}
عروض

حين كانت سالونيك "أورشليم البلقان"

يندرج هذا الكتاب الصادر حديثاً عن جامعة ستانفورد في كاليفورنيا (ستانفورد 2016) ضمن الاهتمام المتزايد في السنوات الأخيرة بما آل إليه الحال في شرق المتوسط من تغيرات إثنية ودينية وثقافية نتيجة للانتقال السريع من الحكم العثماني القائم على التعددية إلى الدول القومية الجديدة، التي حاولت أن تثبت على الأرض مصداقية أيديولوجيتها، أي أنها قامت لأجل دولة قومية لشعب يفترض أنه موجود أو كان موجوداً على تلك الأرض. ومن ذلك يمكن ذكر ما حلّ بقبرص ورودوس والأناضول وجنوب البلقان بعد حرب البلقان 1912-1913 والحرب العالمية الأولى 1914-1918 والحرب اليونانية – التركية 1920-1923، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية 1939-1945، التي ختمت هذه التغيرات الكبيرة في البنية الإثنية والدينية للدول التي استقرت حدودها في المنطقة.

وفي هذا السياق يفيد بشكل خاص كتاب "سالونيك اليهودية" لديفن نار أستاذ التاريخ في جامعة ستانفورد الذي يعود بأصوله إلى سالونيك، وهو ما ساعده في تجميع التاريخ الشفوي ممن بقي على قيد الحياة بالإضافة إلى الوثائق الموجودة في مراكز الوثائق في الولايات المتحدة وبريطانيا واليونان وغيرها. وفيما يتعلق بالعنوان فهو يشير إلى ما أصبحت تشتهر به سالونيك في العقود الأخيرة للحكم العثماني، بعد أن أصبح عدد اليهود يمثل غالبية السكان (أكثر من النصف إلى جانب الأتراك واليونان والبلغار والألبان والغجر وغيرهم) حتى غدت تشتهر بلقب "أورشليم البلقان" و"أم إسرائيل". فقد وصل عدد اليهود في السنة الأخيرة للحكم العثماني (1912) إلى حوالي خمسين ألفا، أي حوالي عدد اليهود في كل فلسطين آنذاك، وبذلك كانت سالونيك أكبر تجمع لليهود في مدينة واحدة مما جعلها تسمى أيضا "عاصمة اليهودية"، حيث كان اليهود يسيطرون على التجارة والحرف والصناعة الجديدة وكانت تعجّ بالمدارس والصحف ودور النشر التي أبرزت أسماء مهمة في الثقافة اليهودية.

ولكن لا بد هنا من إيضاح أن يهود سالونيك كانوا يمثلون "السفارديم"، أي اليهود الذين تعود أصولهم إلى شبه الجزيرة الإيبيرية وعاشوا هناك في ازدهار ثقافي خلال حكم المسلمين إلى أن طردوا مع المسلمين بعد توحيد إسبانيا، ولم يجدوا سوى الدولة العثمانية ترحب بهم فانتشروا في شمال أفريقيا وبلاد الشام وشرق المتوسط (الأناضول والبلقان). وهم بذلك يختلفون في لغتهم (اللادينو التي تمثل خليطاً من اللاتينية والعبرية) عن اليهود "الاشكناز" المتمركزين في أوروبا الوسطى والشرقية (ألمانيا وروسيا... إلخ) ولغتهم اليديشية التي هي مزيج من السلافية والألمانية والعبرية. وقد ساهمت التطورات الجديدة في الدولة العثمانية في النصف الثاني للقرن التاسع عشر (ومن ذلك مرسوم المساواة في 1856 بين المسلمين والمسيحيين واليهود وإعلان الدستور وانتخاب البرلمان الأول في 1876... إلخ) في قدوم مزيد من اليهود إلى سالونيك، هذه المرة من إيطاليا المجاورة وفرنسا، وقد حملوا معهم رساميل وخبرات جديدة.

إلا أن هذا الازدهار الكبير لـ"سالونيك اليهودية" تعرض لعدة خضّات بعد انحسار الحكم العثماني بشكل مفاجئ نتيجة لهزيمة الدولة العثمانية أمام اليونان وبلغاريا وصربيا والجبل الأسود في حرب البلقان 1912-1913. فبعد استسلام الجيش العثماني آلت مساحات واسعة من الأراضي إلى اليونان وبلغاريا، اللتين كانت تطمع كل واحدة منهما بسالونيك والمنطقة المجاورة لها مما تسبب في اندلاع الحرب بين الدولتين في 1913 التي انتهت بانتصار اليونان وضم سالونيك ومناطق واسعة حولها. ولكن ما أن استقرت سالونيك تحت الحكم اليوناني حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى، التي حملت في 1917 "الحريق الكبير" الذي شمل معظم الأحياء اليهودية، ولم تنته الحرب العالمية الأولى حتى اندلعت الحرب بين اليونان وتركيا التي انتهت باتفاقية لوزان عام 1923، التي حملت مأساة جديدة غير مسبوقة في القانون الدولي ألا وهي تبادل السكان بين تركيا واليونان. فقد اقتلع مئات الألوف من اليونانيين من غرب الأناضول واستانبول ليرحلّوا الى اليونان، مع أن بعضهم لم يكن يعرف اليونانية، وكذلك الأمر مع المسلمين من سالونيك وضواحيها الذين رُحّلوا إلى تركيا بحجة أنهم من الأتراك.

