}
عروض

"الباندا" لراهيم حسّاوي: تشريح نفسي للشخصيات

عارف حمزة

20 يناير 2018

                           
               

ثلاثة رموز شهيرة تدخّلت لتكون سبباً في بناء رواية "الباندا" للكاتب السوري راهيم حسّاوي (1980) الصادرة حديثاً عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل في بيروت. الرمز الأول هو جائزة نوبل للسلام؛ إذ تعمّق "عاصم التل" في ملاحقة هذه الجائزة والحائزين عليها، وكتب مخطوطاً لفضح هذه الجائزة التي تُمنح لشخصيّات شهيرة وغنيّة ولا تستحق الحصول عليها مقارنة بالناس العاديين الذي يخوضون هذه الحياة كأنّهم يخوضون حرباً طويلة. "هذه الجائزة تبقى بمثابة الديناميت الذي اخترعه ألفريد نوبل والذي يُشبه تفجير سيرة سلوك ملايين من الناس القابعين في الظلام لمصلحة فرد واحد يحظى بكل مقوّمات السير نحو الحصول على هذه الجائزة. فالأمين العام للأمم المتحدة (داغ همرشولد) كان يرتدي ثياباً فاخرة، ويحظى بوظيفة كبيرة، ويُدخّن أفخر أنواع السجائر، ويشرب أرفع أنواع الكحول، ولديه عدد كبير من الموظفين والسّبل، وطائرات تحت تصرفه، والأهم من هذا كلّه أنّه يملك منبراً ليس بوسع أي أحد الحصول عليه..". (ص 87 - 88). هذه الأفكار التي كتبها عاصم ينقلها لنا ابنه عمران؛ لأنّ عاصم التل، الدمشقي صاحب ورشة النجارة المعروفة، قد انتحر في مكتبه برصاصة في رأسه قبل بداية هذه الرواية.

عمران هو إحدى الشخصيّات الرئيسيّة في هذه العمل. وهو يترك الجامعة بعد انتحار والده ويُدير ورشة والده الشهيرة، ويُحاول إثبات نظريّة والده حول جائزة نوبل للسلام؛ لذلك يبحث عن شخصيّة "سيئة السمعة تتصف بالخسّة والوضاعة" ليقوم بدعمها وتمويلها بكثير من المال لإنشاء جمعيّة خيريّة تتوسّع أعمالها وشهرتها، وصولاً إلى ترشيحها لنيل الجائزة. ويقع اختياره على فريدة الأسعد، التي تعمل عاملة في ورشة للخياطة، بعد ست سنوات من البحث. "كان عمران يفكّر على الدوام بالزمن الذي يحتاجه كي يتم ترشيح فريدة الأسعد لجائزة نوبل للسلام. كان مستعدّاً لفعل كلّ شيء لتحقيق هذا الهدف. أراد في قرارة نفسه أن يقف أمام العالم ويقول كلّ ما قاله أبوه، ويُقدّم أدلته النظريّة والعمليّة حول وصمة العار التي تنطوي عليها هذه الجائزة المُجحفة بحق الإنسانيّة" (ص 40).

وخلال جريان الرواية في ارتفاع أسهم فريدة الأسعد وازدياد شهرتها محليّاً وعربيّاً وعالميّاً، نتعرّف على بقية عائلة عاصم التل؛ فإضافة إلى عمران هناك الابنة طبيبة الأسنان "جيداء"، والعمّة المُقعدة "سعاد" والأم التي تتزوج شخصاً آخر بعد موت عاصم. نتعرّف على أمزجتهم وحكاياتهم وشخصياتهم، إذ ترى الأم أنّ هذه العائلة لها جذر واضح من الجنون! في المقابل نتعرّف على أعمال الورشة وعمّالها وأهمية وجودها في بنيان هذه الرواية واستمرارها؛ حيث سنتعرف على شخصيّات أخرى مثل شخصيّة الفنانة التشكيليّة سارة التي ستسكن في المكتب الذي انتحر فيه عاصم.

