}
قراءات

"سينما الصورة ــ الزمن" لدولوز 2-2..نحو نظرية لمفاهيم السينما

"ما يشكل هذه الصورة هو الوضع البصري والصوتي الصرف الذي يحل محل الأوضاع الحسية الحركية المتداعية"، عبر هذه الصورة الجديدة يسعى دولوز منذ مطلع الفصل الأول إلى تجاوز الصورة ــ الحركة نحو صورة جديدة، ظهرت مع السينما الحديثة بتياراتها الجديدة في كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية. ومنذ مطلع الجزء الثاني لكتاب "سينما" يعقد دولوز مقارنة دقيقة بين الواقعية القديمة التي استفاض في تشريحها في الكتاب الأول، وبين الواقعية الجديدة المتمثلة في إيطاليا بفليني وأنطونيوني، فعند الأول "لا يطغى المشهد على الواقع، بل لا يكف الواقع اليومي عن الانضواء في مشهد متنقل، وتحل الروابط الحسية الحركية محل تعاقب منوعات خاضعة لقوانين انتقالها الخاصة"، بينما يسعى الثاني، وبصورة دائمة، إلى "استثمار مدهش للأوقات الميتة المرتبطة في تفاهة الحياة اليومية"، وبذلك، ساهمت الواقعية الجديدة بكسر التمايز بين ثنائيات الذاتي/والموضوعي، متخيل/واقعي، مادي/ذهني، عبر اشتغالها على إنتاج وضع بصري "أو وصف بصري" يحل محل الفعل الحركي السائد في السينما الكلاسيكية، فأنطونيوني، ذو الجذر النيتشوي حسب دولوز، لا يفتأ من استبدال المأساة التقليدية "بمأساة بصرية تعيشها الشخصية السينمائية".

على جانبٍ موازٍ، سعت الموجة الفرنسية الجديدة وعلى رأسها كل من جاك تاتي، وجان لوك غودار، إلى تجيير الواقعية الجديدة لمصلحتها، ورغم أنها اختلفت عنها بنقاط عديدة، بيد أنها "استأنفت المسلك السابق فانطلقت من تراخي العلاقات الحسية الحركية (النزهة، التفسح، التسكع..إلخ)، ووصلت إلى صعود الأوضاع البصرية والصوتية" وهكذا حلت سينما المُشاهد (الجديدة) محل سينما الفعل (القديمة). كذلك الحال مع السينما اليابانية، وتحديداً مع المخرج ياسوجيرو أوزو، الذي طور أوضاعا بصرية وصوتية صرفة، وذهب أبعد من ذلك في توطيد العلاقات البصرية والصوتية "أي جعل الزمن والفكر محسوسين ومرئيين وصوتيين". ويفسر دولوز مقتبس أنطونيوني السابق عن أوزو، بأن ما قصده أنطونيوني بالزمن المحسوس عند أوزو هو تصوير الأخير للطبيعة الصامتة والميتة التي تدوم مدة ولها مدى (عشر ثوان تصور المزهرية، ومثلها تصور دراجة هوائية مركونة على الحائط)، المزهرية والدراجة ولوحات الطبيعة الصامتة هي صور صرفة للزمن فـ"الطبيعة الصامتة هي الزمن، لأن كل ما يتغير هو داخل الزمن، ولكن الزمن لا يتغير هو ذاته، ولا يستطيع هو أن يتغير إلا في زمن آخر، وفي زمن لا ينتهي".

لكن كيف لنا أن نفرق ــ في حالة الزمن السالفة ــ بين الصورة البصرية وبين الكليشيه والصورة الفوتغرافية؟ هل يكفي تقليد الكليشيه بسخرية لتجاوزها؟ وهل بإمكاننا تشويش الروابط الحسية والحركية في الصورة السينمائية لنمايزها عن الصورة الفوتوغرافية؟ يجيب دولوز على ذلك بأنه على السينما في سبيل سعيها لتجاوز الكليشيه والصورة الفوتوغرافية أن "تُرفق بالصورة البصرية الصوتية قوة هائلة تختلف عن قوى الوعي الفكري فحسب أو حتى الوعي الاجتماعي، بل قوى الحدس الحيوي العميق". ويعيدنا كلام دولوز السابق إلى النظريات النقدية لأحد أوائل نقاد السينما "نويل بورش" الذي أكد أن الصورة السينمائية يجب أن تقرأ، كما أنها تُبصَر وتُسمَع، ومثاله على ذلك فيلم "قصة حب" لانطونيوني الذي أنشأ في هذا الفيلم "علاقة جديدة بين السرد والفعل" مانحاً بذلك استقلالية للكاميرا قريبة من استقلالية القراءة.

