}
عروض

صلاح بوسريف: تشريح المثقف المغربي

أشرف الحساني

25 أغسطس 2017
تنزل الشاعر والناقد صلاح بوسريف منزلة رفيعة ومرموقة داخل الثقافة المغربية المعاصرة، فهو يعد في نظر الكثير من النقاد العرب قطبا من أقطاب الشعر المغربي، وعمودا من الأعمدة التي تنبني وتشيد عليها القصيدة المغربية المعاصرة، إلى جانب ثلة من الشعراء العرب كمحمود درويش وأدونيس ويوسف الخال وأمجد ناصر وقاسم حداد وعبد المنعم رمضان وعبد الله زريقة وغيرهم من الشعراء والنقاد الذين ارتبط لديهم الشعر والثقافة والفكر بالنضال الديمقراطي اليومي، بغية التحرر وتحديث العقل العربي من سطوة الديني والسياسي على الثقافي، من أجل تحقيق نهضة معرفية عربية تتأسس على قيم الحداثة والديمقراطية والفن والجمال.

 غير أن اللافت هنا، هو أن الشاعر صلاح بوسريف، لم يبقَ حبيس كتابة الشعر والتنظير لبعض مفاهيمه، كما هو الشأن عند رهط من الشعراء المجايلين له، وأعني جيل الثمانينيات، أي الجيل الثالث في المشهد الشعري المغربي المعاصر، بل إن صلاح بوسريف يطالعنا هذه المرة بقبعة الناقد/ المفكر/ الطبيب، الذي يقيم ويشرح بعض الأعطاب، التي ألمت بجسد المثقف المغربي المنخور من فرط تبعية الثقافي للسياسي، وذلك في كتاب بهي له بعنوان "المثقف المغربي : بين رهان المعرفة ورهانات السلطة"، وفيه حاول ملامسة ومقارعة بعض القضايا الشائكة الحساسة، التي تؤسس وتمثل جوهر الثقافة المغربية "المعطوبة" كالنخبة المثقفة، الثقافي والسياسي، المثقف العضوي، المثقف والإعلام، اتحاد كتاب المغرب، مأزق التعليم والعربية وغيرها من الموضوعات، التي باتت تشكل العائق الأساس أمام تقدم وتحديث الثقافة المغربية الغارقة في ثقافة السياسة على حساب سياسة الثقافة.

وتأتي أهمية هذا الكتاب في قدرته على نقد الأزعومات والأغاليط، التي أصبحت تروج وتسوق لها بعض المؤسسات الثقافية كاتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر، وذلك عبر جهاز الإعلام، الذي أصبح هو الآخر متواطئا مع هذه المؤسسات، فضلا عن تشريحه الدقيق لتلك الازدواجية الفظيعة والمفزعة، التي بات يعيشها المثقف المغربي المتأرجح بين المنزلتين، أي بين أن يكون مثقفا صاحب مشروع ثقافي وفكري حداثي نقدي يقظ، مع الحفاظ على رصيده المعرفي، وتعاقده الرمزي مع ذاته أولا، ثم مع القارئ، وبين أن يكون مثقفا ذا لسان أخرس، حال جماعة أو عشيرة أو قبيلة سياسية مهما كان انتماؤها، يبرر لها أخطاءها وأفعالها، ويصنع لها خطابا دوغمائيا واهيا، وهو الأمر الذي أفضى إلى ما نعيشه اليوم من خروقات وانتكاسات داخل مشهدنا الثقافي المغربي المعطوب، الذي أصبح فيه السياسي بتفاهته المعهودة يلعب دور الصدارة والبطولة.

ونتيجة لهذا التفتت والتشردم والضياع، الذي يعيشه المثقف المغربي اليوم. خرجت بعض الأقلام الشابة الجديدة من أبناء جيلي للمطالبة بالثورة على المثقف المغربي أو فيما سمته "بقتل الأب"، وذلك بدعوى عدم قدرته على الوقوف في وجه السلطة والاستبداد والجهر بالحقائق، التي هي من مهامه كمثقف، إضافة الى التعبير عن رأيه فيما تعرفه الساحة المغربية من حراك ثقافي وسياسي واجتماعي.

