}
عروض

"كلّ المعارك" لمعن أبو طالب: رواية الألم الشخصي

ضمن مشاهد عن مباريات لعبة الملاكمة، يسرد الأردني معن أبو طالب في عمله الروائي الأول "كلّ المعارك"، حكاية (سائد)، الرجل المتأرجح بين عوالم مختلفة، عالم المال والتأمّل ومن ثم الانهماك في الملاكمة، كفعل يحتاج إلى تأمّل أو غوص في عمق التأمّل إن جاز التعبير.

 

الرواية؛ الصادرة عن الكتب خان (القاهرة- 2016)، ومن إنتاج "محترف نجوى بركات" بمنحة مقدّمة من "آفاق"، تتوسّد حكاية اليوميّ، إذ تغوصُ في العالم الداخلي المتناقض مع العالم الخارجي، ومحاولة الابتعاد عن قوالب الرواية التي تتحدّث عن قصص حبّ أو غوص في المسائل الأخلاقية، حيثُ يعتمد الراوي على الدقّة اللغوية في نقل المشاهد كحركات سينمائيَّة تولِج القارئ إلى عالم السرد، وكأنّه (أي القارئ) دخل إلى عمق حكايةٍ، أو كمن يقول لنفسه، مع المضيّ في السرد سوف أتعرّف أكثر إلى شخصية البطل (سائد حبجوقة) الملاكم والعامل في مجال الإدارة.

يمضي سائد ليلته الأولى منذ افتتاح الرواية بالبحث عبر الشبكة العنكبوتية عن أفلام الملاكمة، أو مقاطع فيديو ليتعثّر بآفات العالم الحديثة، قتلى وجرحى وعصابات مافيا وكوارث، وبطريقةٍ سرديَّة تعتمد على الدقّة يذكر الروائي كل ما مرّ به العالم ويمر به خلال بضعة أسطر، هذا الكشف الحياتي المتعدّد ضمن الرواية يتيح للقارئ التخفّف قليلاً من وزر قراءة الروايات التي تمتدّ إلى ما لانهاية له من الأفكار المجرّدة، والتوغّل أكثر في الحياة اليوميَّة لبطل رواية ملاكم، أو ربمّا "غاوي" ملاكمة.

 

 رواية المكان

 

تعتبر "كلّ المعارك" رواية المكان بامتياز، رواية عمّان بتفاصيلَ دقيقة، حيث المكان حاضراً والشخصيات العمانيَّة بتفاصيلها اليومية حاضرة من دون مواربة، هذا الخطّ السردي ينكشف من خلال اللهجة العاميَّة المستخدمة في حوار الشخصيات بالإضافة إلى الحوارات المعتمدة على البساطة اللغوية وكأنّك تتابع مشهداً ما عبر شاشة تلفاز، من خلال صوت الراوي المختفي، الأمر الذي يجعل من الرواية، رواية البحث عن الإنسان الحقيقي في زحمة المدينة واستهلاكيتها المريرة، فــ(سعد) و(أسيل) و(دينا) و(سائد) "شخصيات الرواية"، هم الأشخاص الذين يتّسمون بحقيقيَّة يومية تتجلّى للقارئ في الزمن الرّاهن كما هي بالفعل، أشخاص من لحمٍ ودمّ إلّا أن الأقدار شاءت أن يكونوا بين دفّتي كتاب، شخصياتٌ حقيقيَّة تم اعتقالها في عالم الورق! حيث الأفكار تتلوّى، والأحداث اليومية تتداخل مشكّلةً عبقاً، دون أي استعراضٍ لغويّ، أو "دفعٍ" للرواية نحو مستودعات وخزائن اللغة العصيَّة على الفهم أو التخيّل، كل شيء يدور في فلك اليوميّ البسيط، لا تكاد الابتسامةُ تفارق شفاه القارئ لحظات القراءة، حكاية ملاكم، هكذا فقط، ينطلق معن نحو أماكن قصيَّة لم يعتد قارئ الرواية العربيَّة أن يجول ويصول في مثل هكذا عوالم مكانيَّة، الروايةُ إذ تجرّ القرّاء نحو الاستكشاف أكثر، حتّى مع نهاية الصفحات الأخيرة للعمل الروائي، إحساسٌ ما بالمكان دون قتامةٍ أو دراما أو حتى إعلاء شّان، كل شيء على طبيعته، كل شيء على ذات الوتيرة من الحياة اليومية المتشابهة في كل العالم العربيّ، موظّف الوكالة الناجح في عمله.

 

 

 مشاهد العنف اليوميّ

 

لا تخلو الرواية من المشاهد اليوميَّة العنيفة، سواءُ تلك المفصَح عنها أو الموارَبَة، كل ذلك بتقنيةٍ كتابيَّة جديرة بالاهتمام، وتسترعي الانتباه فعلاً، التأّمل في معنى إيصال الفكرة عبر الكلمات البسيطة، والمفردة التي لا تحتمل التأويل، المعنى جليَّاً، ثمّ الاتّكاء على أن تكون الرواية، روايةً وصفيَّة تصويريَّة تكاد تصل إلى الكمال والأمانة في نقل المشهَد المتخيَّل، أو ربمّا، لا، المشهد هكذا قد حدث بالفعل يوماً ما مع البطل أو مع الشخصيَّات البقيَّة داخل عالم الرواية، هذا الوصف للألم خلال تلقّي وضرب اللكمات داخل حلبة القتال، بالإضافة إلى العلاقات اليومية المتشابكة التي تُصوَّر وفق طريقة سرديَّة أقرب إلى الواقع المعيش منها إلى السرد الخياليّ الفارغ الذي يفتقر إلى عناصر لتحفيز القارئ على المضيّ في الرسم بدماغه.

