}
عروض

الحرب الباردة عندما تسخن: تدمير بلد ام مسحه؟

محمد م. الأرناؤوط

28 ديسمبر 2017

 ربما مجرد مصادفة أن يصدر كتاب "الحرب الباردة : تاريخ عالمي" للمؤرخ الأمريكي اود آرن وستد في أيلول/ سبتمبر الماضي (نيويورك 2017) ،  ، الذي يكشف فيه سرا بأن الولايات المتحدة خطّطت في 1962 لـ"مسح بلد من على وجه الأرض" (ألبانيا) لتوجه درسا لبلدان الكتلة الشرقية ، في الوقت الذي كان فيه الرئيس الأمريكي يتأهب للذهاب إلى نيويورك ليلقي خطابا في الجمعية العامة في 1/9/2007 يتوعد فيه كوريا الشمالية بـ "التدمير الكامل" .

 صحيح أن الحرب الباردة كانت تشتمل فيما تشتمل على الضرب من تحت الطاولة والضرب الإعلامي الموجّه من طرف إلى طرف والتسابق على السلاح الجديد (القنبلة الذرية والصواريخ) ، التي أصبحت تسمح بالفعل بـ"تدمير كامل" أو "مسح بلد من على وجه الأرض" ، إلا أن الكتاب الجديد للمؤرخ وستد يكشف أن "الحرب"الباردة" يمكن أن تنزلق إلى ما هو حارق ومدمر كما في أزمة كوبا وألبانيا في 1962 .

 كتاب وستد ، النرويجي المولد ورئيس قسم الدراسات الآسيوية في جامعة هارفارد ، يصدر في الذكرى السبعين لصدور أول كتاب في الولايات المتحدة بهذا العنوان (1947) ، مع أن المؤلف يعيد بداية استخدام المصطلح إلى جورج اورويل الذي نشر مقالة له بعد شهرين من إلقاء القنبلة الذرية الأولى على اليابان ("أنت والقنبلة الذرية" ، تريبيون 19/10/1945) يتنبأ فيه بالوضع الدولي الجديد ويصل إلى التصريح في آذار/ مارس 1946 إلى "بداية الحرب الباردة" بين الاتحاد السوفييتي وبريطانيا .

 ومابين هذين التاريخين (1947-2017) صدرت عشرات الكتب عن الحرب الباردة في اللغات المختلفة التي تكشف عن خفاياها وتطوراتها ومآلها ، ولكن يبدو أنه لا يزال هناك متسع للمزيد كما هو الأمر مع الكتاب الجديد للمؤرخ النرويجي/ الأمريكي وستد . وبحكم نشأة وستد في النرويج ، حيث كان أقرب إلى تجربة دول البلطيق تحت الحكم السوفييتي ، وتخصصه في الدراسات الاسيوية نجد أن هذا الكتاب يتميز بمقاربة جديدة تركز على هاتين الجهتين في تطورات الحرب الباردة .

 يبدأ وستد من بدايات ظهور المصطلح الجديد (الحرب الباردة) ودلالالته وتطورات الحرب الباردة التي بدأت مع تكريس "الستار الحديدي" بين أوربا الشرقية وأوربا الغربية في 1946 لتنتقل بعدها إلى أقصى الشرق (الصين) لتعزز الكتلة الشرقية بانضمام بلد مهم إليها( الصين الشعبية بقيادة ماو تسي تونغ) في 1949، ثم باندلاع الحرب الكورية في 1950 كأحد أشكال الحرب بالوكالة ضمن تطورات الحرب الباردة وصولا إلى أزمة برلين في 1961 الذي وصلت فيه الحرب الباردة إلى نقطة ساخنة في أوربا ذاتها .

 ولكن السخونة زادت في الأطراف في فييتنام ثم في كوبا ، التي كانت على مرمى النظر من فلوريدا الأمريكية ، حيث وصلت السخونة إلى درجة اندلاع المواجهة المباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في تشرين الأول / اوكتوبر 1962 بسبب أزمة الصواريخ التي وضعت مصير العالم بين شخصين : خروتشوف وكيندي . وكانت الولايات المتحدة ضمن مفهوم الاحتواء الذي أطلقه السفير الأمريكي في موسكو جورج كينان ، قد أحاطت الاتحاد السوفييتي بأحلاف ونشرت صواريخ جوبيتر  في تركيا التي جعلت موسكو في مرماها ، ورد الاتحاد السوفييتي بنشر صواريخ مماثلة في كوبا قادرة للوصول إلى أي هدف في الولايات المتحدة . ولم يتنفس العالم الصعداء إلا في 28/10/1962 عندما تم التوصل إلى اتفاق بسحب الصواريخ السوفييتية من كوبا والصواريخ الأمريكية من تركيا.