شخصيا لست من حفدة هذا الطرح، لأني لا أومن بمسألة "قتل الأب"، علما أن قتل الأب، هو جريمة وجناية في حق الفكر والمعرفة، التي أنتجت من قبل هذا الأب، ثم إن مسألة القتل لها إطارها المفاهيمي الغربي، الذي ظهرت وتبلورت فيه، وهو مرتبط أساسا بالمشروع الفلسفي والنفسي عند فرويد، ثم إننا لا نثور على الأشخاص بقدر ما ننتقد ونثور على الأفكار والأنساق، وحين نريد أن نجب أو نفند فكرة أو مشروعا أو نظرية ما، علينا أن نتسلح بالمعرفة وبامتلاك اللغات والفنون والآداب بشتى ألوانها، أما أن نبخس من قيمة مثقف من حجم عبد الله العروي، لأنه لم يخرج بكلمة أو مقال، تجاه ما شهدته مدينة الحسيمة من غضب جماهيري، أو اعتبار هذا النوع من المثقف غير ذي جدوى، فهذا ما لا أقبله ولا يمكن أن أستسيغه أبدا.

يستند الشاعر والناقد صلاح بوسريف في طروحاته الفكرية حول المثقف، إلى المشروع الفكري والنقدي عند أنطونيو غرامشي، فيما عرف بالمثقف العضوي، وهو ذلك المثقف "الإيجابي" الذي يملك ثقافة متنوعة وواسعة يسعى إلى تبادلها ونشرها بين أفراد المجتمع الذي يعيش فيه، بغية النهوض والخروج بهم من السراديب المظلمة الباردة إلى فضاءات أرقى يتجاوزون فيها تخلفهم المعرفي، إنه مثقف يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي، الذي يعنى بضمان حاجات الطبقة الكادحة ويلبي احتياجاتها اليومية. فمفهوم المثقف الذي يستشفه ويستله صلاح بوسريف من مشروع أنطونيو غرامشي، هو المثقف الحر صاحب الوعي النقدي اليقظ، الذي لا ينساق وراء البديهيات واليقينيات السطحية المميتة ووراء الفكر العقائدي الأعمى، وهو ما عبر عنه غرامشي بقوله "أن يعرف المرء ذاته يعني أن يكون ذاته، يعني أن يكون سيد ذاته، أن يتميز، أن يخرج من السديم... وهو لا يستطيع ذلك إذا كان لا يعرف أيضا الآخرين، وتاريخهم، وتعاقب الجهود التي بذلوها كي يكونوا ما هم عليه".

كثيرة ومتنوعة إذن، هي الوجوه والأقنعة، التي باتت تطبع المثقف المغربي بالكثير من التشظي والانفلات بعد تجربة التناوب التوافقي، وما ترتب عن ذلك من ويلات جسيمة داخل منظومة الثقافة المغربية. من "المثقف التبريري الذي لا ينتج أفكارا، بقدر ما يعمل على تسويغ أفكار الآخرين"، وهو نموذج الأستاذ الجامعي أو فيما أسميه شخصيا بالمثقف الببغاء، الذي يعيد إنتاج واجترار نفس الأفكار والمناهج والنظريات منذ تعيينه في الجامعة قبل 20 سنة إلى اليوم، هذا النوع في مغربنا الراهن ما زال يعيش في كهف أفلاطون (الأكاديمية)، فالجامعة أصبحت بسببه اليوم تعيش خارج الفكر والثقافة (بمفهومها الأنثروبولوجي عند ادوارد تايلر)، لأنها أصبحت تقتات وتعيش على ماضي هذه الثقافة، التي ليست هي نفسها الموجودة اليوم في واقعنا الثقافي العربي، إلى "المثقف التبشيري أو الداعية، الذي يحتكم في أفكاره للمرجعية الدينية"، وهذا النموذج تقوى فكره ومده منذ تسعينيات القرن الماضي، إبان الأزمة والنكسة الفكرية التي شهدها اليسار المغربي، بالرغم من الدور الطلائعي، الذي لعبته الأحزاب اليسارية، حين كان مثقفوها هم أصحاب الكلمة بما يمتازون به من سلط رمزية في إنتاج الأفكار والدلالات والقيم، وأيضا في تسيير شؤون الحزب وتنظيم اللقاءات والندوات الفكرية، التي شهدتها كل من مدينة الدار البيضاء والرباط وفاس. آنذاك تأتى لهذا المد الدعوي أن يزدهر، ويصبح الداعية في الحياة العامة أميرا ينعقد له المبايعون. وما زاد الطين بلة كما يقال، هو ما سمي بحكومة التناوب التي شهدها المغرب سنة 1998، والتي دخل فيها اليسار المغربي إلى السلطة "فهو لم يراع المسافة اللازمة، ولم ينأ بنفسه عن السياسي، ليبقى الضمير المراقب لما يجري، وللتذكير بالمبادئ، وينبه الى الانحرافات.... مثقفو الاتحاد الاشتراكي انساقوا دفعة واحدة نحو غنائم السلطة، ما سيفضي إلى موت الحزب فيما بعد". (1)، ليستغل بذلك الإسلامويون فراغ الساحة للوصول إلى الحكومة. ثم نجد "المثقف الأصولي" الذي مازال نائما أو هو بالأحرى يعيش في غيبوبة الماضي(التراث)، نظرا لقراءته الهشة والمبتذلة له، فهو يقرأه بوعي مغلق وأعمى، وليس بوعي نقدي يقظ ومفتوح، يستطيع أن ينفض عن صفحاته الغبار ويخرجه من عدمه إلى وجوده، ليدب فيه حياة أخرى غير تلك التي ألفها، وذلك عبر المساءلة والنقد والتفكيك، حتى يجترح لنفسه أفقا آخر فكريا وجماليا كونيا، إلى "المثقف المستقيل" أو المثقف الأخرس، الذي لا صوت ولا رأي له، وصولا إلى "مثقف السلطة" أو المثقف المخزني، ويعني به صلاح بوسريف "أولئك الذين انتقلوا من موقع اليسار إلى موقع السلطة، ليسوا كممثلين لاتجاه فكري مقتنع بضرورة العمل إلى جانب السلطان، كون الانتقال يجري في المغرب وفق ما كانوا يطمحون إليه، بل لكونهم حتى عندما استعاد السلطان، سلطاته ظلوا حريصين على مواقعهم وشرعوا في تبرير هذا الانقلاب، الذي جرى إبان استبدال وزير أول سياسي ذي أغلبية منتخبة آنذاك، بوزير أول، لا صوت له، إلا صوت السلطان" (2).

