الدولة المركزية وفئة الأعيان المحليين (وخاصة منهم المشايخ والهيئات التمثيلية لما وسم بـ"الرَجَّاله الكبار").

غير أن ما شكّل انقلابا حقيقيا، وإذا ما فهمنا جيّدا مقترح المؤلف، هو هيمنة الدولة المركزية على مجال المبادلات الداخلية بعد مرور تأمين اتساقها المتصل بنظام ادخار سنوي للمواد الأساسية أو "العُولَةُ" وهو نظام تخزين بربري ضارب في القدم، من يد تجمعات قبائل الوسط والجنوب الكبرى لتتولاّه الهياكل الردعية للسلطة المركزية. وهي فرضيّة عوّل عبد الحميد هنية في تركيبها على مفهوم "الأسواق الانفجارية" الذي شكّل محصلة للتحقيقات الميدانية التي أجراها عالم الأنثروبولوجيا "فرنشسكو بني Francisco Benet"، مبيّنا أن الفارق بين الواقع المحلي المغربي الذي عادت أهلية هيكلة مبادلاته الداخلية بالأساس إلى مؤسسات الولاية والصلاح، والواقع المحلي التونسي يكّمن في ارتباط تلك المهمّة الحيويّة تونسيا بحضور لافت للهياكل الردعية والإدارية للدولة، الشيء الذي حدّ من الأدوار التي لعبتها الأسواق السنوية شمالا أو جنوبا وذلك لفائدة الأسواق الأسبوعية (كسوق الأربعاء الذي يحمل حاضرا اسم مدينة جندوبة وسوق الخميس عند مدينة بو سالم وسوق الأحد عند حوضي مجردة الأعلى والأوسط)، فانقطعت الأدوار الأمنية التي تولّتها سابقا تلك التجمعات القبلية، وتدرّجت نحو الاستقرار والتعويل على الأنشطة الزراعية. فانسلخ بذلك عامة منظوريها "من [وضعية] الرعاة والتجار إلى [واقع] المزارعين [المتنافسين] على اقتناء الأراضي وإحياء مواتها".

طريق المركزة قراءة في مسار

تتوفّر العروض المقترحة ضمن هذا القسم من الدراسة على مجموعة من الملفات عمل الكاتب على التوليف بينها متقصّيا مسألة جوهرية شكّل مسار المركزة السياسية قطب الرحى ضمنها. فقد تم التعرّض تباعا لعدة إشكاليات حسّاسة على غرار أزمة دولة المخزن الحفصي والأسباب الكامنة وراء فشل مشروع مغامرة الدويلة الدينية الشابية (خلال القرن السادس عشر)، ومسار إعادة بناء المركزة السياسية من خلال إرساء المؤسسات العثمانية، وتوفّر موارد حقيقية تُسعف الدولة في مواجهة مصاريفها، كتنشيط القرصنة والدفع باتجاه تطوير المبادلات التجارية وتوظيف توطين الوافدين الأندلسيين بغرض توسيع الأنشطة الزراعية والحرفيّة والعمل على ضبط الحدود مع أتراك طرابلس والجزائر. ليواصل المؤلف تفكيك مسار المركزة السياسية على أيام دولة البايات المراديين تونسيا من خلال التشديد على إعادة تنظيم العلاقات مع الوسط القبلي باتجاه هيمنة الفئات الحاكمة وضمور آليات التواصل التقليدية المعوّلة على المصاهرة والحلف والإقطاع، على أن يخصّص بقية العروض للتدقيق في تجربة السلالة الحسينية تلك التي توصّلت عبر مسيرة طويلة مضنية إلى إرساء "دولة ترابية" عوّلت على تشغيل آليات ولاء وتبعية مخصوصة، شكّلت ما نعته المؤلف بـ"الطبقة الحاكمة"، تلك التي ضمت شرائح عديدة من وجهاء الحواضر كما الأرياف والبوادي، أوكلت لها الدولة وعبر نظام معقّد للمراجعة استغلال ممتلكاتها العقارية وجمع ريعها الضريبي عبر التوسّع في نظام اللّزم أو الالتزام.