 ولكن ، كما يكشف الكتاب لأول مرة ، كانت الولايات المتحدة في 1962 قد صمّمت على نقل المواجهة من الأطراف إلى أوربا ، واختارت أفقر وأصغر بلد في الكتلة الشرقية (ألبانيا) لتدمرّه أو لـ "تزيله من على وجه الأرض" لتوجه بذلك درسا للاتحاد السوفييتي ! وفي هذا السياق يكشف المؤلف عن حوار دار بين القائد الأعلى للقوات الاستراتيجية في الولايات المتحدة ووزير الدفاع الأمريكي آنذاك روبرت مكنمارا : "آمل أنه لا يوجد لك أصدقاء أو أقارب في ألبانيا لأنه نتأهب الآن لكي نمسحها عن وجه الأرض" . ويتوقف المؤلف هنا عند الطبيعة التبسيطية لادعاءات الحرب الباردة لأن ألبانيا لم تكن آنذاك تدور في فلك الاتحاد السوفييتي بل كانت معادية له ومتحالفة مع الصين الماوية التي صعّدت من حملتها ضد الامبريالية الأمريكية باعتبارها "نمرا من ورق" وأشغلت الولايات المتحدة في حروب جنوب شرق آسيا . ولكن ربما كان اختيار الولايات المتحدة لمسح ألبانيا بالذات "من على وجه الأرض" يحمل رسالة مزدوجة إلى الصين والاتحاد السوفييتي . فقد كان الألبان (الذين كان عددهم حوالي مليونين) يفاخرون بتحالفهم مع الصين الماوية (نحن والصين 500 مليون في العالم) ويستعدون لإطلاق "الثورة الثقافية" على النمط الماوي في أوربا ، ولذلك كانت "الضربة القاضية" لألبانيا تعني إحراج الصين ثم الاتحاد السوفييتي الذي ما كان ليتدخل للدفاع عن ألبانيا التي كانت تهاجمه ليل نهار عبر "راديو تيرانا".

 في هذا السياق من "التسخين" للحرب الباردة يشير المؤلف إلى تطور مهم حدث في ستينات القرن الماضي حين انتقلت المواجه إلى الفضاء ، حيث سجل الاتحاد السوفييتي في 1961 انتصارا مدويا بإرسال أول مركبة تحمل رائد فضاء (يوري غاغارين) دارا حول الكرة الأرضية وعادت به سالما ليتحول إلى رمز عالمي ، وهو ما دفع الولايات المتحدة تستنفر وترد على ذلك بالسبق بإنزال أول رائد فضاء على سطح القمر ورفع العلم الأمريكي هناك في 1969 .

 ومن ناحية أخرى يركز المؤلف على تطورات السبعينات ، التي شهدت انقلابا في الحرب الباردة بقيام الرئيس الأمريكي نيكسون بزيارة الصين في 1972 مستغلا العداء الاديولوجي بين حلفاء الأمس (الاتحاد السوفيتي والصين) ، وهو ما ساعد الصين لاحقا إلى أن تخفف الاديولوجيا ضد "الامبريالية الأمريكية" وتهتم بالاقتصاد لتتحول إلى ثاني اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي مع استمرار احتكار الحزب الشيوعي للحكم هناك .

 في الوقت نفسه يركز المؤلف على تجربة رائدة انتهت إلى الفشل في الاتحاد السوفييتي في الثمانيات التي حملت تطورات جديدة وشخصيات مختلفة عن أمثال بريجنيف . كان الأمل بوصول ميخائيل غورباتشوف إلى قيادة الحزب وإعلانه للبيروسترويكا في 1985 ، والذي اختار دول البلطيق (استونيا ولاتفيا وليتوانيا) كساحة مواجهة جديدة لتخفيف الاديولوجيا وتنشيط الاقتصاد . مع "الموديل الاستوني" ، الذي كان يواجه النرويج بلد المؤلف ، شاء غورباتشوف أن يخفف القيود الاديولوجية ويشجع الأفراد على فتح مشاريع صغيرة (كما حدث في الصين لاحقا) تمثلت أولا في كافتريات ومطاعم صغيرة تقدم فطائر اللحم التترية . صحيح أن التجربة نجحت ، ولكن المؤلف يشير هنا بوع من التندر ، إلى أن هذا جاء في وقت متأخر حيث أن الناس كانوا يخرجون في أوربا الغربية للعشاء في المطاعم الجيدة بينما كان الناس في استونيا يخرجون وينتظرون في الطوابير للحصول على فطيرة لحم أمام هذه المطاعم الصغيرة .

هذه التجربة المتواضعة تجاوزتها الأحداث الجارفة في أوربا الشرقية ، وبالتحديد مع سقوط جدار برلين في تشرين الثاني/نوفمبر 1989 وإعدام تشاوسكو وزوجته في عيد الميلاد 1990 وصول إلى اندفاع بوريس يلتسين (تحت تأثير الفودكا كما يقول) لإعلان انحلال الاتحاد السوفييتي في 1991 لتنتهي بذلك حقبة "الحرب الباردة" التي ميزت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية .

 ونظرا لأن الكتاب صدر في ايلول/ سبتمبر 2017 ، أي بعد ما انشغل الغرب بمواجهة "العدو الجديد" (الإرهاب الاسلامي) في السنوات الأخيرة سواء في أراضيه أو في أراضي "الدولة الاسلامية" ، فلا يفوت المؤلف أن ينوه هنا إلى ما وراء هذه الموجة الصاعدة عند المسلمين (الغضب من الامبريالية الأمريكية و رد الفعل على  العولمة ) وأن يصل إلى أن "الارهاب الاسلامي" يجعل التنافس السابق بين الشرق والغرب تحت التحكم manageable بين الطرفين .

 كتاب وستد يأتي في وقته ليعرّفنا بشكل مختلف على الحرب الباردة وعلى ارتباط الماضي القريب (الخطر من الشيوعية) بالحاضر (الخطر من الاسلاموية) مع مسؤولية الغرب عن ذلك مما يجعله مغريا للترجمة إلى العربية .

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.