عشّاق فاتن حمامة

الرمز الشهير الثاني هو الفنانة الراحلة المعروفة فاتن حمامة. من خلال عشق عاصم لأعمال فاتن حمامة سيُلاحق كل أخبارها والأفلام المتعلّقة بها، حتى تصل إلى يديه مجموعة من الرسائل بخط يدها. وهذه الرسائل هي رسائلها المتبادلة مع سيّدة لبنانيّة اسمها "شادن". وكانت شادن تتحدّث لها عن عشقها لأفلامها وكذلك عن عشقها لرجل لن تتزوّجه، ولكن سيزرع جنيناً في رحمها. فتهرب شادن من بيروت إلى باريس وتضع هناك طفلتها "كلودين" وتتزوّج من "موريس" الفرنسيّ الذي يُدير مطعماً، وستنجب منه "جوليان". فاتن حمامة ستكون مفتاحاً، مع تلك الرسائل، في لقاء كلودين وعمران وحبّهما العاصف، وكلودين ستكون سبباً لتعرّفنا على الدكتور عزّام، الذي يخضع لجلسات العلاج الكيميائي بسبب إصابته بالسرطان، وحبه العاصف لكلودين. وكلودين تعشق كليهما ولا تريد فقدان كليهما.

الرمز الثالث هو الباندا. دب الباندا المُهدّد بالانقراض. قارئ الرواية سيستفسر في داخله عن سبب تسمية هذه الرواية بهذا الاسم، خاصّة أنّ الكاتب، طوال أحداث الرواية، لن يمرّ على ذكر هذا الاسم سوى مرتين، ولكن يُمكن تفهّم ذلك من خلال ربطه بالعصب الرئيسيّ فيها؛ وهو الحقائق حول جائزة نوبل للسلام، حيث يقول حسّاوي في نهاية الرواية: "كان كلّ شيء واضحاً، مثل بياض وسواد وحجم دب الباندا المهدّد بالانقراض" (ص 169).

استطاع صاحب رواية "الشاهدات رأساً على عقب" (2013) أن يتنقل بين دمشق وبيروت والقاهرة وباريس بشكل سلس وكتابة لا تترك مجالاً للقارئ أن يتنفّس براحة إلا بعد انتهائه من قراءة العمل. كما أنّه ذهب إلى تقديم شخصيّاته بتشريح دواخلهم النفسيّة، لدرجة أنّ هذه الشخصيّات بدت مألوفة للقارئ من جهة، ومرتاحة لحيواتها ومصائرها، التي قادهم إليها حسّاوي، في هذا الكتاب. شخصيات مختلفة وتنتمي لطبقات حياتيّة وعقليّة ونفسيّة مختلفة، ولكنها بدت ليّنة في يد الراوي الذي استعمل كثيراً من الوصف؛ في محاولة منه لتبديد المباشرة التي قد توجد هنا أو هناك، وقد نجح حسّاوي في إثارة القارئ حتى نهاية العمل، رغم أنّ النهايات بدت مفتوحة؛ فلا نعرف ماذا حصل لفريدة فيما بعد، ولا لزوجها الذي قضى بقية حياته في العجز والكراهية. لا نعرف إن كان الدكتور عزام قد مات في كندا أم في باريس أم أنه شفي، وماذا سيحصل لجوليان وسارة اللذين غرقا في العشق. هل ستعود كلودين من باريس، التي ذهبت إليها في آخر الرواية لحضور جنازة "موريس" زوج شادن، للقاء عمران من جديد؟. لم تكن هناك نهاية لأي شيء؛ سوى أن عاصم مات وكذلك موريس، بينما لن يتغيّر شيء بالنسبة لجائزة نوبل للسلام ولدب الباندا الذي سيبقى مهدداً بالانقراض.

في الرواية يوجد راوٍ واحد، وهو لا يروي وفق نظام معين؛ فخلال الفصول السبعة نجد أنه ينتقل فجأة من مكان إلى آخر، ومن زمن إلى آخر. وعندما يكون مع شخصيّة معيّنة نجد أنّه ينتقل إلى حكاية أخرى من دون إشارات أو تمهيد. ومع ذلك فإنّ هذا الانتقال المفاجئ لا يُمكن النظر إليه بشكل سلبيّ.  

رواية "الباندا" لراهيم حسّاوي تستحق الاحتفاء بها، وهي تُعطي ارتياحاً بأنّ روائيّاً سوريّاً جديداً ينضم بكلّ ثقة إلى المشهد الروائي السوري.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.