يتصدى دولوز في الفصل الثاني المعنون "مراجعة إجمالية للصور والعلامات" لواحدة من أشد مشاكل السينما تعقيداً وهي مشكلة العلاقات بين السينما واللغة، ويشير إلى أن السينما تشكلت كحدث تاريخي عندما تحولت إلى حكاية، وعندما بدأ ينظر إلى سلسلة الصور هذه "لا بل الصورة الواحدة، واللقطة الواحدة، كأقوال أو بالأحرى كمنطوقات شفوية، وسيجري اعتبار اللقطة كأصغر منطوق حكائي"، وبذلك يعود دولوز إلى بيرس الذي لطالما استند إلى تنظيره السيميائي في (الصورة ــ الحركة)، ويناقش في ذات السياق تنظير الناقد السينمائي السيميائي "كريستيان ميتز"، ويختلف معه حينما يعتبر الأخير أن السرد في السينما هو معطى ظاهر والصورة هي نتيجة لهذا المعطى، بينما يخالفه دولوز بأن "السرد ليس سوى نتيجة صورة ظاهرة هي نفسها، ونتيجة تشبيكاتها المباشرة، وليس معطى على الإطلاق". كذلك يناقش دولوز تنظيرَ سيميائيٍ آخر عن السينما، وهو أمبرتو إيكو الذي أخذ على باولو بازوليني "سذاجته السيميائية"، بينما رد الأخير على إيكو بأن ما سعى إليه في أفلامه هو"أن تكون السينما لغة وأن يكون لها تمفصل ثنائي، أي أن اللقطة تعادل اللفظة (moneme)، وأراد أن تكون الأشياء التي تظهر في الكادر أو "السينمات" معادلة للصوتيمات (phonemes). كأنه بذلك أراد العودة إلى مقولة اللغة العالمية. ولكنه أضاف قائلاً: إنها لغة (..) الواقع". ويبني دولوز هنا على ما قد وصل إليه في (الصورة ــ الحركة)، ويتجاوزه مستنداً إلى بيرس، ومتجاوزا إياه أيضاً، ففي حين يقسم بيرس الصورة إلى واحدية، إثنينية، ثالوثية، يؤكد دولوز أن الصورة/الإدراك هي الصورة "الصفرية"، أي الصورة "بمنزلة الصفر في الاستنتاج الحاصل بناءً على الصورة ــ الحركة"، وتتجلى باقي أنماط الصورة ــ الحركة بأنماط فصّل فيها دولوز في الجزء الأول وهي: الصورة/ الانفعال العاطفي (واحدية) والصورة/الفعل (اثنينية) والصورة/العلاقة (تثليثية). ويستمر دولوز هنا بتناول مفاهيم بيرس محولاً الصورة إلى علامة بمعنى مختلف عن بيرس، فالعلامة عند دولوز "صورة خاصة تحيل إلى نمط الصورة إما من زاوية تكوينها ثنائي القطب، وإما من زاوية تكوينها"، وبذلك تصبح الصورة ــ الحركة وبكل أنماطها المختلفة مادة "لم تتشكل من الناحية اللغوية، مع أنها متشكلة سيميائياً، وتشكل البعد الأول للسيميائية"، وهذا ما يضع دولوز في موضع مختلف عن الوضع الذي اتخذه بعض أهم السيميائيين الذين اهتموا بالسينما كميتز وإيكو.

