}
عروض

"الموت كما لو كان خردة" لوداد نبي:دراما النص

عارف حمزة

18 سبتمبر 2017
                      

ربّما تعتبر مجموعة الشاعرة السورية وداد نبي "الموت كما لو كان خردة" من أكثر المجموعات الشعريّة، للشعراء الشباب، التي تم الكتابة عنها من قبل صحافييّن ونقّاد. وأكثر تلك الكتابات بشّرت بشاعرة ناضجة كصوت أنثويّ يُدير الرؤوس إليه. وهو أمر لافت للنظر خاصة أنّها تعتبر مجموعتها الشعرية الثانية بعد مجموعتها "ظهيرة حب.. ظهيرة حرب" التي صدرت عام 2013.

وقوف أبديّ على الأطلال

خرجت وداد من سوريّة في نيسان/إبريل من عام 2014 إلى تركيا قبل أن تتوجّه إلى العاصمة الألمانية برلين. وهذا ما يجعل الحنين هو المحرّك القوي لمفرداتها ونصوصها في مجموعتها الجديدة الصادرة عن دار "بيت المواطن" في بيروت، ضمن سلسلة شهادات سورية. الحنين الذي ينقل الحياة القديمة في البيت القديم والشرفة القديمة والمطبخ القديم والنافذة القديمة والبيوت المهجورة..، ومناجاتها بعد توقف الحياة فيها بسبب الهجر الإجباريّ، وبسبب القصف والدمار والخراب، ومقارنتها بكل ما هو جديد بعد ذلك الهجر. الحنين الذي يجعل الشخص يلتفت لأصغر التفاصيل التي مرّت عاديّة في تلك الحياة، ثم جاءت الآن لتصبح مؤلمة وتمرّ عشرات المرّات خلال الغياب الكليّ عن المكان وتفاصيله. لذلك تبدو الكتابة هنا مثل وقوف أبديّ على الأطلال. بينما في قسم آخر تحاول أن تصنع علاقة لها مع المكان الجديد، بمفردات وأنفاس المكان الجديد، ناثرة فيه سيرة قديمة عاشتها في مكان آخر.

تبدأ المجموعة هكذا "لم يكن للحزن بيت/ فاستقبلناه بحفاوة في بيوتنا/ كفردٍ من العائلة". من نصها الأول "رسائل: اثنا عشر غزالاً قنصهم الحزن". وفي المقطع الثامن منه تكتب عن غياب السعادة، أي دوام الحزن، "أطلق عليّ أبي أسماء كثيرة/ أسماء تصلح لكلّ المناسبات/ إلا أنّه نسي دائماً/ كيف يُرشد السعادة إلى بيتنا". وهكذا سيُقيم الحزن في هذا الكتاب متخذاً أشكالاً ومرادفات وحالات مختلفة، وهكذا سيكون الحزن أحد الأشياء الضروريّة التي أخذتها وداد من بلدها المُدمّر إلى كلّ الأماكن والنصوص.

تكرار بعض المقاطع بتبديل مكان كلمة أو بإضافة جملة عليه يجعلنا نفكر بخصوصيّة الأشياء التي تكتب عنها نبي في مجموعتها؛ كما في المقطع السابع من النص الأول والمقطع الخامس من نص "المكان مضاء بالذكرى". كأنّها تؤكد على القارئ قراءته، وعلى المكان حجم الحنين إليه. وتؤكد تداخل نصوص الجزء الأكبر من الكتاب وسيلان نص في نصوص أخرى، رغم أنّه كان يمكن التخلي عن ذلك ببساطة؛ طالما أنّ أحد المقطعين أعطى مقطعاً شعرياً كاملاً بلا نقصان. أو جمع النصوص الثلاثة الأولى في نص واحد، طالما يبدو أنّها كتبت كي تُقال دفعة واحدة من دون إبطاء.

النساء المهجورات والمعنّفات

تتجول قصائد الكتاب في أكثر من مكان؛ تتقمّص نبي شخصيّات كثيرة من أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا، وتنزّه تلك الشخصيّات بعيداً عن مساقط رؤوسها. تردّد أغاني وعبارات فرنسيّة ويونانيّة وكرديّة.. وهي في تقمّصها أيضاً تبدو امرأة مهجّرة ومهجورة وينهالُ عليها القساة بقسوتهم دون رحمة. بمعنى آخر، تنقل صوت المرأة "المُعنّفة" والخائفة والتي لا تعرف كيف تفسّر ألمها فتشرحه بدلاً عن ذلك.

