}
عروض

"ثقوب واسعة" لفاتنة الغرّة: شكوى الروح والجسد

عارف حمزة

18 ديسمبر 2017


تُهدي الشاعرة والصحافيّة الفلسطينيّة، المقييمة في بلجيكا، فاتنة الغرّة كتابها الشعري الجديد "ثقوب واسعة"، الصادر حديثًا عن دار المتوسط في إيطاليا، إلى "روحي وجسدي/ مَن علّماني الكثير من الأسرار". وهو سيبدو مدخلًا مُفرحًا لقارئ هذا الكتاب، ولكنه سيعثر على تلك الشكوى، أو الشكاوى، التي يُعاني منها أحدنا روحيًا وجسديًّا. سيبدو الأمر عند فاتنة أكثر إيلامًا كامرأة كاتبة. الشكوى هو العنوان الرئيسيّ الذي يُمكن وضعه براحة على القصائد الذاتيّة في هذه المجموعة، بدلًا من التقسيم الذي أجرته الكاتبة للكتاب إلى قسمين هما: كتاب الروح. كتاب الروح والجسد.

المرأة هنا حاضرة بكلّ تقلباتها ومزاجيّتها وفطريّتها وطفوليّتها وحتى شكواها العاديّة إذا لم تجد شيئًا تشتكي منه. ضمن هذا المعنى تكتب فاتنة عن انتظار الحب الذي لا يمرّ ولا يأتي، وعن انتظار الموت متخذة في انتظاره عدّة أنماط من النساء إذا جاز التعبير، وعن الرجال الذين لم يمرّوا على ذلك الجسد المنتظر والشبق، وحتى عن "العادة الشهريّة" التي قد تسبب ألمًا مبرّحًا لكثير من النساء. بهذا المعنى تعتني فاتنة بتلك الأنماط، أو الشخصيّات مثل العاهرة والراهبة والسجينة في العادات والتقاليد والعاشقة والزوجة التي تريد أن تقوم بواجبها على أكمل وجه في ليلة الجمعة، وتُحاول إيصال شكواها من خلالهم.. ومن الواضح أنّ تلك الشخصيّات تفتقد الحبّ وتقوم بواجبها التي تمّ تلقينهنّ ذلك في انتظار تلك الأدوار؛ فالعاهرة لا تعطي الحبّ ولا تتلقاه، بل تمارس عملها الأبديّ فحسب. "كما تتهيّأ عاهرة، سأتهيّأ له/ تُضي شقّتها بالأحمر/ تُرطّبُ جسدها/ تمسحُ عنه ذكرى رجال لم يمرّوا/ تُعطّره بخليط من روائح رخيصة/ منتظرة على حافة الباب/ بكافّة مهاراتها وخبراتها/ اللحظة التي يدخل فيها/ لتفتحَ سحّابَ بنطاله، وتبدأ العمل". فمن ورود جملة: تمسح عن جسدها ذكرى رجال لم يمرّوا، وكذلك جملة: تبدأ العمل، نعرف أنّ الحبّ لم يمرّ وربّما لن يمرّ. بهذا المعنى اشتغلت فاتنة على نمط الزوجة "المُطيعة" التي تعلّمت من الأهل معنى العيش بلا حب، حيث نجد نفس المصير المؤلم ينتظرها في بيتها وبين أولادها. "سأستقبلُ الموتَ، كما يليق بزوجة/ تُنظّفُ البيت ليلة جمعة، من شقاوة الأولاد/ تأخذ دوشًا/ تُليّف جسدها مما علقَ به من روائح الطبخ/ تضعُ كحلًا خفيفًا، وأحمرَ شفاه ورديًّا/ ترتدي بيجامتها المريحة/ ترقدُ في منتصف السرير متهيّئة/ لأداء الواجب".