 لكن صلاح بوسريف لم يقف عند هذا الحد، بل انتقل ببراعة إلى تشريح جسد الثقافة المغربية ككل، من خلال نقد بعض المؤسسات الثقافية المعطوبة، كاتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر، وأيضا جملة الموضوعات المشكلة للمنظومة الثقافية المغربية كالإعلام، مجتمع المعرفة ومجتمع الفرجة، التعليم، القارئ المغربي، مأزق العربية، فضلا عن بؤس وأوهام المثقف المغربي، الذي أتبت عجزه تجاه ما تشهده الساحة المغربية ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، إذ إن جل المشاريع الفكرية التي ظهرت في أوائل ستينيات القرن المنصرم استنفدت طاقتها وبريقها الفكري، إبان شمس الربيع العربي، لأنها كانت محكومة أساسا بسياق فكري آني وسياسي هو سياق الوحدة والقومية العربية، فحكمت بالتالي على نفسها بالإجهاض، نتيجة عدم نجاعتها وقدرتها على تجديد نفسها وآلياتها وأدوات مقاربتها.

أكتب في هذا الهزيع الأخير من الليل، وأنا أعي جيدا، أن كتاب صلاح بوسريف هذا، يشكل لبنة مهمة وأساسية في تاريخ نقدنا المغربي، نظرا لمحاولته الجمع بين خطاب الناقد وخطاب المفكر المحلل للمفاهيم والأفكار، التي شهدتها المنظومة الثقافية العربية، منذ الربيع العربي إلى اليوم، وذلك بغرض توضيح وإبراز تبعية الثقافي للسياسي في بلداننا العربية، وما ترتب عنه من ويلات على صعيد الثقافة، وتناسل للأيديولوجيات وانفرط مفهومي المثقف والهوية، واختلاط للأفكار والمفاهيم... من ثم تأتي قيمة هذا الكتاب المتميز في الطموح إلى تشييد مفهوم جديد للمثقف. لذلك فان الجري وراء أطروحات صلاح بوسريف حول المثقف في كتابه هذا، من شأنها أن تنير لنا طريق البحث والاجتهاد، أمام هذا المد الدعوي المرضي، الذي اجتاح واستبد بواقعنا الثقافي العربي فابتذله أسوأ ابتذال.
 
الهوامش
1-      صلاح بوسريف، قلق الحافة: حوار في الشعر والمعرفة، حاوره عبد الغني فوزي، منشورات ملتقى الثقافات والفنون بالمحمدية، ص: 16-17.
2-      صلاح بوسريف، المثقف المغربي: بين رهان المعرفة ورهانات السلطة، منشورات دفاتر وجهة نظر، ص: 9.
 
 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.