(مسّلمة)

"هذه هي السينما، الحاضر غير موجود فيها إطلاقاً، إلا في الأفلام السيئة". منطلقاً من المقتبس السابق لجان لوك غودار، يمهد دولوز لعمله على ( الصورة ــ الزمن) متجاوزاً الصورة ــ الحركة، ومشرحاً البداهة التي تكون فيها الصورة السينمائية قائمة في الزمن الحاضر، والحاضر بالضرورة، "لكن ألسنا أمام البداهة الأشد زيفاً؟! فمن جهة لا يوجد زمن حاضر إلا ويهجس بماضٍ ومستقبل"، بيد أن الماضي لا يمكن اختزاله إلى حاضر قديم وحسب، كذلك لا يتعادل المستقبل مع حاضر سيأتي كما هو "فالتعاقب البسيط يؤثر في أزمنة الحاضر التي تمر، ولكن كل حاضر يتعايش مع ماضٍ ومستقبل، وبدونهما لن يمضي هو". وهكذا يبدأ دولوز بتفتيت المسلّمة القائلة بأن الصورة في الزمن الحاضر، تلك المسلّمة التي يرى أنها "إحدى المسلمات الأكثر غلاءً بالنسبة إلى كل فهم السينما". تفتيت دولوز الفلسفي هذا سبقه تفتيت سينمائي قاده أكثر من مخرج أهمهم رينينه وفيسكونتي وويلز وتاركوفسكي، فلقطات الاسترجاع (فلاش باك) عند فيسكونتي ورينيه، وعمق المجال في أفلام ويلز أعطيا الصورة بعداً زمنياً، وأصبح المهم لديهم هو التنقل عبر الزمن أكثر من الانهمام بالحركة الفيزيائية، أما أندريه تاركوفسكي فهو ما فتئ يؤكد أن الأمر الجوهري في المونتاج هو "الطريقة التي بها ينصرم الزمن في اللقطة، هو توتره وندرته، وهو ضغط الزمن على اللقطة".  وهكذا، وبناءً على تصورات المخرجين السابقين للزمن في السينما، لم يعد الزمن تابعاً للحركة بل العكس، "الحركة المتهافتة هي التي تتبع الزمن. وبدلاً من العلاقة: وضع حسي حركي يُنتج صورة لا مباشرة للزمن، ظهرت علاقة غير مرتبطة بالمكان هي: وضع بصري صوتي بحت يُنتج صورة/ زمن مباشرة". بعبارة أخرى، يشير دولوز هنا إلى أن سينما الصورة ــ الحركة أنتجت صورة/ زمن لا مباشرة، بينما سينما الصورة ــ الزمن، تعدتها وأنتجت صورة/ زمن مباشرة، مفرقاً بذلك بين تمثّلين للزمن في السينما: الأول تمثُل غير مباشر ساد الفترة الكلاسيكية للسينما حيث الحركة هي التي تنتج الزمن، والثاني تمثل مباشر الزمن فيه ينتج الحركة.

يعود دولوز في الفصل الثالث إلى برغسون، دارساً الذكرى والأحلام عنده، ومستنداً إلى فكر برغسون في تحليل الصورة البصرية الصوتية، التي حلت محل الصورة الحركية الحسية، ويؤكد أنه ليست الصورة/ الذكرى والتعرف اليقظ اللذين تحدث عنهما برغسون، ليسا هما " اللذان يعطياننا الرابط الصحيح للصورة البصرية الصوتية، بل هي بالأحرى اضطرابات الذاكرة وإخفاقات التعرف". ويُدرج برغسون الصور/ الذكرى والصور/ الحلم، والصور/ العالم تحت خانة الصورة الذهنية ويمايزها عن الصورة الافتراضية التي يسميها "ذكرى خالصة"، بيد أن دولوز يتجاوز برغسون هنا حينما يجمع الصورتين "الراهنة والافتراضية" عند برغسون بصورة واحدة، هي الصورة/ الكريستال، و"هي نقطة اللاتمييز بين صورتين متمايزتين، الصورة الراهنة والصورة الافتراضية، أما ما نشاهده في الكريستال فهو الزمن بالذات، أو شيء من الزمن في حالته النقية، ولا ينتهي التمايز بين الصورتين من التشكل. ثمة أيضاً حالات كريستالية أخرى، حسب طرق تشكلها، وحسب الأشكال التي نراها فيها" لكن كيف تتشكل الصورة/ الكريستال؟ ولماذا كان الكريستالُ الزمنَ أو شيئا من حالته النقية؟ يجيب دولوز على ذلك بأن ما يشكل الصورة / الكريستال هو العملية الأساسية للزمن "فما دام الماضي لا يتشكل بعد الحاضر الذي كانه، بل يتشكل في الوقت ذاته، يجب على الزمن أن ينشطر في كل لحظة إلى حاضر وماض مختلفين في طبيعتهما، أو عليه أن يشطر الحاضر في اتجاهين متغايرين، ينطلق أحدهما باتجاه المستقبل، ويهبط الآخر باتجاه الماضي". ويعطي دولوز أكثر من مثال على الصورة / البلورة، والصورة، الكريستال في السينما، وأبرزها فيلم "المرآة" لتاركوفسكي، حيث يظهر التمثل المباشر للزمن من خلال تقديم الفيلم صورة ــ زمن مباشرة، مقارباً مفهوم البلورة والكريستال الذي يتحدث عنه دولوز هنا.