كان على اليهود، الذين سلموا من ذلك المصير البائس، أن يتكيفوا مع اليونان الجديدة التي تمثل أسطورة "الدولة القومية" الحديثة (التي قامت باسم شعب واحد كان موجوداً قبل الفتح العثماني) كبديل عن الدولة العثمانية التي تقوم على التعددية القومية، وبالتحديد مع الحداثة التي كانت تعني أيضا الانتماء إلى أوروبا بتياراتها الفكرية التي ميزت فترة ما بين الحربين. وفي هذا السياق ساعدت الحكومة الجديدة في اليونان بإصدارها لقانون 1926 الذي تضمن المساواة بين المواطنين في الدولة الجديدة، مع أن اتفاقية الأقليات التي أقرتها عصبة الأمم كانت تلزم اليونان بحماية أقليتين دينيتين فقط (المسلمين واليهود). إن هذا النص على ما هو ديني وليس على ما هو إثني رحّل إلى المستقبل، بعض المشاكل التي لا تزال مثلا تحكم العلاقات المتأزمة بين اليونان وتركيا.

في هذه الفترة تقبّل اليهود، أو التيار الغالب بين اليهود، فكرة الانتماء إلى الوطن الجديد(اليونان) مع الحفاظ على الهوية اليهودية، بعد محاولة التمييز هنا بين النسبة إلى الهيلينية أو اليونانية. فبالنسبة لليهود كانوا يفضلون أن يقال عنهم "يهود هيلين" أو "هيلين يهود" على اعتبار أنهم يمثلون اليونان القديمة (الهيلينية) بقيمها الديمقراطية، بينما تقبلوا فيما بعد أنهم "يونانيون يهود" أو "يهود يونانيون". إن هذا التحول مهم لفهم حرص اليهود على البقاء والارتباط بسالونيك كعاصمة للسفارديم، التي أصبحت لها شهرة واسعة في التجارة والصيرفة والثقافة، وعلى عدم الانسياق للهجرة إلى فلسطين استجابة لدعوات المنظمات الصهيونية باستثناء أعداد محدودة.

إن هذا التحول يبدو واضحاً في خريف 1941 عندما شنت إيطاليا الفاشية عدوانها على اليونان فهبّ شباب اليهود كغيرهم للدفاع عن "الوطن" (اليونان). ولكن هذا العام حمل انتكاسة بل بداية المأساة التي قضت على أسطورة "سالونيك اليهودية". فبعد فشل إيطاليا في حربها ضد اليونان جاء الاحتلال الألماني ليقضي على هذا الاندماج اليهودي في الوطن (اليونان)، حيث طبقت سياسة الاحتلال الألماني ما كان معمولاً به في ألمانيا النازية من تمييز لليهود عن غيرهم من المواطنين وتجميعهم ثم شحنهم في القطارات إلى معسكرات الاعتقال والموت.

وهكذا حتى 1943 كانت السلطات الألمانية قد جمعت ونقلت وتخلصت من 96% من يهود سالونيك، حيث لم يعد في المدينة سوى ألفين فقط، وحتى هؤلاء كان يمكن أن ينضموا إلى غيرهم لو طال الاحتلال الألماني لليونان أكثر. فمع استسلام إيطاليا الفاشية في خريف 1943 عمدت ألمانيا النازية إلى سحب قواتها بالتدريج من البلقان لكي تدافع عن نفسها أمام ضربات الحلفاء. في هذا السياق يذكر المؤلف بالاعتماد على الأفراد القلائل الذين نجوا من الموت في المعسكرات النازية كيف أن شباب اليهود كانوا يمضون إلى الموت وهم ينشدون النشيد الوطني اليوناني.

صحيح أن سالونيك ارتبطت في ذاكرة العرب الحديثة باليهود الدونمة (أتباع شباتاي زفي) وجمعية الاتحاد والترقي ونفي السلطان عبد الحميد إليها بعد خلعه عن العرش، إلا أن هذا الكتاب الجديد يفكك "أسطورة" سالونيك بمعنى أن يميز ما هو اسطوري عمّا هو تاريخي يستحق التعرّف عليه والاعتبار به .

* أكاديمي كوسوفي/ سوري

   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.