دقّق عبد الحميد هنية بحرفيّة عالية في مضمون التطوّرات التي عاينتها منظومة الاستغلال الزراعي عبر تملّك الأراضي البيضاء أو "الموات". كما توسّع في التعرّض للتحولات الفارقة التي طالت النظام الضريبي، وتطوّر المبادلات الخارجية والأطراف المستفيدة منها تلك التي شكّلت ما وسمه الكاتب بـ"الكتلة الأعيانية" (نسبة إلى الأعيان). لينتهي به المطاف عند مأزق التحديث الذي فرض على الدولة الحسينية التخلّي على سياسة الاحتكار التجاري والقبول بمنطق المنافسة مع الشركات الأجنبية، وهو ما تسبّب في الحدّ من موارد الدولة وألجأها إلى استعصار المنتجين الزراعيين والحرفيين وخاصة بعد إمضاء معاهدة الثامن من أوت 1830 مع فرنسا والتي قضت بتخلّي الدولة التونسية عن جميع الاحتكارات التجارية. الأمر الذي بلور سياقا تاريخيا غير ملائم بالمرة للدخول في حزمة إصلاحات عسكرية وضريبية ودستورية، مكنت من انبثاق مدلول حقيقي لما وسمه المؤلف بـ"الفرد الرعية"، حتى وإن لم تكن البلاد قادرة موضوعيا على تحمّل الحصيلة الـمُكلفة للمصاريف المترتّبة عن تلك الإصلاحات.

تلك محصّلة هذا الكتاب الجديد الذي تمت صياغته في لغة عربية تقصّت البساطة وتبليغ المعنى، وإن لم تخل من حضور إِلْغَازٍ شمل العديد من المصطلحات والمفاهيم التي أثارت ولا تزال سجالا كبيرا بين المؤرخين المختصين وغيرهم من المولعين بكتابة التاريخ، على أن العروض المتّصلة بمختلف الملفات التي أشرنا إليها تطرح من جانبها وفي تقديرنا الشخصي العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى مزيد توضيح. فبقدر ما كشفت الملفّات المتّصلة بالجوانب العقارية وخاصة موضوع التوسّع في استغلال "الموات" وتطوير النظام الجبائي باتجاه توحيد المسطرة الضريبة وما ترتب على ذلك من انتقال لافت لواقع المجتمع التونسي خلال الفترة الحديثة، عن باع المؤرخ وقدرته الفائقة منهجا وتصوّرا على تعديل القراءة المبذولة للتاريخ الحديث التونسي، بقدر ما تشي بقية الملفات بتوجّه آثر التجديف في اتجاه بدا لنا آحادي بعض الشيء، رافضا الدخول في نقاش معرفي بنّاء مع بقية المنتسبين إلى ذات التخصّص، تونسيين كانوا أم غير تونسيين. فطرحُ إشكالية سياق بناء الدولة بالبلاد التونسية مسألة جوهرية اخترقت في تقديرنا ولا تزال بحوث مختلف أجيال الجامعين التونسيين المختصّين في التاريخ الحديث، كما في التاريخين الوسيط أو المعاصر، وهو ما لا نجد صدى له ضمن هذا المقترح. كما أن فتح مجال المقارنة بخصوص مسار تشكّل المركزيتين الترابيتين التونسية والمغربية، توافقا مع قناعات المؤلف التي كرّسها النشاط المكثّف للمخبر الذي أداره بكثير من التوفيق على سنوات مديدة، تفّرض منطقيا التعامل بإنصاف كلما تعلّق الأمر بملفات حيويّة تحيل على إشكاليات جديدة على غرار الصلاح والهامشية وتاريخ الهياكل الديمغرافية على سبيل المثال، وذلك من خلال الوقوف عند نتائجها وتثمين الجهود المعرفية لأصحابها في إعادة صياغة المقترح المعرفي لتاريخ مجال المغارب عامة والبلاد التونسية تخصيصا.