تحت عنوان "أطراف الحاضر وطبقات الماضي" يدرس دولوز الزمن متابعاً قراءته لمفهوم الزمن عند برغسون، ومن ثم يفرق بين طبيعة صورة ــ زمن غير مباشرة، وبين صورة زمن مباشرة، ويشير إلى لويس بونويل كأحد الطليعيين السينمائيين عندما أخضع الصورة لقوة التكرار والتنوع "فكان ذلك طريقة لتحرير الزمن، ولقلب تبعيته للحركة"، كذلك قدم آلا روب غرييه وألان رينيه صورة ــ زمن مباشرة، أما أورسن وويلز، فتخضع أعماله المقتبسة من كافكا لمبضع دولوز الذي يؤكد أن نجاح ويلز في معالجة نصوص كافكا "يكمن في أنه عرف أن يظهر كيف أن المناطق المتباعدة مكانياً والمتمايزة زمنياً تتواصل فيما بينها، في قاع زمن لا محدود يجعلها متجاورة: وهنا تكمن فائدة اللقطة العميقة، ذلك أن المربعات الأكثر تباعداً تتصل فيما بينها مباشرة في قاع المكان". ويخلص في النهاية دولوز إلى إشكالية الزمن في الفكر، وبعبارة أدق، فقد شكّل الزمن ــ على امتداد تاريخ الفكر ــ أزمة على الدوام لمفهوم الحقيقة، ليست أزمة بسيطة تعني تغيّر الحقيقة حسب الفترات الزمنية، بل أزمة مركبة مرتبطة بـشكل الزمن أو بالأحرى قوته الخالصة، وهي أزمة ضاربة في تاريخ الفكر، يجعلها دولوز موضوع الفصل السادس المعنون "قوة الزيف"، باحثاً عن هذه القوة في الوضع الجديد الذي اتخذه السرد في السينما، ولا يقصد بقوة الزيف الفكرة القائلة بأن "لكل شخص حقيقته"، إنما هي القوة التي تدفع السرد نحو عدم الادعاء بأنه ينشد الحقيقي، فيكف السرد عن أن يكون متوافقاً مع الواقع، إنها القوة "التي تحل محل شكل الحقيقي وتطيحه، لأنها تطرح تزامناً لأزمنة حاضرة غير متمانعة". وذلك ما يتقاطع بشكل كبير مع إعلان بازوليني أن السينما لا تنتج محاكاة للواقع، بل تنتج واقعاً. ويبني دولوز، وبازوليني أيضاً، كلامه السابق على مفهوم إرادة القوة عند نيتشه الذي "أحل قوة الزيف محل شكل الحقيقة، ووجد حلاً لأزمنة الحقيقة، وأراد تسويتها تسوية نهائية لمصلحة الزيف وقوته الفنية والإبداعية". ومثلما حطم نيتشه ثنائية زيف/حقيقة في الفكر، يحطم دولوز هذه الثنائية في السينما، مستشهداً بفيلم ستافيسكي لرينيه الذي حطم فيه الأخير "شكل الحق الذي يوحد الشخصية وينزع إلى مماهاتها" وجعل شخصيته تنطلق من قوة الزيف التي لا تنفصل عن "التعدد الحتمي للشخصية. فاستُبدلت عبارة "أنا هو آخر" بعبارة "أنا هو أنا". كذلك كان الأمر بالنسبة لأورسون ويلز الذي أطلق صورة زمن مباشرة وجعل الصورة تتأثر بقوة الزيف، ولم يقدم شخصيات حقيقية (أو إنساناً حقاً بالمعنى النيتشوي) يسعى وراء الحقيقة ويبني قيمه العليا، ويسميها خيراً، وباسمها يحاكم الحياة. لقد  سار ويلز "على خطى نيتشه، وقاوم باستمرار منظومة الحكم قائلاً: لا قيمة تعلو على قيمة الحياة، الحياة لا تحاكَم ولا تُبرَّر، الحياة بريئة، وتمتلك براءة المصير متجاوزة مقولتي الخير والشر". ويفرق دولوز نهاية الفصل بين السرد المزيّف الذي "يرتبط مباشرة بالصورة ــ الزمن، وبالعلاقات البصرية والزمنية، في حين أن السرد التقليدي يحيل إلى أشكال الصورة/ الحركة، وإلى عدد من العلاقات الحسية الحركية". لكن أين دور الفنان، والسينمائي في سياقنا هنا، إن لم يكن محاكاة الحقيقة؟ يجيب دولوز على ذلك مسترشداً بنيتشه: "يكمن كنه الفنان بأنه خالق حقيقة، لأن الحقيقة لا ينبغي بلوغها أو العثور عليها أو نسجها، بل يجب أن تُخلق".