المشاهد إذ تتالى، 27 لوحةً/ مشهداً، جالبةً أجواء الحميمية والرأفة داخل العمل المكتوب برويَّة وتأنٍ على الرغم من أنّ النهاية أتت غير مكتملة، أو ربما فعل الروائي ذلك لنحدّد نحن القرّاء النهايات التي تحلو لنا ولخيالنا.

 

 الضربة القاضية

 

تسرد الرواية، مراحل بطلها المختار في لعبة الملاكمة، عبر سرد نزالاته الناجحة، ولذة الضربة القاضية التي تُنهي النزال فوراً، ويرفع الحكَم ذراع المنتصر، وعبر الدقّة في وصف حلبة الملاكمة أثناء قراءة (الكابتن) المشرف على سائد لمزايا الحلبة الجديدة، الأمتار وارتفاعات الحبال الأربعة التي تحيط الحلبة، ملعب الرواية والراوي، ملعب البطل في اختيار انتصاراته أو هزائمه، الانتقال من مرحلة الملاكم الهاوي إلى المحترف ومن ثمّ التفكير في المبالغ المالية التي من الممكن أن تقدّم في حال الفوز.

ربّما يمكن تذكّر رواية الياباني (ياسوناري كاواباتا) الموسومة بــ(أستاذ لعبة الغو) التي تتحدّث عن أجواء مباريات لعبة الغو اليابانيَّة التي تشبه الشطرنج إلى حدٍ ما، سرد الحالة النفسية للاعب والاستمرار في تدفّق السرد بحيث يغطّي الحياة الشخصية كما يفعل معن أبو طالب في روايته  "كل المعارك" ولكن بصياغةٍ عربيَّة، هذا المزج ما بين أن تكون الرياضة، والملاكمة تحديداً، عالماً كاملاً لروايةٍ عربية، حيث لم يسبق وأن تحدّثت رواية أخرى عن عالم الرياضة متداخلةً مع اليومي، هذا الانتقال من عالم الرياضيّ أثناء النزالات ومن ثمّ إلى اجتماعات العمل وإلى حكايات الشخصيَّات المتواجدة في العمل تخلق نوعاً من الأريحية -إن أمكن التعبير- لدى القارئ، رواية تنسخ حياة كل قارئ، ولا تنفكّ تدعو إلى التأمّل من خلال الاغتراب الذي يضرب الشخصيات كلها داخل الرواية، الاغتراب الناتج عن الحياة الاستهلاكية الرتيبة، وحيث كل أمرٍ سلعةٌ مهما كانت درجتها في سلّم الأخلاقِ عاليةً.

 

 العالم الذاتي للملاكم

 

تضجّ الروايةُ بكامل تفصيلاتها بسطوة العنف، كمعنىً لإفراغ الشحنات الانفعاليَّة، هذا ما يفعله (سائد حبجوقة) تنفيذي استراتيجيات التسويق داخل وكالة والملاكم الذي يعتبر حلبة النزال عالمه الوحيد للتعبير عن ذاته، كل ذلك بنبرة روائيَّة تكاد تصل إلى استعمال الكلمات بدقَّة عالية للتعبير عن المكنون المًراد الإفصاح عنه.

البحث الدؤوب لــ (سائد) الملاكم عن طقوس خصومه في الرياضة، والعمل على فهم ما يمكن أن يكون نقطة ضعف أو قوة لديهم، لأنّه في الملاكمة: "الخطأ يعني أن تُلكم في وجهك، وإن كان خطأً كبيراً، أن يُكسر حنكك أو ضلعك أو أنفك، أو أن تصاب بارتجاج في الدماغ، هاوياً كنت أم محترفاً" أو كما في مكانٍ آخر من الرواية: "إنّ من بين الألعاب كلها، رياضية أو غيرها، فالملاكمة هي اللعبة الوحيدة التي يمكن فيها قتل الخصم والذهاب إلى البيت وأخذ شاور ساخن بعدها كأنّ شيئاً لم يكن!"، هذا التصوير الدقيق للعالم الذاتي لملاكم يودّ أن يتفرّغ كليَّاً بغرض معرفة خصمه عن طريق لغته وحواره وأسلوب تسديده للكمات.

تؤكّد رواية (كل المعارك) أن لا مواضيع بعينها /قيميَّة/ جماليَّة/ يمكن الاتّكاء عليها وحدها للخوض في السرد، فثمّة مواضيع جوهريَّة أُخرى تُستقى من اللامعقول واليوميّ البسيط والمعجونةِ بالألم الشخصي، ما يمكن أن يكون إضافةً جديدة لعالم الرواية العربيَّة في ظلّ الرتابة المسيطرة، وربمّا من بين الجمل الأخيرة داخل الرواية ما يفصح عن العبث الذي يحيط بالحياة عندما يقول (سائد) للكابتن: "بسيطة يا كابتن. فيش حدا فاهم إشي!".

  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.