تصفية حساب مستمرّ

مع رجل لا يُسامح

تبدو هذه الشكوى وكأنّها شكوى شخصيّة فحسب، عندما نقرأ قصائد المجموعة التي توزعت على تسعين صفحة تقريبًا، وخاصّة مع تقسيم الكتاب في دلالتيه الواضحتين، ومع وجود قصيدة تحمل عنوان "أنا غريمتكَ" التي تبدو مثل تصفية حساب مستمرّ مع رجل لا يُسامح وحياة بلا رحمة. حيث تقول في مقطع منها: "أعوي في وجهكَ، وعليك/ أعوي على الحياة/ تلك الكلبة/ لن أتوقّفَ عن العواء/ عن ركل الهواء والشتائم/ حتى تطلّ عليّ، وتخبرني/ لماذا عجنتَ قلبي في هذا الإناء المخروم/ وتركتَ كلّ هذه الفتحات تنخرُ فيه/ كمعبرٍ لتهريب البضائع التالفة". ولكن مع تكرار هذه الشكوى، مع اختلاف مذاقاتها ودرجاتها، وتنوع الشخصيّات التي تقول مونولوجاتها، تبدو هذه الشكوى عامّة، أو مكتوبة كي تُعبّر عن آلام الآخرين، أو الأخريات بشكل أدقّ.

  في القسم الأوّل هناك قصيدة فيها الكثير من "السرياليّة" وهي بعنوان "ثِقَلٌ"، وهي نصّ كابوسيّ عن الأفكار التي تدور في الرأس وتجعله منفصلًا عن الجسد وغائبًا عن الحياة. تجعله يُعاني من الأرق والثقل ولا يعود "رأسًا" إلا مع أول خيوط شروق الشمس؛ فيبدو الليل، كلّ ليل، مثل ورشة كاملة وواسعة للتعذيب. "أمسك رأسي بيديّ، وأنظر/ أتأملُ الخيوط الرفيعة/ تخرجُ من بطون الحشرات/ التواءاتٌ، لا تصيبها العين المُجرّدة/ ذيولها الفضيّة الرقيقة/ تخرجُ منها حروف برّاقة/ لمسَتُها تُصيبُك بالذعر/ من فرط النعومة".

في القسم الثاني من "كتاب الروح والجسد" سنعثر على فصائد مختلفة نوعًا ما لصاحبة "ما زال بحر بيننا" (صدر في عام 2000) وامرأة مشاغبة جدًا (2003) و "إلاي" و "خيانات الرب – سيناريوهات متعدّدة". هذا الاختلاف هو في تخفيف حدّة الكابوسيّة، ولكن الشكوى ستبقى؛ الشكوى من الرجال الذين لا يعرفون الحبّ بهدوء وأناة، والحب الذي لا يعرف طريق البيت والمعاناة من العادة الشهريّة في قصيدة مختلفة بعنوان "أحمر".

فقدان الحب

القصيدة التي تبدو محكمة وغريبة هي قصيدة "أيها الحب"، وفيها تتحدّث عن استعمال الطرق العاديّة والغريبة لاستدراج الحب وتكبيله كي يبقى مقيمًا تحت قدميها. الحب الذي يذهب إلى الأماكن الخطأ كي يشوّه سمعته، ولا يذهب إلى مَن ينتظره بسخاء المُقدمين على الانتحار. تقول في مقطع منه: "ماذا أفعل لك أيّها الحب؟/ تخلّيتُ عن تاجي/ درتُ في الأزقة/ بثياب ممزقة وشعر منكوش/ أمدّ يدي للماشين في الطرقات/ لا أحد يراني/ أكلتُ الخراء/ حسب وصفة شعبيّة قديمة/ نمتُ بين الأفاعي/ أرتجفُ من الحمّى/ شربتُ بصاق المجذومين/ بأظافري نزعتُ طبقات جلدي/ و لم يرفّ لك جفن".

في نص "أورجازم" تلعب فاتنة اللعبة ذاتها التي لعبتها لاستدراج الحب، ولكن في هذا النص تفكرّ في عدّة طرق لاستقبال الموت، وفي كلّ هذه الطرق تتخذ دور امرأة مع رجل. هو الجوع الأنثويّ لتعليم الرجال معنى فقدان الحب، أو استعمال الحب كشيء عاديّ وطارئ. 

فقدان الحب في عالم متصارع يجعل الحياة تبدو كابوسيّة هكذا، وتجعل الرقّة مدفونة أو مسجونة تحت جبال من القسوة، هكذا ستجد فاتنة نفسها في أدوار عديدة في انتظار الحب والموت وتقلّبات الفقدان وعدم التفاهم مع سرعة وقسوة العالم، وربّما هذا ما جعل المباشرة والبساطة في بعض الأحيان اختيارًا منها. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.