على امتداد الكتاب، في الجزأين الأول والثاني، ورغم قراءته الفكرية للسينما،إلا أن دولوز لم يناقش علاقة السينما بالفكر حتى الفصل الثامن من سينما (الصورة ـ الزمن)، فبادئ ذي بدء في هذه العلاقة بين الفكر والسينما هو الصورة السينمائية وتأثيرها في الفكر، الصورة التي يرى دولوز أنه ينبغي "أن يكون لها تأثير الصدمة في الفكر، وأن تجبر الفكر على التفكير في ذاته وعلى التفكير في الكل. وهذا هو تعريف السمو بالذات". وليحدد دولوز طبيعة تلك الصورة السينمائية، يمايزها عن الصورة المسرحية بأنها "تنطلق من الخارج نحو الداخل، ومن الديكور نحو الشخصية، ومن الطبيعة نحو الإنسان". ويعود دولوز أيضاً للمسرح لاحقاً حينما يستشهد بأنطوان آرتو وبمناداته بـ"سينما الضراوة" التي بدلا من أن تروي قصة "تطور سلسلة من الحالات الفكرية التي تستنبط بعضها بعضاً كما تستنبط الفكرة من الفكرة". لا يقصد دولوز بالصورة السينمائية، أي صورة سينمائية، بل الصورة السينمائية في السينما المعنية بمعالجة مسألة الفكر، وليست السينما الرديئة (أو الجيدة في بعض الحالات) التي تكتفي بتقديم حالة حلمية للمشاهد وتكتفي بمشاركة خيالية، لأن "جوهر السينما، الذي يختلف عن عمومية الأفلام، له هدف أسمى هو الفكر، ولا شيء غير الفكر وأدائه"، وربما يحضر أمامنا في هذا السياق مخرجون كثر لم يُقدر لدولوز أن يرى أعمالهم ويعالجها كالمخرج اليوناني ثيو أنجولوبولس، والمجري بلاتار.

"أعطني جسداً إذن" هذه الصيغة الفلسفية التي ينطلق منها دولوز في الفصل الثامن، محدداً حضور/غياب الجسد في السينما، وتموضعاته فيها، وعبارة "أعطني جسداً" تعني أن تعتلي الكاميرا جسداً يمارس حياته اليومية بكل تفاهتها، و" بالجسد ــ وليس بواسطة الجسد ــ عقد السينما قرانها مع العقل والفكر". ويأخذ الحديث عن الجسد دولوز إلى المسرح مجدداً، فيناقش التشابك بين السينما والمسرحة، ليس بهدف تقديم مقارنة مباشرة بين السينما والمسرح بل لاستلهام مفاهيم مسرحية وقراءتها سينمائياً، وفي حديثه عن الجسد يقرأ مصطلح بريخت "الغيستوس"، ويجد أنه، أي الغيستوس، لا يحضر في السينما بصيغته المسرحية بل هو الحبل المعقود بين الجسد والفعل كما عند غودار الذي "تتطابق عنده أوضاع الجسد مع مقولات العقل بالذات، والجيستوس هو السلك الواصل بين مقولة وأخرى". من جهة أخرى هناك الصيحة السينمائية القائلة: أعطني عقلاً، ولربما تكون هذه العبارة "الوجه الآخر للسينما الحديثة" إنها سينما ذهنية، تختلف عن الفيزيائية، ومثالها الأشد وضوحا، أعمال ستانلي كوبريك. ومثلما أنتجت سينما "أعطني جسداً" صورة زمن مباشرة، فسينما العقل حدت حدوها وإذا "كانت سينما الأجساد تحيل على الأخص إلى جانب من جوانب الصورة/ الزمن المباشرة، وإلى تسلسل الزمن حسب ما هو قبل وما هو بعد، فإن سينما الدماغ تطور الملمح الآخر، أي نظام الزمن حسب تعايش علائقه الخاصة".

