}
عروض

بلاغة الكتابة في "إلى أين تأخذني أيها الشِّعر"

محمد العناز

22 مايو 2017

يضعنا ديوان الشاعر العربي، شوقي بزيع، الصادر عن دار الآداب البيروتية، في موقع السؤال المخاتل الذي يعمل على تجسيم صيرورة غير مكتملة داخل وعي الأنا الشعرية - الغنائية بما تتمتع به من ممكنات تعبيرية داخل مساحات هذا الوعي الشعري المفارق باعتماده الكتابة عبر النوعية التي أشار إليها إدوارد الخراط بوصفها كتابة صعبة، وليست متاحة أو قريبة؛ ذلك أنها تتضمن إشكالات كلاسيكية في نسيجها الداخلي، وتشتمل عليها، وتتجاوزها وتحتويها في الوقت نفسه لتخرج عنها؛ وتعمل هذه البلاغة بموجب الانفتاح على الأجناس الأدبية (قصة مسرح رواية شعر..)، وغيرها من الفنون الأخرى المجاورة (التشكيل، والصورة الفوتوغرافية، والنحت، والسينما، والموسيقى..)، وبموجب الانفتاح على "التفرقة الصارمة بين الفوضى والحرية، بين الإبداع والتخبط".

إن تشييد بلاغة الكتابة في ديوان "إلى أين يأخذني هذا الشعر" يستمد جمالياته من التوسطات الرمزية؛ أي من الإقامة في المسافة الفاصلة بين المعنى الملتبس والواضح، والرهان على تلاعبات الشاعر الذي يدفع بالقارئ في هذا الديوان إلى إنتاج النص؛ ومن ثمة، تصير هذه البلاغة التي تجترحها الكتابة الشعرية في هذا العمل لا تقف عند التبليغ أو الحجاج، وإنما ترتبط بالتواصل وبصناعة المعنى وتعدده، وجعل القارئ منتجاً ومشاركاً في إنتاج النص.

يتضمن ديوان "إلى أين تأخذني أيها الشعر؟" ثلاث عشرة قصيدة، وهي على التوالي: دوَّامة، وإلى أين تأخذني أيها الشعر؟ ومَنْ يُهدي الحياة إلى طراوتها؟ ولمن يكتب الشعراء؟ وطني ريشتي والقماشة منفاي، وحدائق خوان ميرو، ورباعية لمصرع غارسيا لوركا، وسبعة وجوه للانتحار، ورقصة سالومي، ولا صيف يضاهيها انكسارا، وعزلة الخادمات، والتوقيت الشتوي، ومسنُّون. وتقام شعرية كل هذه النصوص- التي تفجر حدود الجنس الشعري من خلال التعالقات المنصهرة داخل الخطابات الثقافية المضمرة فيه - وفق صوغ جمالي تؤشر عليه رؤية بصرية لا ترتبط باستعادة ذاكرة الشاعر وحاضره ومستقبله فحسب، بل تقوم أيضاً على البحث في الشعر نفسه بوصفه معادلاً موضوعياً للصراع المرير في اللغة ومعها في الآن نفسه عبر وسيط التخييل الشعري المفتوح، وتضاريسه المتحركة غير الثابتة تبعاً لسلطة قوية لا تستطيع الأنا الشعرية مجابهتها إلا بالسؤال بوصفه علامة دالة على القلق الشعري الذي تعيشه هذه الأنا- التي تحكي حكايتها مع الشعر، ليتحول الديوان برمته إلى وطن للشعر، وليس للقصيدة فحسب؛ من هنا يمكننا أن نطرح سؤالاً مفاده: إلى أي مدى يمكن أن يصل إليه الحكي في الشعر؟ وهل عثرت الأنا على ذاتها خلال رحلة البحث عن محطة قارة يمكن أن يصل فيها الوعي الشعري إلى ممكناته القصوى؟

إن الوعي بسؤال الكتابة وبلاغته في هذا الديوان يحضر من داخل التخييل الشعري نفسه، ويعد مشكلاً لبنيته، وغير منفصل عن العالم الذي يمثله. يقول الشاعر في هذا النطاق: "... وحين مشيتُ على طرف الخيطِ/ بين القنوط وبين الأملْ/ قلتَ لي: ينبغي في معادلة المحو والامتلاءِ/ بأن تخلع النفس كاملةً/ فالكتابةُ ليست سوى امرأةٍ/ لا تريد أقلَّ من الموتِ/ مَهْراً لها/ فأخسر العيش كي تربح الكلمات". تكشف الأنا الشعرية-الغنائية في هذا المقطع عن دقة الرؤية المرتبطة بالمشي على الخيط بوصفه شكلاً من أشكال البحث عن الخفة التي تفتقدها الذات في سياق الواقع الذي تتأرج فيه ما بين الثقل الذي يمثله القنوط، والخفة التي يمثلها الأمل. وهي ترصد بهذا الصوت الخفي الذي يوجه الرؤية إلى الكون داخل نقص العالم، وعدم كفايته، بوساطة استخدام حوارية تغرف مما هو درامي، وعبر استغوار الذات من خلال عمليتي المحو والامتلاء بغاية بناء عوالم خاصة بها. 