تنحو كتابة نبي إلى البناء الدراميّ للنص؛ فبعد النصوص القصيرة الأولى تحكي نبي حكايات يغلب عليه السرد النثريّ، كما حكاية الفتاة المخطوفة من تحت شمس أفريقيا إلى عائلة في أميركا اشترتها من سوق النخاسين. أو حكاياتها الشخصيّة قبل مغادرة البلاد وخلالها وبعدها. الحكايات الشخصيّة التي تتحدّث حتى عن عاداتها الشخصيّة كصنع القهوة مثلاً، أو عادات مُؤلَّفة كي تحكي عن النفس وأشباهها ونقائضها. هذا السرد الذي يعتمد على الكثير من الوصف والعطف والشرح والاسترسال، يعتمد على خاتمة تحاول إدهاش القارئ قدر الإمكان. بهذا المعنى تبدو القصيدة مغلقة عند نبي، أو مكتملة؛ هناك سبب لكلّ ما يحدث، فلا توجد جملة معلّقة في الهواء، أو مفتوحات الاحتمالات، بل تذهب إلى إكمال الحلقة حتى نهايتها. ولكن في الخاتمة تعمل نبي بدقة من أجل إدهاش القارئ، وهي تنجح في معظم الأحوال تقريباً.

أين يذهب الحب حينما ينتهي؟

شيء آخر نعثر عليه عند نبي؛ وهو تكرار جملة بعينها، أو كلمة بعينها، لأكثر من مرّة في كلّ نصّ تقريباً، وكأنّها تريدُ للقارئ أن يقرأ مثلها. أن يُبطئ وهو يمرّ على هذه الآلام والأحزان، ألا يسرع "بخفّة تشبه الخفة التي يغادر بها الرجالُ النساء". كأنّها تقرأ للقارئ أو تغنّي له. أو تغنّي ما تكتبه كي تأخذه الحافلات والقطارات إلى البلد البعيد البعيد. إذ "ربّما يكون الشعر/ تعويضاً عادلاً عن الخراب/ الذي سيحلّ بالأرض/ حينما يموتُ الشعراء جميعاً". أو لأنّ "في قلبي ندوبُ المدن/ التي تركتها/ المدن التي تتبدّد كسكّر هش/ في ماء البرابرة الجدد". أو لأنّ "الجرح معدن قاسٍ" لا بدّ من الطواف حوله وتكرار تفاصيله حتى يلتئم، أو حتى لكي لا يلتئم أبداً.

"لأصلَ إليكَ/ وُلدت الحرب الطويلة في بلادي". "تتحوّل لكنتي الهادئة/ إلى لكنة امرأة تبيع السمك/ في حيّ شعبيّ من أحياء استنبول/ حينما أستيقظ باكراً". "قلبي الذي يصلح لطلاء المنازل". "قلبي الذي بكى مرّة لأن الحليب الذي قدّمته لي جدتي كان ساخناً/ وبكى مرة أخرى لأنني لم أعرف أبداً/ أين يذهب الحب حينما ينتهي".  نعثر على جمل شعريّة مثل هذه الجمل، رغم الاسترسال الذي قد يبدو عادياً في هذه المجموعة التي تُصفّي حساباً باهظاً مع الجنود الذين ينتصرون على أبناء بلدهم، لتصل إلى تصفيته مع الاستعمار والنخاسين والذين سببوا بؤس هذا العالم. ليس الحزن ما يُغلّف هذه المجموعة؛ إنّه الحب الذي تحمله الكاتبة في كلّ نص. النصوص التي نظنّ بأنّها لا بدّ أن تنتهي بالكراهية أو الأحقاد أو الموت، إلا أنّها تنتهي مع وداد بالحب.

وداد نبي من الجيل الذي خرج تحت حمولة كبيرة من المآسي التي يمكن الكتابة عنها في كلّ وقت، هي من الجيل الذي ننتظر أن تنطلق منه الحركة الجديدة في الشعر السوري، وفي الثقافة السورية ككل، هذه الحركة التي عليها أن تجد نفسها، وتجيب عن الأسئلة الكبرى التي أطلقتها الثورة والحرب والاستبداد والتهجير والدمار والخراب الذي طاول كلّ شيء سوريّ.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.