}
عروض

"يكفي أننا معًاً".. الحياة ليست سوى دهشة جديدة

هشام أصلان

20 مايو 2017

 

المحظوظون وحدهم ستفاجئهم الدنيا بدهشة جديدة، وربما دهشات متكررة، بعدما كانوا ظنوا أن الحياة استقرت سيرًا على خط مستوى الإيقاع. هؤلاء الذين تُتاح لهم رؤية مغايرة لفكرة الاستمتاع، ربما تأتيهم المغامرة فيخشون معها ضرب ما وصلوا إليه من استقرار، قبل أن يكتشفوا أن هذا الاستقرار في مفهومه التقليدي لا يليق، في أحيان كثيرة، بحياة واحدة يعيشها الإنسان.

تطرح الرواية الجديدة للكاتب المصري عزت القمحاوي، "يكفي أننا معًا ـ الدار المصرية اللبنانية"، أسئلة إنسانية تبحث في حقيقة النفس البشرية، عند تلك المنطقة الخاصة بطبيعة علاقات المُحبين كأحد أشكال العلاقات بين البشر.

هنا محامٍ تخصص في قضايا العلاقات الزوجية، تحديدًا تلك التي ترفعها النساء لتنفصل عن زوج لا يريد الانفصال السلمي، أو لتبحث عن ميراث، أشياء من هذا القبيل.

الرجل الذي يفتقر لمعايير الوسامة المعروفة لا تبتعد عنه الكاريزما الشخصية، بين زملائه أو أمام القضاة في ساحات المحاكم. وهذا الذي لا يسعى وراء النساء، لا تفوته امرأة مُتاحة، تريده أو تستسهل دفع المقابل جسدًا، لا بأس من ليلة. لمَ لا؟ وهو الذي تجاوز الخمسين على الأقل ولم يتزوج، قاضيًا سنواته في رعاية إخوة صغار.

تلك الحياة التي يبدو عليها مساحة من النجاح والاستمتاع بالعمل والفعل اليومي، ستنقلب رأسًا على عقب بفتاة عشرينية ممرورة بالفقد، قررت أن هذا رجلها. ليست فتاة عادية. هي ابنة للانطلاق والسفر والقراءة، والغواية. وهو، الذي يحب القراءة والموسيقى ويتحدث بسهولة عن كلاسيكيات الأدب وكُتّابه، لن يستطيع المقاومة. ولمَ يقاوم؟

ليالِ قصيرة، قبل أن تواجهها مشكلة شعوره بالحرج من المدينة بأكملها، وأداء رجل يخشى تهمة التصابي، لتقرر أخذه إلى مدينة أخرى، تتحمله ويتحملها حيث لا أحد يعرفهما، ولكن عليها أن تختار إحدى تلك المدن التي خبرتها جيدًا، ربما يساعدها الاختيار في ضبط صيغة يذهب معها عقله ويأتي قلبه منفردًا.

من هنا، وفيما تتصور أنك أمام عمل رومانسي تقليدي مع الصفحات الأولى، ستكتشف سريعًا أنك أمام رواية مكان بامتياز. جولات في ساحات روما، حفلات موسيقى داخل كنائسها: "أجمل وظيفة لدور العبادة"، يقول. حدائق فيها جداول ماء، وحظائر طواويس، أعمدة وأقواس ضخمة من عصر النهضة، معلومات لا تتوقف، وإن أتت بانسيابية، حول شخوص تاريخية، فنانين ولوحات وتماثيل، فيلّات مفتوحة للزيارة تصلح ردهاتها لخطف قبلة. بولين بورجيزي وتمثالها العاري، برنيني وتمثال "اغتصاب بيرسفوني"، كالفينو ومدنه اللامرئية: "منذ وصولنا لم أنظر إلى الأرض"، يقول. "نعم، روما ترفع الرؤوس"، تُجيب.

يبتعد عزت القمحاوي بحكايته اللطيفة عن الصعود بالقارئ إلى معركة الكاتب مع تقنيات السرد واللغة، أو هكذا يبدو على الأقل، مواريًا تعب العمل خلف سطور رشيقة، لتأتي الرواية شبيهة بحديقة هادئة، وكتابة تأخذك في رحلة خفيفة، وفاصل من الاسترخاء المُحبب. عزف منفرد، لم يغوه الزخم الحاصل مؤخرًا حول معارك انتقال سؤال الأدب من مرحلة إلى أخرى بسبب ما يعانيه الواقع العربي من أحداث، وعودة كثيرين لطرح القضايا الكبرى تحت مسميات جديدة، والعمل بأدوات بات معروفًا أنها جذّابة لمعايير جوائز أدبية غيرت كثيرًا في خريطة وشكل الرواية العربية الجديدة.

محظوظ ذلك الكاتب الذي أدرك عدة مستويات للتلقي. بشيء من مجهود الناشر، ربما تستطيع هذه الرواية، بسهولة، الوصول إلى جمهور "البيست سللر"، غير أنها في والوقت نفسه، لا تستسهل تقديم حكاية مشوقة وجذابة دون طرح بعض المعاني والأسئلة. أنت تستطيع تلقيها في طريق الاستمتاع بمشاهد الحب في الساحات والحدائق الجميلة والمطاعم ذات النكهة، وفي السرير أيضًا. تستطيع الوقوف عند الحرج التقليدي والغيرة الصعبة لرجل يحب فتاة تصغره بكثير. غير أنك، بمستوى آخر للتلقي، ربما تستوقفك بعض الأمور المتعلقة بطبيعة النفس البشرية، وأدائها الذي، في كثير من الأحيان، يبدو قاسيًا، في التعامل مع مجريات الحياة.

الكاتب لن يخدعك ويصوّر لك فتاة ضربها الحب ومرآته العمياء، لن تضحي لوقت طويل، ذلك أن هذه النفس البشرية، في أفضل أو أسوأ أحوالها، لن تخادع ذاتها وتصرف نظر عمّا أملت فيه من متعة. ستتعاطف معه كثيرًا عندما يبدأ في الشعور بحرقان شديد في المؤخرة، ومرض يمنعه من استكمال جولاتهما في المدينة الإيطالية التي انتقلا إليها من روما، لكنها، طبعًا، سوف تستجيب لطلبه أن تذهب للتجول وحدها حتى لا تضيع رحلتها هباءً. مهلًا، لن تنتظر كثيرًا. مع الجولة الأولى سيبهرها رجل آخر. ستعود لحبيبها الكهل بحكاية عن ذلك الشاب الإيطالي في محل العطور. حكاية سيفهمها سريعًا من دون صدمة، وإن كان بشجن كبير.

في هذه النهاية المفتوحة بانفتاح ساحات روما وحدائق كابري، سيرى بعضهم نهاية تحمل شيئًا من القسوة، في قصة حب أفسدتها الطبيعة الإنسانية المتطلعة لمتعة أكثر. ربما تتعاطف مع كهل انساق وراء ابنة صغيرة للحياة، غير أن سؤالا أكبر ربما يغير النظر للأشياء، حول معنى الفشل والنجاح في قصص الحب. هل حقًا هناك قصة حب فاشلة؟ كيف تتوج بالنجاح إذن؟

في عودتهما، لن يتجاهل شرودها في نافذة القطار العائد من كابري إلى روما: "تنتظرينه؟ لا تقلقي، سيأتي في اللحظة الأخيرة، لتتحقق أمثولة كابري". وفي صمتها وإشاحة وجهها نحو النافذة مجددًا، كان ردّها بليغًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.