ولا تبنى هذه العوالم إلا بمقتضى وعي شعري كتابي تكون فيه النفس أقدر على أن تتجدد بتجديد رؤيتها إلى نفسها الحائرة وإلى العالم من حولها؛ ومن ثمة تصير الكتابة فعلاً لمقاومة المحو عبر رمزيتها في إعطاء معنى للعالم وللفراغ الذي تعيشه الأنا الشعرية - الغنائية وهي تصارع بشكل مرير لغتها المتمظهرة في شكل امرأة تجعل من الموت شرطاً لتحققها الذي يفضي إلى الخلاص الوجودي من ثقل الجسد، وما يرافق هذا من استعداد هذه الأنا لكي تخسر ما تبقى لها داخل المجتمع؛ لأنها ترى في الشعر كينونتها وحيواتها المؤجلة. وهو ما يؤشر عليه أيضاً هذا المقطع الآتي: "كلما عصف البوارُ بزهرة/ لا يتّقيها بالكتابة/ بل يحلُّ محلَّها" (ص30)؛ فالموت هو الذي يمكن أن يجعل من محنة انتظار اليد الملائمة لقطفه من الجنة جنة. إن التمييز بين الرمز بوصفه تعدداً في المعنى، كما حدده بارت في كتابه "نقد وحقيقة"، وبين الرمز بعدّه إشارة إلى أثر ذي صبغة تأويلية ينبثق من محتمل المجتمع؛ فالأمر يتعلق في الفهم الأول بالحفر في / عن طبقات، ويتعلق في الفهم الثاني بمخلفات. وإذا كان الدفق الشعري يمرر في هذا الديوان عبر حبكة بسيطة، فإن الأنا الشعرية-الغنائية تتقنع فيها بوساطة رمزية تعددها بتعدد أسمائها "وأنا أكتب الآن هذي القصيدة..خلف أسماء مجهولة" (ص31). 

ويتجلى هذا التقنع بخاصة في قصيدة "سبعة وجوه للانتحار" التي يترجم فيها تعدد الأنا عبر درامية تمس ذاتية الشاعر من جراء اشتغال ثنائية الامتلاء والمحو الذي يهدد الوقائعي. وبالتالي تصبح الأنا عاجزة عن تحقيق ممكنها، لأنها مرتبطة باليومي وتفاصيله وهوامشه وزمنيته، وفاقدة الثقة في أدواتها داخل النص وخارجه. يقول الشاعر: "شاعرة الظلال أنا/ وأنا، مقارنة مع الأشجار/ لم أرغب بغير يد/ تمرِّر فوق صدري دفءَ ملمسها/ وترعى بالتفتُّح برعميْ نهديّ/ لم أرغب من الرجل الذي أحببتُ/ إلا أن أُحَبَّ كما أُحِبُّ" (ص81-82). 

يتراجع الحنين في هذا المقطع عبر التواري والاختباء بفعل الخيبات المتعاقبة التي تستعيدها ذاكرة الأنا، وفشلها في النسيان، بل واستحالته. هل كانت الأنا الشعرية- الغنائية ترغب في أن تفكك إشكالية المراوحة بين مساحات التضاد بوساطة الكتابة؟ أكيد أن الأمر كذلك، لكنها وجدت نفسها في مواجهة انسداد العبارة التي تتوسل بها. يقول الشاعر: "لن تفهموني، قال مبتسما/ لأني لستُ فيَّ/ لكي تروا أسفي على ما لم أَكُنْهُ/ ولستُ في غيري/ لأُعفيني من الجريان نحو حقيقتي/ ما كان ينقصني هو التجوالُ/ في أبدية أخرى/ أحرِّر في مراياها جمالي النرجسيَّ/ من الجلوس أمام صورتِهِ/ لذا وحَّدْتُ ماء النهر مع لغتي الغريقةِ" (ص91). إن هوية الذات- هنا- لا تتحق إلا خارج معادلة (أنا- الغير)، وحتى يحدث هذا ينبغي تلقيح اللغة بماء النهر؛ مما يجعل التحول الذي يوازي الجريان هو الممكن لحكي تكون فيها الذات هي نفسها. 

ولا يعني هذا عثوراً مريحاً على الذات؛ فهي على الدوام في مواجهة الخذلان الذي هو جوهر اللغة التي ليست في نهاية المطاف سوى القصيدة. يقول الشاعر: "وتخذلُني كعادتها القصيدةُ/ لم يكن أحدٌ يشاطرني براءتَهُ/ سوى النيران/ تنهض من رماد أنوثتي/ كيما أبادلها امِّحاءً خالصا/ من كل شائبةٍ/ وأولدَ من دخاني" (ص90). ومن ثمة لم يعرف الشاعر كيف يؤبد اليأس بوصفه أداة تجعل الحنين نفسه محتوى للزمن، وليس وسيلة للتوليف بين ذاتيته أو موضوعيته... لم يكن قادراً على التشبه ببطل رواية ألبرتو مورافيا "1934" الذي حول اليأس إلى تعلة للحياة، وتعلة لحل معضلة ازدواجية الواقعي والوهمي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.