كما أن التصوّرات المقترحة بخصوص الممانعة القبلية ونتائج عمليات "استحرابها" الكارثية لم تستند، ومثلما شدّدت عليه الآراء الواردة ضمن هذا الكتاب، بشكل مطلق على تشغيل آليات القمع في حق الدولة والدفع باتجاه الشحناء والتباغض في حق سكان المدن، فتوافق تقصي مقاصد الأحكام الشرعية مع ما انطوت عليه تسوياتها مع أعراف التونسيين والمغاربة أو "أعمالهم"، تبرهن بما لا يدع مجال للشّك عن فاعلية أدوار الوساطة الداعمة للاستقرار وتطوير الأنشطة الزراعية ونشر العافية، وهو ما لم يتعارض مطلقا مع احتياجات الدولة الترابية الرامية إلى احتكار العنف كشرط أساسي في سيطرتها على المجال وإخضاعه لمضمون المسطرة الضريبية طوال الفترة الحديثة.

ومع ذلك فإن المؤلف لم يذهل عن مناقشة التصوّرات التي صاغها محمد الهادي الشريف بخصوص التوجّهات "التقدمية" لفكر حمودة بن عبد العزيز، وهي توجّهات بدت له قريبة من الممارسات "الفيزيوقراطة" الداعمة للأنشطة الزراعية. إلا أنه قام بذلك من موقع مُتابين بحث شدّد على التوجهات النفعية لفئة الأعيان الحضريين، وهو ما لم يكن الأستاذ الشريف فيما نعتقد ذاهلا عنه، إنما شدّته إلى آراء حمودة بن عبد العزيز وزير على باي (1759 - 1782) الرغبة في تقصي توجّهات جانب من النخب التونسية التقليدية التي تمكنت من التفاعل إيجابا مع مسار التحديث غربا. هذا الأمر هو الذي عاد إليه مؤلف هذا الكتاب ليضعه موضع تساؤل لما قدّر أن تدرّج الدولة في تمكين منظوريها من الحصول على وضعية "الرْعيّة" عبر إقرار ملكية أعيان الحواضر لعقاراتهم وإخضاعهم لدفع ضريبة العشر، ثم توسّعها في ذلك التوجّه ليشمل لاحقا الفئات الـمُنتجة من بين سكان الدواخل أو البوادي - ذلك الواقع الذي عكسته مختلف المحطات المفصليّة المتصلة بمراجعة أنظمة الأداء الضريبي (كإصلاحات 1726 - 1727 و 1801 – 1802  وإقرار الضريبة الشخصية أو "الإعانة" سنة 1856)- هو ما غيّر على الحقيقة واقع النسيج الاجتماعي التونسي في العمق، ناقلا "جموعه" الغائمة الهُلامية إلى إكساب مدلول الفرد ثم الشعب مدلولا دقيقا، وذلك في انتظار الإقرار بحق جميع أولئك في المواطنة،  لذلك يعتبر مؤلف هذا الكتاب أن عراقة هذا التوجّه بل أسبقيته على الأفكار التي بشّرت بها الثورات الحديثة وفي مقدمتها الثورة الفرنسية طبعا، حقيقة لا مجال للطعن فيها. غير أن ما يعكسه الواقع التونسي حاضرا من احتداد للتجاذب بين مشروعين مجتمعيين على طرفي نقيض يمثّلهما دعاة المحافظة والتأصيل على شاكلة ما عاينته بلاد المشرق من جانب، والمدافعين على مسار التحديث على شاكلته الغربية الموصومين عنتا بـ"الفرنسة" في الجانب المقابل، يطرح من ناحيته وبشكل حارق جملة من التساؤلات بخصوص مدى وجاهة الإقرار - وفي مقاربة مسار المركزة وبناء نموذج الدولة الترابية الحديثة تونسيا- بالطابع الـمُهيمن للأدوار التي عادت للفاعلين المحليين دون غيرهم من الفعلة الأجانب؟
 

* أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.