 

مكونات الصورة، يشغل هذا الموضوع دولوز على امتداد الفصل التاسع، ويبدأ بالاشتغال عليه، فيعقد مقارنة بين السينما الصامتة (ليست خرساء ولكنها "ساكتة" فقط كما يقول الناقد السينمائي جان ميتري)، وبين السينما الناطقة، باحثاً عن مكونات الصورة، ومشيراً إلى حضور المحادثة في السينما الناطقة كأساس تتمايز فيه هذه السينما ليس عن السينما الصامتة فقط بل عن المسرح والرواية أيضا، فـ"ما ابتكرته السينما هو التخاطب الصوتي الذي تملص من المسرح والرواية، وهو أيضاً التفاعلات البصرية والمقروءة التي تتطابق مع الخطاب"، لكن يستثني دولوز كتاباً للمسرح والرواية من نتيجته هذه ممن تمكنوا من تقديم محادثة تعي وتفهم ذاتها، كمارسيل بروست في الرواية وناتالي ساروت في المسرح.

 ما هي السينما إذن؟ "السينما ليست لساناً شاملاً أو بدائياً، وليست لغة حتى: إنها تخلق مادة مدركة بالعقل، تكون كافتراض أو شرط ترابط ضروري، وبه تبني اللغة موضوعاتها الخاصة". هكذا يفتتح دولوز فصلة الأخير، الذي تتجلى فيه عمق الرؤية الفلسفية للسينما التي قدمها في كتابيه، إذ يستشرف العلاقة القائمة بين الصورة الإلكترونية والصورة الرقمية التي كانت ما تزل ناشئة وقت كتابة دولوز مشروعه هذا، بيد أنه يشير إلى أمر نقدي معاصر وملح اليوم، وهو أن "الصورة الإلكترونية، أي صورة التلفزيون والفيديو، والصورة الرقمية الناشئة، كان عليها إما أن تحدث تغييرا في السينما وإما أن تبدلها وتعلن موتها". كذلك يشير دولوز إلى العلاقة الناشئة بين الإعلام وجهازه المعلوماتي دائم التطور، وبين السينما التي أصبح بقاؤها مرهونا بـ"صراعها الداخلي مع المعلوماتية" من جهة، ومع الإعلام الكامنة قوته بعدم جدواه الجذرية من جهة أخرى، "فالإعلام يراهن على عدم جدواه كي يرسخ قوته، وقوته بالذات تنبع من عدم جدواه، ومن هنا تنبع خطورته". ويرجع دولوز إلى إجمال الفروق بين الصورة ــ الحركة والصورة ــ الزمن "لكن لا يسعنا القول إن أحدها أفضل من الآخر، أو إنه أجمل وأعمق. كل ما نستطيع قوله هو أن الصورة/ الحركة لا تعطينا صورة/ زمناً".

يسدل دولوز الستار على مشروعه الفلسفي الضخم هذا بتأكيده على أن ما سعى إليه ليس إنشاء نظرية حول السينما، بل طرح نظرية حول المفاهيم التي تثيرها السينما "التي ليست أقل عملية وفاعلية أو أقل حضوراً من السينما بالذات". وبهذا تكون دراسة السينما هذه متسقة مع مسار دولوز الفلسفي الذي لطالما دأب على قراءة المفاهيم الفلسفية، والبحث عميقاً في جذورها المؤسسة لها، مفنداً البدهيات، ومقدماً أحد أضخم الأعمال الفكرية حول السينما، التي لا يتجاوزها الزمن مع كل ما حمله من انفجار معلوماتي.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.